تحديات ومآلات الأزمة السياسية في بيرو
27-10-2025

نورهان أبو الفتوح
* باحثة فى العلوم السياسية

شهدت بيرو خلال العقد الأخير اضطرابات سياسية متلاحقة، عكست هشاشة النظام السياسي وضعف التوازن بين السلطات، حيث تكررت حالات عزل الرؤساء، وتصاعدت الخلافات بين السلطتين التنفيذية والتشريعية بشكل بات يهدد استقرار الدولة ومؤسساتها. فمنذ عام 2016، تعاقب على الرئاسة في بيرو عدد كبير من الرؤساء، بعضهم لم يكمل عامًا في الحكم، في ظل توترات سياسية حادة، واتهامات بالفساد، وسوء الإدارة. وقد تكلّلت هذه الأزمة بحدثين مفصليين: عزل الرئيس بيدرو كاستيو في ديسمبر 2022، وتولي نائبته دينا بولوارتي مقاليد الحكم(1)، ثم عزلها هي الأخرى في 10 أكتوبر 2025 على خلفية احتجاجات متصاعدة وتهم بإساءة استخدام السلطة(2).

يمثل هذا التسلسل السريع في تغير القيادة، ليس فقط حالة من عدم الاستقرار السياسي، بل مؤشرا عميقا على أزمة ثقة بين المواطنين والنظام السياسي ككل. كما يعكس إخفاق الأحزاب والنخب السياسية في بناء توافقات وطنية أو إرساء قواعد حكم فعالة ومستقرة. وتكتسب هذه الأزمة أهمية خاصة لما تثيره من تساؤلات حول مستقبل الديمقراطية في بيرو، وقدرة مؤسساتها على الصمود، وسط تحديات اجتماعية واقتصادية متفاقمة.

في هذا السياق تبرز الحاجة إلى تحليل جذور الأزمة السياسية في بيرو، وفهم التحديات البنيوية التي تواجهها البلاد، واستشراف السيناريوهات المحتملة لمآلات هذه الأزمة، سواء على صعيد النظام السياسي أو استقرار الدولة والمجتمع.

أولًا- الأزمة في بيرو.. السياق السياسي والمشهد المؤسسي:

مرت بيرو بموجة من عدم الاستقرار السياسي منذ عام 2016، حيث تولى ستة رؤساء الحكم في فترة زمنية لا تتجاوز العشر سنوات. هذا التناوب السريع يعكس هشاشة النظام السياسي، لا سيما مع بروز ظاهرة "العزل البرلماني" التي تُستخدم بموجب بند مثير للجدل في الدستور يعرف بـ"العجز الأخلاقي الدائم"، ويسمح هذا البند للبرلمان، في أكثر من مناسبة، بعزل رئيس منتخب دون الحاجة إلى دليل جنائي مباشر، مما أضعف من استقرار النظام الديمقراطي، وفيما يلي استعراض لسياق الأزمة السياسية في بيرو.

1- سقوط "فوجيموري" والانتقال الديمقراطي للسلطة:

بعد انهيار نظام الرئيس ألبرتو فوجيموري الذي وصف بالاستبدادي عام 2000، بدا أن بيرو مقبلة على مرحلة جديدة من الحكم الديمقراطي. تولّت حكومة انتقالية بقيادة فالنتين بانياغوا زمام الأمور، وشرعت في اتخاذ خطوات حاسمة لترميم النظام السياسي واستعادة ثقة المواطنين. شملت هذه الإجراءات إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وتأسيس لجنة الحقيقة والمصالحة للتحقيق في الانتهاكات التي وقعت خلال سنوات النزاع المسلح الداخلي، بالإضافة إلى سنّ قوانين تضمن نزاهة العملية الانتخابية. وفي هذا السياق، فاز أليخاندرو توليدو، ذو الأصول الاجتماعية المتواضعة والخلفية الإثنية الأصلية، في انتخابات عام 2001.

خلال السنوات الخمس عشرة التالية، شهدت بيرو تداولًا سلميًا على السلطة بين رؤساء منتخبين، وسط نمو اقتصادي ملحوظ ساهمت فيه الطفرة العالمية في أسعار المواد الأولية، إلى جانب سياسات اقتصادية ليبرالية جذبت الاستثمارات الأجنبية وضمنت التوازن المالي للدولة. ومع ذلك فإن هذا الاستقرار الظاهري أخفى خلفه هشاشة بنيوية عميقة، إذ بدأت تظهر ملامح أزمة سياسية واجتماعية مع تآكل شعبية كل رئيس فور توليه الحكم، على خلفية اتهامات بالفساد وعجز عن تقليص الفجوات الاجتماعية الحادة بين فئات المجتمع.

2- عودة الاضطراب السياسي وانهيار الثقة بين المؤسسات:

رغم الإصلاحات التي رافقت التحول الديمقراطي، بقي الدستور الذي وضعه فوجيموري عام 1993 ساريًا، محتفظًا بآليات تمنح سلطات واسعة للرئيس والبرلمان على حد سواء، مما أسهم في إنتاج أزمات مؤسسية متكررة. فقد أُبقي على النموذج النيابي أحادي الغرفة، كما حافظ الدستور على مواد مثيرة للجدل، مثل السماح بحل البرلمان بعد تصويتين بحجب الثقة (المادة 134)، وتمكين الكونجرس من عزل الرئيس لأسباب مبهمة مثل "العجز الأخلاقي الدائم" (المادة 113). هذه البنود أصبحت لاحقًا أدوات للصراع السياسي بدلًا من ضمان الاستقرار المؤسسي.

تجلّت خطورة هذا الوضع بشكل حاد في انتخابات 2016، حين حصل حزب "قوة الشعب" اليميني، بقيادة كيكو فوجيموري على غالبية مقاعد البرلمان، بينما فاز الاقتصادي الليبرالي بيدرو بابلو كوتشينسكي بالرئاسة بفارق ضئيل. وبدأ صراع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، تحوّل فيه الدستور إلى سلاح تستخدمه كل جهة للإطاحة بالأخرى(3).

3- بيدرو كاستيو.. من الانتخابات إلى الانقسام:

تعاقب على حكم بيرو خلال سبع سنوات فقط ستة رؤساء على حكم البلاد، لم يُنتخب منهم سوى اثنين: كوتشينسكي وبدرو كاستيّو، وكلاهما لم يُكمل عامين في منصبه. ومع وصول كاستيو ذى التوجه اليساري إلى الرئاسة في 2021، بلغت الأزمة ذروتها، إذ دخلت البلاد في حالة صدام دائم بين الرئاسة والكونجرس، وسط اتهامات متبادلة بالفساد وسوء الإدارة، إذ واجه كاستيو عدة محاولات للعزل خلال فترة قصيرة، تزامنت مع تحقيقات في مزاعم فساد داخل إدارته. وعلى الرغم من أنه نجا من هذه المحاولات لفترة، فإن الصراع السياسي المحتدم والتآكل المتواصل في الثقة بين المؤسسات أضعف سلطته بشكل كبير.

في لحظة مفصلية بتاريخ 7 ديسمبر 2022، أعلن كاستيو بشكل مفاجئ عن حل الكونجرس وفرض حالة الطوارئ، والدعوة إلى إعادة تشكيل النظام السياسي عبر جمعية تأسيسية. وقد اعتُبر هذا الإعلان من قبل خصومه ومراقبين بمثابة محاولة انقلابية. وجاء رد الفعل من الكونجرس سريعًا؛ حيث اجتمع أعضاؤه على الفور وصوتوا بأغلبية على عزله من منصبه، ومن ثم تم اعتقال كاستيو وهو في طريقه إلى السفارة المكسيكية لطلب اللجوء(4).

4- تولي بولوارتي.. احتجاجات دامية ومواجهات عنيفة:

تولت دينا بولوارتي التي كانت تشغل منصل نائب الرئيس كاستيو الحكم بعد عزله بموجب الترتيب الدستوري، وعلى الرغم من تغيير السلطة إلا أن صعودها للرئاسة لم يُنظر إليه كحل توافقي، بل فُسر على نطاق واسع كامتداد للمنظومة السياسية التي كانت تواجه غضبًا شعبيًا متصاعدًا، وهو ما أشعل موجات احتجاج عارمة، خاصة في الجنوب والمناطق الإنديزية ذات الأغلبية من السكان الأصليين الذين رأوا في كاستيو صوتًا ناطقًا باسم المهمشين، وخرج المتظاهرون مطالبين باستقالة بولوارتي، وحلّ الكونجرس، والعودة إلى صناديق الاقتراع عبر انتخابات مبكرة، وامتد الحراك إلى الطرقات العامة، حيث أُغلقت مداخل المدن، وتوقفت الأنشطة التجارية، وتحوّلت المظاهرات السلمية في عدة مناطق إلى مواجهات عنيفة. وردّت السلطات برد أمني قاسٍ، شمل إطلاق النار، لا سيما في مناطق، مثل بونو وجوليكا، حيث سقط العشرات من القتلى.

جدير بالذكر أنه حين تولّت دينا بولوارتي الرئاسة خلفًا لبيدرو كاستيّو في ديسمبر 2022، كانت أول امرأة تتولى هذا المنصب في تاريخ بيرو. ورغم أن انتقال السلطة تم دستوريًا، إلا أن الشكوك حول شرعية ولايتها كانت حاضرة منذ البداية، خاصة أنها لم تُنتخب شعبيًا للمنصب، بل ورثته من موقعها كنائبة للرئيس، لذا واجهت بولوارتي منذ اليوم الأول موجات من الرفض الشعبي، خاصة من المناطق الريفية التي دعمت كاستيّو، واعتبرت أن استبعاد الأخير تم بدوافع سياسية لا قانونية(5).

5- بيرو.. هدوء نسبي واستقرار مؤقت:

مع حلول مارس 2023، بدأت حدة التظاهرات تخف تدريجيًا، بفعل الاستنزاف الاقتصادي والاجتماعي، لكن جذور السخط لم تختفِ. اتجهت بولوارتي نحو بناء تحالف سياسي مع القوى المحافظة في الكونجرس، مما مكّنها من الحفاظ على سلطتها رغم رفض قطاعات واسعة من الشارع لها، فيما دعمتها المؤسسة العسكرية والأمنية.

على الرغم من انحسار التظاهرات في الشوارع، إلا أن بيرو عاشت تحت وطأة استقطاب حاد بين المركز السياسي في ليما، والمناطق المهمشة في الجنوب والمرتفعات، حيث شعر كثير من البيروفيين أن أصواتهم لا تجد صدى في دوائر صنع القرار، في ظل برلمان غير شعبي، ونظام سياسي يُنظر إليه على أنه يعيد إنتاج نفسه بشكل دائم دون تجديد حقيقي.

وبينما كانت الأنظار تتجه إلى انتخابات عام 2026 فقد ظل الطريق نحو الاستقرار يظل محفوفًا بالمخاطر، حيث كان التهديد الحقيقي يكمن في استمرار الحكومة في تجاهل المطالب الشعبية بالإصلاح، وعدم المبادرة إلى فتح قنوات حوار فعلية مع ممثلي المجتمعات المتضررة.

6- بولوارتي.. عودة الاحتجاجات وتصاعد الاتهامات:

أدت سياسة بولوارتي إلى توجيه الشعب اتهامات لها بالفساد والحصول على ساعة فاخرة ومجوهرات، والاتهامات بإثراء غير مشروع، وكذلك الجدل حول غيابها عن بعض المهام الرسمية والإجراءات التي اتخذتها الحكومة في مواجهة الاحتجاجات الغاضبة. رغم ذلك تم تعليق التحقيقات ضدها مؤقتًا من قبل المحكمة الدستورية حتى نهاية ولايتها، مما أثار جدلا كبيرًا.

وفي عامي 2024 و2025، تصاعدت موجات الغضب الشعبي بسبب تزايد الجريمة المنظمة والقتل، والشعور بعدم الأمان، وتجددت الاحتجاجات، لا سيما بين الشباب الذين شكّلوا أحد المحركات القوية للحراك المناهض للحكومة، وقد كان التي حادث إطلاق نار في حفل موسيقي في ليما، والذي أدى إلى إصابات، أحد الأحداث أدت إلى تجدد الغضب الشعبي وزاد من المطالب بعزل بولوارتي(6).

7- هدوء مؤقت.. عزل بولوارتي وانتقال السلطة: 

صوت الكونجرس البيروفى في  10 أكتوبر 2025،  بأغلبية ساحقة على عزل دينا بولوارتي من الرئاسة بتهمة "العجز الأخلاقي الدائم"، وتمت العملية بعد رفضها المثول أمام جلسة استنطاق لتقديم دفاعها. وصوت 122 من أصل 130 نائبًا لصالح عزلها، دون معارضة تُذكر، بينما أعلن رئيس الكونجرس خوسيه جيري تولّيه منصب الرئاسة بالوكالة حتى إجراء الانتخابات المقررة في أبريل 2026(7).

أدى خوسيه جيري اليمين الدستورية رئيسا للبلاد، حيث وعد بإعادة بناء الثقة، وتعزيز الأمان، وإنهاء الانقسامات العميقة التي اجتاحت البلاد، كما أكد أنه سيدافع عن سيادة بيرو وسيسلم السلطة للفائز في الانتخابات التي ستجرى في أبريل. وأشار جيري إلى أن ليما تستعد لحزمة من التدابير لمعالجة انعدام الأمن المتزايد(8).

ثانيًا- تفاقم الأزمة خلال حكم بولوارتي.. أسباب عدة:

شهدت بيرو خلال حكم الرئيسة دينا بولوارتي تصاعدًا حادًا في حدة الأزمة السياسية والاجتماعية التي تعاني منها البلاد. فبدلا من تهدئة الأوضاع بعد عزل سلفها، تفاقمت الاحتجاجات واتسعت رقعة الاضطرابات، مدفوعة بعدة عوامل داخلية وخارجية، من أبرزها الانقسامات السياسية، وانعدام الثقة بالمؤسسات، واستخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين.

1- تدهور الأمن وتصاعد الجريمة:

خلال فترة رئاسة بولوارتي، شهدت البلاد تصاعدًا غير مسبوق في معدلات الجريمة المنظمة والاغتيالات. فقد بلغ عدد جرائم القتل في بيرو بين يناير وأغسطس 2025 أكثر من 6,000 حالة، وهو أعلى رقم خلال الفترة نفسها منذ عام 2017. وفي الوقت نفسه، بلغ إجمالي شكاوى الابتزاز 15989 بين يناير ويوليو، بزيادة قدرها 28% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024. وهو ما دفع بالرأي العام إلى تحميل الحكومة مسئولية الفشل الأمني، وترافق هذا التدهور مع عمليات عنف دامية، من أبرزها هجوم مسلح خلال حفل موسيقي شعبي في ليما، أثار غضبًا واسعًا وساهم في تسريع إجراءات العزل(9).

2- اتهامات الفساد وقضية “رولكس جيت”:

شكّل الفساد أحد العوامل المفصلية التي عمّقت أزمة الثقة بين المواطنين والطبقة السياسية في بيرو، وتجسّد ذلك بوضوح في الفضيحة المعروفة إعلاميًا باسم "رولكس جيت"، التي طالت الرئيسة دينا بولوارتي. فقد أثار الكشف عن امتلاكها ساعات ومجوهرات فاخرة –أبرزها ساعة رولكس باهظة الثمن– دون أن تُدرَج في إقراراتها المالية، موجة غضب واسعة في الأوساط الشعبية والإعلامية. وجاءت هذه الفضيحة في وقت تعاني فيه البلاد من أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة، مما ضاعف من وقعها على الرأي العام، وأعطى انطباعًا بأن القيادة السياسية تعيش في بعد تام عن معاناة المواطنين.

وقد تحولت القضية من مجرد جدل إعلامي إلى مسار قضائي رسمي، إذ قامت النيابة العامة بتفتيش منزل بولوارتي ومكتبها الرئاسي بحثًا عن أدلة، كما طالبت برفع الحصانة الرئاسية عنها للتحقيق في شبهات الإثراء غير المشروع. وأدى الطابع الشخصي والفاضح للقضية إلى تحويلها إلى رمز لفشل الدولة في ترسيخ مبادئ الشفافية والمحاسبة، وهو ما زاد من الاحتقان الشعبي ودفع كثيرين إلى النزول إلى الشوارع للمطالبة برحيل بولوارتي(10).

3- فقدان الشرعية السياسية والشعبية:

شهدت الرئيسة دينا بولوارتي تراجعًا غير مسبوق في شعبيتها منذ توليها الحكم، حيث أظهرت استطلاعات الرأي تدهورًا مستمرًا في نسبة الرضا عن أدائها. وفي استطلاع نُشر في مايو 2025 عن طريق معهد IPSOS  بيرو، بلغت نسبة التأييد لبولوارتي 2% فقط، وهي واحدة من أدنى نسب القبول الشعبي التي سُجلت لرئيس في تاريخ بيرو الحديث. وقد عكست هذه النتيجة حجم السخط الشعبي تجاه إدارتها، في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية، وتزايد معدلات العنف، واستمرار الإحساس بانعدام العدالة الاجتماعية.

إلى جانب الأزمات المعيشية والأمنية، ساهمت مواقف بولوارتي السياسية في زيادة عزلتها، خاصة رفضها المتكرر الدعوات إلى تنظيم انتخابات مبكرة، وهو ما اعتبره كثير من المواطنين تجاهلًا صارخًا للمطالب الشعبية، ورفضًا للانصياع لمبدأ التداول الديمقراطي للسلطة(11).

4- الاشتباك بين السلطات وتأزّم الوضع الدستوري:

كانت العلاقة بين بولوارتي والبرلمان متوترة باستمرار، إذ حاولت الحكومة تحدي صلاحيات البرلمان، بينما استمر الأخير في الضغط لعزلها. وفي أغسطس 2025، قرر القضاء وقف التحقيقات الجنائية بحق بولوارتي مستندًا إلى الحصانة الدستورية التي تمنع محاكمة الرئيس أثناء فترة تولّيه الحكم. إلا أن البرلمان، في خطوة تصعيدية، قرر مساءلة الرئيسة سياسيًا، وفعّل آلية العزل.

ثالثًا- عزل بولوارتي وتنصيب جيري.. تحديات متعددة:

في العاشر من أكتوبر 2025، صوّت البرلمان البيروفي بأغلبية ساحقة على عزل الرئيسة بولوارتي، استنادًا إلى "عجز أخلاقي دائم"، وهو البند ذاته الذي أطاح برؤساء سابقين. رفضت بولوارتي حضور جلسة العزل، معتبرة أن الإجراء غير دستوري، وتولى رئيس البرلمان، خوسيه جيري، مهام الرئاسة بشكل مؤقت، متعهدًا بإجراء انتخابات عامة في أبريل 2026، ضمن مسعى لتهدئة الشارع واستعادة الاستقرار. وقد شهدت شوارع العاصمة ليما ومدن الجنوب احتفالات، بينما خرج البعض في مظاهرات للمطالبة بمحاسبة بولوارتي جنائيًا أيضًا، لا مجرد إزاحتها سياسيًا(12).

وعلى الرغم من عزل بولوارتي إلا أن التحديات لم تنتهِ، حيث يجد الرئيس المؤقت الجديد نفسه في وضع معقد للغاية، حيث ورث سلطة مرتبكة، وشعبًا غاضبًا، ومؤسسات ضعيفة تعاني من أزمة ثقة مزمنة. وتتمثل أبرز التحديات التي تواجهه فيما يلي:

·استعادة الشرعية والثقة الشعبية:

يُعد استرجاع الثقة الشعبية أبرز وأعقد التحديات التي تواجه الرئيس المؤقت الجديد، جيري، في أعقاب عزل دينا بولوارتي. فالأزمة السياسية المتواصلة منذ سنوات عمّقت الفجوة بين الشعب والمؤسسات، وبات قطاع واسع من البيروفيين يعتبر أن النظام السياسي لا يُمثّلهم، بل يعيد إنتاج نفسه عبر نخب تتبادل الأدوار في الحكم دون اعتبار فعلي لإرادة الناخبين. وقد كشفت التجربة مع الرئيس الأسبق بيدرو كاستيو، الذي جاء من خارج النخبة السياسية التقليدية، عن توق شعبي واضح نحو التغيير. لكن عزله بسرعة، ثم تولّي بولوارتي عزز القناعة بأن السلطة لا تُعبّر عن خيارات الشعب، بل تُدار بمنطق الصفقات المؤسسية.

في هذا السياق لن تكون استعادة الشرعية مجرد مسألة رمزية، بل تتطلب إجراءات عملية وقرارات سياسية واضحة تُظهر التزام الرئيس المؤقت بفتح صفحة جديدة، تحتوي على إجراءات عملية أبرزها انتخابات شفافة، وضمان مشاركة واسعة لكافة التيارات السياسية، وفتح قنوات حوار مع الحركات الاجتماعية والمجتمع المدني، لا سيما في المناطق الفقيرة والريفية التي لطالما شعرت بالتهميش.

·ضبط الأمن ومواجهة انفلات الجريمة:

تعد الأوضاع الأمنية المتدهورة في بيرو من أكثر الملفات إلحاحًا على مكتب جيري، فقد شهدت بيرو في العام الأخير ارتفاعًا غير مسبوق في معدلات العنف والجرائم المنظمة، مما دفع بقطاعات واسعة من الشعب للمطالبة بحكومة قوية تفرض النظام. لكنه، في الوقت ذاته، لا يستطيع اللجوء إلى القمع أو استخدام مفرط للقوة خشية إعادة إنتاج الانتقادات نفسها التي وُجهت لبولوارتي أثناء الاحتجاجات، ويكمن التحدي الذي يواجه جيري في تحقيق توازن صعب بين توفير الأمن واحترام الحقوق المدنية، خاصة في المدن الكبرى، مثل ليما، والمناطق الجنوبية المتوترة.

·إدارة المرحلة الانتقالية وتنظيم الانتخابات:

منذ لحظة توليه أعلن جيري أنه سيشرف على انتخابات عامة في أبريل 2026. إلا أن تنظيم انتخابات حرة ونزيهة في مناخ سياسي محتقن ومجتمع منقسم ليس بالأمر السهل. ولذلك سيتعين عليه أولا ضمان الاستقرار الأمني الكافي لإجراء الانتخابات، ثم التفاوض مع مختلف الأطراف السياسية حول الإطار الزمني والقانوني لها، مع تأمين إشراف دولي لمراقبة العملية ومنحها المصداقية المطلوبة. ويعد هذا الملف الأساسى نقطة شائكة في مصير جيري حيث إن أي فشل أو تأجيل في هذا المسار قد يعيد البلاد إلى مربع الأزمة، ويثير الشكوك حول نوايا الحكومة الانتقالية.

 ·التعامل مع تركة بولوارتي القانونية والسياسية:

رغم أن بولوارتي غادرت الحكم، إلا أن ملفاتها لم تغلق بعد، إذ إن هنالك دعاوى وشكاوى متعلقة باستخدام العنف ضد المتظاهرين، وقضايا فساد مالي لا تزال قيد التحقيق. وقد يُطالب الشارع بمحاكمات علنية لها، وقد تكون هناك ضغوط داخلية وخارجية تطالب بإغلاق هذه الملفات أو متابعتها قضائيًا. ومن هنا سيجد جيري نفسه بين ضغوط العدالة الانتقالية ومخاوف من تأزيم الوضع السياسي أكثر إذا تم استخدام هذه الملفات لتصفية الحسابات، كما أنه سيتعين عليه احترام استقلال القضاء، مع الحرص على ألا تتحول هذه القضايا إلى أدوات للتجاذب السياسي أو الانتقام.

  ·الإصلاح المؤسسي والدستوري للبلاد:

تواجه بيرو إشكالات دستورية تتعلق بتوزيع الصلاحيات، خاصة في ما يخص قدرة البرلمان على عزل الرئيس دون معايير صارمة، وقد يعزى تكرار هذه الأزمة إلى خلل في البنية الدستورية نفسها، لذلك فإنه من المتوقع أن يعطي الرئيس المؤقت أولوية لإطلاق مبادرات للحوار الوطني بشأن إصلاح النظام السياسي والدستوري، أو على الأقل تمهيد الطريق للرئيس المنتخب لاحقًا لإطلاق هذه الورشة الإصلاحية.

  ·الضغط الاجتماعي والاحتجاجات الشعبية:

يمكن أن يواجه الرئيس الجديد موجات احتجاجية، سواء من أنصار بولوارتي الذين يرون عزلها انقلابًا سياسيًا، أو من الحركات الاجتماعية والشعوب الأصلية التي تطالب بإصلاحات اجتماعية واقتصادية، ولا تثق في أي رئيس قادم من المؤسسة السياسية التقليدية. وقد تشتد هذه الاحتجاجات مع أي تأخير في وعود الانتخابات أو إذا ما اتخذ قرارات يُنظر إليها على أنها استمرار لنهج بولوارتي.

رابعًا- بيرو.. بين احتمالات التغيير ومخاطر الانهيار:

تواجه بيرو اليوم مفترق طرق حاسمًا، وسط حالة من التوتر السياسي والاجتماعي غير المسبوقين، خلّفها تراكم الأزمات، وتكرار سيناريوهات العزل الرئاسي، وتراجع ثقة الشارع في الطبقة السياسية. في هذا السياق يبدو المشهد مفتوحًا على أكثر من مسار، يتراوح بين إمكانية استعادة المسار الديمقراطي من جهة، وخطر الغرق في مزيد من الفوضى والانقسام من جهة أخرى.

يتمثل السيناريو الأكثر تفاؤلًا في نجاح الحكومة المؤقتة بتنظيم انتخابات حرة ونزيهة، تحت إشراف دولي ومحلي يضمن الشفافية ويعيد قدرًا من الثقة في العملية السياسية، ويتطلب هذا السيناريو إرادة سياسية حقيقية، وإصلاحات قانونية عاجلة تضع حدًا للتلاعب الانتخابي وتضمن تمثيلًا أكثر عدالة للقوى الاجتماعية المختلفة، خاصة تلك التي طالما شعرت بالتهميش في الدولة المركزية. ومن شأن النجاح في هذا الاتجاه أن يعيد بيرو إلى مسار الاستقرار، ويفتح الباب لحوار وطني واسع حول مستقبل النظام السياسي وآليات الحكم، وربما حتى نحو صياغة دستور جديد يُلبي تطلعات المجتمع البيروفي.

لكن في المقابل لا يمكن استبعاد سيناريو الاستمرار في حالة الانسداد السياسي، لا سيما إذا عجزت السلطات المؤقتة عن تحقيق الحد الأدنى من الأمن والاستجابة للمطالب الشعبية. فاستمرار الاحتجاجات الشعبية، في ظل غياب حلول حقيقية، قد يؤدي إلى انفجار اجتماعي جديد يعيد مشاهد العنف والاضطراب إلى الشوارع، ويُدخل البلاد في دوامة من الفوضى السياسية، خاصة مع تفاقم أزمة الثقة في مؤسسات الدولة. مثل هذا الواقع قد يدفع ببعض الأطراف إلى البحث عن حلول خارج الإطار الديمقراطي، سواء عبر تدخل الجيش أو من خلال صعود تيارات شعبوية تستغل السخط العام لصالح أجندات ضيقة.

في خضم هذه الاحتمالات، يظل ملف الرئيسة دينا بولوارتي حاضرًا كعامل حاسم في رسم ملامح المرحلة المقبلة. إذ إن إعادة فتح ملفات الفساد والانتهاكات المرتكبة خلال فترة حكمها قد يفضي إلى محاكمتها بعد انتهاء ولايتها، وهو ما سيكون سابقة مهمة في تاريخ بيرو الحديث، قد تسهم في ترسيخ مبدأ المساءلة وتعزيز استقلال القضاء. لكن في حال تم تجاهل هذه الملفات أو جرت تسويتها سياسيًا، فإن ذلك سيُعمّق الإحساس العام بانعدام العدالة، ويُرسخ فكرة الإفلات من العقاب، وهو ما من شأنه أن يزيد من غضب الشارع ويؤجج مشاعر الغبن والتهميش لدى قطاعات واسعة من المواطنين، لا سيما أولئك الذين فقدوا أبناءهم خلال موجات القمع الأمني.

وعلى المدى البعيد بات من الواضح أن الأزمة البنيوية في النظام السياسي البيروفي لا يمكن تجاوزها من دون مراجعة جذرية للدستور الحالي، الذي أثبت قصوره في تنظيم العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. إذ تُستخدم آلية العزل السياسي بصورة متكررة، في كثير من الأحيان، كسلاح سياسي لا كأداة دستورية للمساءلة. لذا فإن الإصلاح الدستوري بات ضرورة، وليس مجرد خيار، لإعادة صياغة التوازن بين السلطات، وتقييد أدوات الصراع الحزبي، وضمان استقرار المؤسسات. كما أنه من الأهمية بمكان التفكير في تعزيز استقلال القضاء، وتوسيع آليات الرقابة الشعبية على أداء المسئولين، وإيجاد صيغ جديدة للمحاسبة تتجاوز الحسابات السياسية الضيقة.

في هذا المشهد المعقّد، لا يمكن تجاهل دور العامل الخارجي، سواء عبر الضغط الدولي لاحترام الديمقراطية وحقوق الإنسان، أو من خلال الدعم الفني والمالي الذي قد يساعد في تنظيم انتخابات شفافة أو دعم مؤسسات الرقابة. إلا أن الدور الحاسم سيظل داخليًا، مرهونًا بمدى استعداد النخب السياسية للاستماع لصوت الشارع والانخراط في عملية إصلاح حقيقية تتجاوز منطق المصالح الآنية نحو تصور وطني شامل لمستقبل البلاد.

ختاما، يمكن القول إن أزمة عزل دينا بولوارتي تمثل فصلًا جديدًا في مسلسل الاضطراب السياسي الذي تعيشه بيرو منذ سنوات. فالعزل لم يكن مجرد نهاية لولاية قصيرة، بل كشف عن أزمات أعمق تتعلق بضعف المؤسسات، وفساد النخبة، وتراجع ثقة المواطنين. ورغم أن استبدال الرئيسة قد يُنظر إليه كخطوة نحو تصحيح المسار، إلا أن التحدي الحقيقي يكمن في إصلاح النظام نفسه، وليس فقط تغيير الوجوه.

ومن هذا المنطلق يظل استقرار بيرو السياسي مرهونا بقدرتها على إجراء انتخابات شفافة، والمضي في مسار إصلاحي يضمن الفصل بين السلطات، ويحارب الفساد، ويستجيب لمطالب الفئات المهمشة. وبدون هذه الخطوات، قد تبقى البلاد عالقة في حلقة مفرغة من العزل، والاحتجاج، والتراجع المؤسسي، خاصة وأن الرئيس خوسيه جيري لا يملك ترف الوقت ولا هامشًا كبيرًا للمناورة. فنجاحه يعتمد على قدرته في إدارة مرحلة انتقالية معقدة، يتطلب فيها أن يكون رجل توازنات: حاسمًا دون قسوة، إصلاحيًا دون تسرع، وجامعًا دون انحياز.

الهوامش:

[1]-Claudia Rebaza, Tara John,Peru’s President impeached and arrested after he attempts to dissolve Congress, CNN, December 8, 2022. Available at: https://edition.cnn.com/2022/12/07/americas/peru-president-castillo-congress-dissolves-intl

2-Jessica Rawnsley, Peru's president removed from office amid soaring crime, BBC, October 10, 2025, Available at: https://www.bbc.com/news/articles/c1edw3x6vl2o

3- Unrest on Repeat: Plotting a Route to Stability in Peru, International Crisis Group, February 8, 2024, Available at: https://www.crisisgroup.org/latin-america-caribbean/peru/104-unrest-repeat-plotting-route-stability-peru

4- Alicia del Aguila, The roots of political conflict in Peru, The Loop, January 22, 2023, Available at: https://theloop.ecpr.eu/the-roots-of-perus-political-conflict-in-peru/

5- Marc Jütten,Political turmoil in Peru, European ParliamentThink Tank, April 13, 2023, Available at: https://www.europarl.europa.eu/thinktank/en/document/EPRS_ATA(2023)747092

6- Renzo Gómez Vega,Peru’s Congress votes to remove Dina Boluarte,  EL PAÍS, October 10, 2025, Available at: https://english.elpais.com/international/2025-10-10/perus-congress-votes-to-remove-dina-boluarte.html

7- Ibid

8- FRANKLIN BRICEÑO, Peru’s president refuses to resign after Gen Z protests leave at least 1 dead, 100 injured, AP News, October 17, 2025, Available at: https://apnews.com/article/peru-gen-z-protest-corruption-boluarte-jose-jeri-tiktok-alvarez-7ff662cbe439879be7ca0f6f7aae6e87

9- FRANKLIN BRICEÑO, Peru’s Congress removes President Boluarte as a crime wave grips the country, AP News, October 10, 2025, Available at: https://apnews.com/article/peru-president-boluarte-impeachment-crime-shooting-concert-d3bc438bdec704c0c2bd21ef981f95eb

10- Dan Collyns, Peru president Dina Boluarte under pressure amid ‘Rolexgate’ scandal, The Guardian, April 2, 2024, Available at: https://www.theguardian.com/world/2024/apr/02/peru-president-dina-boluarte-rolex

11- Ipsos Perú, May 13, 2025, Available at: https://x.com/ipsosperu/status/1922315949438349498

12- Jessica Rawnsley, Idim


رابط دائم: