سوريا بين توازن القوى وصراع النفوذ الإقليمي والدولي
27-10-2025

د. محمد إبراهيم حسن فرج
* دكتوراه العلوم السياسية- كلية الاقتصاد والعلوم السياسية،جامعة القاهرة

تُعدّ الأزمة السورية واحدة من أبرز التحولات الجيوسياسية في الشرق الأوسط المعاصر، حيث تحولت منذ عام 2011 من حراكٍ داخليٍّ محدود المطالب إلى صدام متعدد المستويات بين الدولة ومكوّناتها، ومن ثمّ بين الفاعلين الإقليميين والدوليين. ومع انهيار بنية الدولة المركزية، وامتداد النفوذ الأجنبي داخل الأراضي السورية، باتت سوريا مسرحًا لتجريبِ موازين قوة جديدة داخل الإقليم، مما جعل استعادتها للاستقرار رهينة لتفاهماتٍ خارجية أكثر من إرادةٍ وطنية.

اليوم تواجه دمشق ليس فقط تحدّي استعادة سيادتها الكاملة، بل أيضا واقعا جديدا من الاحتلال والتدخل المباشر: إذ لا يقتصر الأمر على استمرار احتلال هضبة الجولان من قِبل إسرائيل منذ عام 1967، بل هناك تضخّمٌ في عمليات السيطرة والتوغل الإسرائيلي إلى أجزاء من الجنوب السوري بحجج الأمن القومي الإسرائيلي، الأمر الذي يضع الدولة السورية أمام معادلة مزدوجة: استعادة الأراضي المحتلة من جهة، وإعادة تأسيس سياسة خارجية فاعلة تستعيد دورها في بيئة إقليمية ودولية متغيرة من جهةٍ أخرى.

وعليه، باتت سياسة دمشق الخارجية اليوم ترتكز على محاولة تحقيق ثلاثية دقيقة: أولا، تأكيد شرعية الدولة السورية في استعادة وحدتها الإقليمية وجميع أراضيها، بما في ذلك الجولان والمناطق التي طالتها السيطرة أو التوغل الأجنبي. ثانيا، إعادة بناء علاقاتها الخارجية بطريقة تتيح لها استعادة المبادرة، ليس فقط من موقع التلقي أو المظلومية، بل من موقع اللاعب الذي يسعى لعرض تنازلات متبادلة تُقوّي موقفه. ثالثا، التعامل مع التداخل المستمر بين النفوذ الروسي-الإيراني، التركي-الأمريكي، الإسرائيلي ضمن الساحة السورية، بحيث لا تُختزل السياسة السورية في مجرد بقاء النظام أو معاداته، بل في سياق إعادة تموضع الدولة في نظام إقليمي جديد.

بناءً على ذلك، فإنّ هذه الدراسة لا تكتفي بتناول الأزمة السورية باعتبارها مسألة داخلية، بل تنظر إليها كمؤشرٍ على تحولاتٍ في بنية النظام الإقليمي العربي، وكيف عبّر الصراع السوري عن إعادة توزيع النفوذ الاستراتيجي بين القوى الإقليمية والدولية. ففهم الموقف السوري الراهن، والواقع الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي، وسياسة دمشق الخارجية، هي مفاتيح أساسية لقراءةٍ أعمق لمسار الشرق الأوسط المعاد تشكيله، ولإدراك ما إذا كان يَصدُر عنه استقرار فعلي أم سيبقى "توازنًا هشًّا" يُدار عبر ترتيبات ظرفية.

الإطار العام للأزمة السورية:

منذ اندلاع الأحداث في سوريا عام 2011، دخلت الدولة السورية مرحلة غير مسبوقة من التحولات البنيوية العميقة، إذ بدأت الأزمة في ظاهرها حراكًا اجتماعيًا ذا مطالب إصلاحية، لكنها ما لبثت أن تحولت إلى نزاعٍ مسلحٍ مركّب تشابكت فيه العوامل الداخلية مع الإقليمية والدولية، لتصبح بذلك نموذجًا مركزيًا في دراسة تفكك الدولة الوطنية وتحوّلها إلى ساحة نفوذ متعددة المستويات.

في بدايات الأزمة كان الانقسام الداخلي المحرك الرئيسى لمسار الأحداث، فالبنية الاجتماعية المتنوعة، والطابع المركزي الصارم للنظام، أدّيا إلى اتساع الفجوة بين السلطة والمجتمع، ومع تصاعد العنف وتدويل الأزمة عبر التدخلات الخارجية، فقدت الحكومة السورية السيطرة على مساحات واسعة من أراضيها. وهكذا تحوّلت البلاد إلى خريطة فسيفسائية من مناطق النفوذ تديرها قوى متباينة، تتبدّل تحالفاتها وفقًا لموازين القوة الميدانية.

ترافق ذلك مع تراجع مؤسسات الدولة وتآكل الأجهزة الإدارية والأمنية، ما أوجد فراغًا استراتيجيًا فتح المجال أمام صعود فاعلين من غير الدول، مثل تنظيم داعش وجبهة النصرة، إلى جانب ميليشيات محلية وإقليمية مدعومة من قوى أجنبية. هذا الفراغ لم يكن أمنيًا فقط، بل سيادي أيضًا، إذ فقدت الدولة سيطرتها على الحدود، وتعرضت السيادة السورية لاختراقٍ مباشر من أطراف متعددة.

ومع مرور الوقت، تحولت الأزمة من صراعٍ على السلطة إلى صراعٍ على الهوية والمجال والنفوذ، وأصبحت سوريا نقطة التقاء لصراعات إقليمية ودولية أوسع تتجاوز حدودها الجغرافية. فقد ركزت تركيا على منع قيام كيان كردي على حدودها الشمالية، وسعت إيران إلى ترسيخ وجودها ضمن محور المقاومة الممتد من طهران إلى بيروت، فيما تعاملت روسيا مع الصراع باعتباره فرصتها التاريخية لاستعادة مكانتها الدولية عبر البوابة السورية.

في المقابل استغلت إسرائيل حالة التفكك الداخلي السوري لتعزيز وجودها العسكري في الجنوب، وفرض واقع أمني جديد بحجة الحفاظ على أمنها القومي، فقامت بتوسيع نطاق سيطرتها في بعض المناطق الحدودية، مع استمرار احتلالها لهضبة الجولان منذ عام 1967. وبهذا لم يعد الصراع السوري مقصورًا على الداخل، بل أصبح تعبيرًا عن تآكل مفهوم السيادة الوطنية في بيئة إقليمية مشبعة بالتدخلات الخارجية.

لقد أدّى هذا التداخل المعقد إلى إنتاج نظام أمني غير مستقر في الداخل السوري، يقوم على توازنٍ هش بين القوى المتصارعة دون وجود تسوية شاملة تضمن الاستدامة. فالمعارك لم تُحسم عسكريًا، والمفاوضات لم تنضج سياسيًا، لتبقى سوريا ساحةً لإدارة الصراع لا لحلّه، في ظل غياب توافق وطني جامع، وازدواجيةٍ في مراكز القرار بين الداخل والخارج.

وهكذا يمكن القول إنّ الأزمة السورية تجاوزت حدود الدولة إلى أن أصبحت مرآةً لتحولات النظام الإقليمي برمّته، إذ يعكس استمرارها هشاشة التوازنات القائمة، ويؤكد أنّ الاستقرار في سوريا لن يتحقق إلا من خلال إعادة بناء الدولة على أسس سيادية وطنية، وتحييدها عن مسارات النفوذ الأجنبي المتصارع على أرضها.

توازن القوى الهش في الساحة السورية:

تُعدّ الساحة السورية اليوم واحدة من أكثر البيئات الجيوسياسية تعقيدًا في العالم، إذ تتقاطع فيها مصالح قوى محلية وإقليمية ودولية ضمن شبكة معقدة من التحالفات والخصومات. هذا التشابك أنتج توازنًا هشًّا يقوم على تفاهمات مؤقتة أكثر مما يستند إلى اتفاقات مستدامة، فكل طرف يسعى لتثبيت نفوذه دون تحمل كلفة الاستقرار الكامل.

على المستوى الداخلي، استعاد النظام السوري السيطرة على معظم المراكز الحضرية الكبرى بفضل الدعم الروسي والإيراني، غير أنّه لا يزال يعتمد بشكلٍ كبير على هذا الدعم لضمان بقاء مؤسساته واستمراره السياسي. في المقابل تحتفظ الفصائل المعارضة وبعض القوى الكردية بوجود فعلي في الشمال والشمال الشرقي بدعم مباشر من تركيا والولايات المتحدة، مما يجعل من السيطرة السورية على كامل الجغرافيا أمرًا شكليًا أكثر منه فعليًا.

في الغرب والجنوب، يبرز الوجود الروسي والإيراني كركيزة أساسية للنظام، بينما تواصل إسرائيل فرض معادلاتها الأمنية عبر الضربات الجوية المتكررة على المواقع الإيرانية والميليشيات التابعة لها، بحجة الحفاظ على أمنها القومي ومنع التموضع الإيراني قرب الجولان المحتل. هذه الضربات تُنفَّذ بتنسيق غير معلن مع موسكو، ضمن تفاهمٍ ميداني يضمن لإسرائيل حرية الحركة مقابل عدم المساس بالقوات الروسية أو البنية المركزية للنظام.

أما في الشمال فتدير تركيا منطقة نفوذ واسعة تمتد من إدلب حتى مناطق أعزاز وجرابلس، عبر قواتها العسكرية وفصائل محلية موالية لها، وهو نفوذ تحكمه تفاهمات ميدانية مع روسيا تُدار عبر اتفاقات "خفض التصعيد". وتستثمر أنقرة وجودها في تلك المناطق لتحقيق توازن مع الأكراد، ولتعزيز نفوذها في أي تسوية سياسية مقبلة.

وفي المقابل تواصل الولايات المتحدة تمركزها في الشرق السوري، خاصة في منطقة دير الزور والحسكة، عبر قواعد عسكرية محدودة ولكن فعالة، تتيح لها التحكم في مناطق إنتاج النفط والغاز واستخدامها كورقة ضغط سياسية واقتصادية على دمشق، وطهران، وموسكو في آنٍ واحد.

هذا التوزيع للقوة بين أطراف متعددة أوجد ما يمكن تسميته بـ "توازن الردع القلق"، فكل طرف يملك ما يكفي لتعطيل خصومه دون أن يتمكن من فرض حسم نهائي. فالروس يضبطون الميدان العسكري، والإيرانيون يرسخون الحضور الأيديولوجي والميداني، والأتراك يراقبون الشمال، والأمريكيون يتحكمون بالشرق، بينما تظل إسرائيل قادرة على الضرب دون ردٍّ مباشر.

وعليه تبدو سوريا اليوم كيانًا سياديًا نظريًا لكنه فعليًا مجال نفوذ متداخل بين قوى متعددة، تحكمه تفاهمات مؤقتة وتوازنات ميدانية قابلة للانهيار في أي لحظة. إن أي اختلال في أحد عناصر هذا التوازن كتبدل الموقف الأمريكي، أو تصعيدٍ بين إسرائيل وإيران، أو انسحابٍ روسي جزئي بسبب انشغالات أوكرانيا،قد يعيد إشعال الصراع بصورة جديدة أكثر تعقيدًا.

وهكذا يظلّ الاستقرار السوري مرهونًا بمعادلات خارجية أكثر من كونه نابعًا من إرادة وطنية داخلية، ليصبح هذا التوازن القلق مرآةً للوضع الإقليمي بأسره: هدوءٌ ميداني بلا استقرار سياسي، وتفاهماتٌ مؤقتة بلا حل دائم.

صراع النفوذ الإقليمي:

يشكّل الصراع على الساحة السورية انعكاسًا مباشرًا لتضارب الأجندات الإقليمية بين ثلاث قوى رئيسية هي تركيا، وإيران، وإسرائيل، إذ تسعى كلٌّ منها إلى استثمار الواقع السوري بما يخدم مصالحها الأمنية والاستراتيجية، دون اكتراث فعلي بسيادة الدولة السورية أو باستقرارها الداخلي. وقد جعل هذا التشابك من سوريا ساحةً لتوازنات دقيقة تُدار بالحسابات لا بالمبادئ، وبالتفاهمات المؤقتة لا بالتحالفات الدائمة.

في هذا السياق دخلت تركيا الصراع السوري من بوابة دعم المعارضة السياسية والعسكرية بهدف إسقاط النظام، لكنها غيّرت مقاربتها تدريجيًا بعد تصاعد التهديدات الأمنية على حدودها، خاصة مع صعود المكوّن الكردي المسلح شمال البلاد. ومنذ عام 2016، أطلقت أنقرة ثلاث عمليات عسكرية كبرى هي "درع الفرات"، و"غصن الزيتون"، و"نبع السلام"، أقامت من خلالها منطقة نفوذ ممتدة في الشمال السوري تُدار بغطاء عسكري وأمني تركي، تحت ذريعة حماية أمنها القومي ومنع قيام كيان كردي مستقل. ورغم تمسك دمشق برفض الوجود التركي واعتباره احتلالًا مباشرًا، فإنها اضطرت مؤخرًا إلى الانخراط في محادثات أمنية برعاية روسية لتجنب مواجهة مفتوحة قد تُضعف موقفها العسكري، بينما تستخدم أنقرة ورقة اللاجئين والنفوذ الميداني كورقة ضغط تفاوضية في أي تسوية سياسية مستقبلية.

أما إيران فتعتبر سوريا ركيزةً أساسية في مشروعها الإقليمي الممتد من طهران إلى بيروت عبر العراق، وتسعى للحفاظ على وجودٍ عسكري وأمني دائم داخل الأراضي السورية لضمان عمقها الاستراتيجي وموقعها في معادلة الردع مع إسرائيل. منذ بداية الأزمة قدّمت طهران دعمًا ماليًا وعسكريًا واسعًا للنظام السوري، وأسهمت في تشكيل ميليشيات متعددة الولاءات، مثل "فاطميون"، و"زينبيون"، و"الحرس الثوري السوري"، مما منحها قدرةً ملموسة على التأثير في القرار الميداني في مناطق عديدة. لكن هذا النفوذ جعلها في مواجهة مستمرة مع إسرائيل، وأحيانًا في موضع تضارب مصالح مع روسيا التي تفضّل إدارة الملف السوري بصورة أكثر توازنًا. ومع استمرار العقوبات الدولية والضغوط الاقتصادية، أصبحت دمشق تنظر إلى تحالفها مع إيران كضمانٍ للبقاء، لكنه في الوقت نفسه عبءٌ سياسي يقيّد حركتها الخارجية ويزيد من عزلتها الإقليمية.

أما إسرائيل فتتعامل مع الأزمة السورية باعتبارها فرصة لتعزيز أمنها القومي وإضعاف خصومها الإقليميين في آن واحد. فقد تبنّت سياسة الضربات الوقائية داخل العمق السوري، مستهدفةً القواعد والمستودعات التابعة لإيران وميليشياتها بحجة منع التموضع العسكري المعادي قرب الجولان المحتل. كما نفّذت عمليات توغّل محدودة في الجنوب السوري بذريعة الحفاظ على أمنها القومي، وأنشأت مناطق عازلة غير معلنة في محيط القنيطرة وريف درعا في ظل صمت دولي وتفاهمات غير مباشرة مع موسكو. في المقابل يؤكد الموقف السوري الرسمي تمسك الدولة بحقها في استعادة الجولان وجميع الأراضي المحتلة، غير أن القدرات العسكرية والسياسية المحدودة تجعل الرد السوري محصورًا في الإطار الدبلوماسي والخطابي دون تحرك فعلي على الأرض.

في ظل هذا التشابك تتبنى دمشق اليوم سياسة خارجية حذرة ومرنة تسعى من خلالها إلى تحقيق توازنٍ بين القوى المتعارضة دون الانخراط المفرط في أي محور. فهي تحافظ على تحالفها الوثيق مع روسيا وإيران كضمانٍ لأمنها العسكري والسياسي، وتنفتح تدريجيًا تجاه تركيا عبر الوساطة الروسية، بينما تواجه إسرائيل سياسيًا ودبلوماسيًا في المحافل الدولية دون الدخول في مواجهات ميدانية مباشرة. وبهذا أصبحت السياسة الخارجية السورية تقوم على مبدأ "البقاء بالتوازن"، أي إدارة شبكة العلاقات المتناقضة بين الحلفاء والخصوم بما يتيح للنظام السوري هامش حركة سياسي محدود لكنه كافٍ لضمان الاستمرار في بيئةٍ إقليميةٍ مضطربةٍ ومفتوحةٍ على احتمالات الصراع أكثر من فرص الاستقرار.

التفاعلات الدولية وإعادة تشكيل خرائط النفوذ:

مثّلت الساحة السورية منذ 2015 نقطة ارتكازٍ لإعادة تموضع القوى الكبرى في الشرق الأوسط. فقد منح التدخل الروسي المباشر موسكو قدرة تقريرٍ ميدانية وسياسية، وحوّل سوريا إلى منصة نفوذٍ على المتوسط، فيما تمسكت واشنطن بانخراطٍ محدود عالي التأثير يضمن لها أدوات ضغط من دون كلفة الانخراط الشامل. وبين هذين القطبين، تحرّك الأوروبيون عبر العقوبات والإغاثة، أكثر من التحكيم السياسي، ما أبقى تأثيرهم غير حاسم في معادلة التسوية.

على الضفة الروسية أسّست موسكو معادلة "الضامن الميداني والوسيط السياسي" في آنٍ معًا. فهي تُؤمّن بقاء مؤسسات الدولة السورية، وتنسّق خطوط الاشتباك مع إسرائيل، وتدير تفاهمات الشمال مع تركيا، وتُبقي قنواتها مفتوحة مع فصائل محلية حين يلزم. هذا الدور أتاح لها توزيع الأدوار بين شركائها: تمركز عسكري دائم، وتأثير على قرار الحرب والسلم، وموقع متقدّم في أي ترتيبات إعمار أو إعادة هيكلة أمنية لاحقة.

أما الولايات المتحدة فثبّتت استراتيجية "الإمساك بورقة الشرق". انتشارٌ عسكري محدود في مناطق النفط والغاز يمنحها قدرة تعطيل خصومها وتعديل الكلفة السياسية عليهم: ضغط اقتصادي على دمشق، كبحٌ لنفوذ طهران، ورسالة دائمة لموسكو وأنقرة بأن مفاتيح الحسم ليست متاحة لغيرها. بهذا المعنى تُدير واشنطن توازنًا يمنع الانتصار الكامل لأي طرف، ويُبقي مسار التسوية مرهونًا بشروط أوسع من الملف السوري ذاته.

اتخذ الاتحاد الأوروبي موقعًا ضاغطًا عبر منظومات العقوبات وربط أي انخراطٍ اقتصادي ذي معنى ببوادر انتقالٍ سياسي ومعايير حقوقية. لكن تأثير هذا المسار ظلّ محدودًا في غياب مظلّة تفاوض دولية فعّالة، فانعكست الكلفة أساسًا على الداخل السوري والمجتمعات المضيفة للاجئين، فيما احتفظت القوى الميدانية بمصادر تمويلٍ بديلة وشبكات دعم تتجاوز الضغط الأوروبي المباشر.

ضمن هذه التفاعلات تحرّكت الدبلوماسية العربية لاستكشاف مسار "الاحتواء السياسي المشروط". أعادت بعض العواصم فتح قنوات مع دمشق بهدف تقليص كلفة الفوضى الإقليمية، وإعادة سوريا تدريجيًا إلى منظومة العمل العربي، مقابل التزامات أمنية وحدٍّ من تدفقات المخدرات وتخفيف ارتباطاتٍ إقليمية تزيد هشاشة الجوار. وقد منحت هذه العودة مقعدًا سياسيًا لدمشق، لكنها لم تُترجم حتى الآن إلى تغييرٍ جوهري في موازين السيطرة الداخلية.

في قلب المشهد يقف العامل الإسرائيلي كمعامل ضبطٍ لا يمكن تجاوزه. فإسرائيل رسّخت حقّ الضربات الوقائية داخل العمق السوري لمنع التموضع الإيراني قرب الجولان، وأقامت عمليًا "هوامش أمان" جنوبًا بحجة الحفاظ على أمنها، مع استمرار احتلالها لهضبة الجولان. وقد جاء ذلك ضمن تفاهمات ميدانية غير معلنة مع روسيا، تُراعي خطوطًا حمراء للطرفين، وتؤكد أن "الهدوء الأمني لإسرائيل" جزءٌ من معادلة الاستقرار النسبي في المسرح السوري.

تجاه هذا النظام الدولي المتشابك، باتت السياسة الخارجية السورية تسعى إلى تقليل كلفة الانكشاف: تثبيت التحالف مع روسيا وإيران كضمانة بقاء، إبقاء قنواتٍ أمنية برعاية موسكو مع أنقرة لاحتواء الشمال، توظيف الإطار العربي لتخفيف العزلة وكسب هوامش اقتصادية، ومقاربة ملف إسرائيل من زاوية القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن مع تجنب الانجرار لمواجهةٍ ميدانية مرهِقة. إنها سياسة "البقاء بالتوازن": توسيع الهامش دون كسر قواعد اللعبة التي يفرضها اللاعبون الكبار.

خلاصة هذه التفاعلات أن سوريا تُدار اليوم بمنطق توازنات مُقنَّنة: روسيا تمسك بالمفاتيح الميدانية، والولايات المتحدة تمسك بورقة الشرق والاقتصاد، وأوروبا تضغط بالعقوبات، والمحور العربي يُجرّب احتواءً تدريجيًا، فيما تحافظ إسرائيل على حرية حركةٍ عسكرية جنوبًا. وفي هذا الإطار لا يبدو الاستقرار نتيجةَ حسمٍ، بل حصيلةَ تفاهماتٍ مؤقتة قابلة للتبدّل مع أي تغيير في حسابات القوى الكبرى أو اشتباكٍ إقليمي مفاجئ.

تداعيات الصراع على الأمن الإقليمي والعربي:

أحدثت الأزمة السورية تحوّلًا عميقًا في معادلات الأمن الإقليمي العربي، إذ لم تعد سوريا مجرّد ساحة داخلية للأحداث، بل أصبحت نقطة ارتكاز في منظومة الأمن الإقليمي، تؤثر فيها وتُعاد من خلالها صياغة توازنات القوى في الشرق الأوسط. فقد أدى استمرار الحرب وتعدد القوى المتدخلة إلى تفكك منظومة الردع التقليدية في المنطقة، وخلق واقعٍ جديدٍ يقوم على مناطق نفوذ متداخلة وولاءات عابرة للحدود.

انعكس هذا الوضع على الأمن القومي العربي بتهديداتٍ متشابكة، أبرزها تآكل الدولة الوطنية وتمدّد النفوذ غير العربي في قلب الجغرافيا العربية. فإيران عزّزت وجودها العسكري والسياسي من البوابة السورية، وتركيا رسّخت حضورها في الشمال عبر فصائل موالية، بينما استمر الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب تحت ذريعة الحفاظ على أمنه، ففقدت سوريا بذلك سيادتها على حدودها ومواردها، وأصبح الأمن الوطني فيها رهينةً للتوازنات الخارجية.

ترافقت هذه التغيرات مع تصاعد خطر التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود، التي استغلّت الفراغ الأمني والانقسام السياسي لتتحرك بحرية في محيط سوريا والعراق. وقد ساهم ذلك في توتير بيئة الأمن الإقليمي من خلال عمليات التهريب، وانتقال المقاتلين، وتوسّع تجارة السلاح والمخدرات، مما دفع الدول المجاورة، خاصة العراق، والأردن، ولبنان، إلى رفع جاهزيتها الأمنية، والتنسيق فيما بينها لاحتواء تداعيات الفوضى السورية.

كما شكّل الصراع السوري تهديدًا مباشرًا للأمن الإنساني في المنطقة، عبر موجات النزوح واللجوء الكبرى التي غيّرت البنية السكانية في دول الجوار، وأحدثت ضغوطًا اقتصادية واجتماعية هائلة. ففي لبنان والأردن مثلًا، تحوّل ملف اللاجئين إلى قضية أمنٍ داخلي تتداخل فيها الأبعاد الاجتماعية بالسياسية، بينما واجهت تركيا تحديات ديمغرافية واقتصادية متصاعدة نتيجة استضافة ملايين اللاجئين السوريين.

وفي البعد الاقتصادي والأمني البحري، أعادت الحرب السورية رسم خريطة التنافس على الممرات والموانئ وموارد الطاقة في شرق المتوسط. فتمركز روسيا في الساحل السوري منحها نفوذًا متقدمًا في أمن المتوسط، في حين أدّى التنسيق التركي–الروسي إلى إضعاف الدور العربي في إدارة هذا الحوض الحيوي. ومع تمدد الصراع إلى الفضاء البحري، أصبحت خطوط الغاز والنفط محورًا للتنافس بين القوى الإقليمية الكبرى، مما جعل من سوريا عنصرًا مؤثرًا في معادلة أمن الطاقة الإقليمي.

بالنسبة لمصر والدول العربية المركزية، أفرزت الأزمة تهديدين متوازيين: الأول، تمدد النفوذ الإقليمي غير العربي في قلب المشرق العربي، بما يحمله من اختراق سياسي وعسكري لمنظومة الأمن القومي العربي، والثاني، مخاطر الإرهاب والتهريب وتجارة السلاح والمخدرات عبر البحر المتوسط والحدود البرية. لذلك تبنت القاهرة مقاربة تقوم على دعم الحلول السياسية السلمية والحفاظ على وحدة الدولة السورية، ورفض التدخلات الخارجية، باعتبار أن استقرار سوريا هو مدخل لاستقرار المشرق العربي كله.

تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إنّ الصراع السوري لم يعد قضية محلية، بل أصبح عنصرًا مكوِّنًا في معادلة الأمن العربي. فغياب التسوية الشاملة يترك الباب مفتوحًا أمام مزيدٍ من التوتر الإقليمي، بينما يشكّل أي تقدّم نحو الاستقرار السوري خطوة جوهرية لاستعادة التوازن العربي في مواجهة المحاور الإقليمية المنافسة.

السيناريوهات المستقبلية والمخرجات الاستراتيجية:

تشير المعطيات الميدانية والسياسية الحالية إلى أن الأزمة السورية تسير نحو حالة "الجمود المنظّم"أو ما يمكن تسميته بـ"الانسداد المقنَّن"، أي بقاء الوضع الراهن دون حسمٍ نهائي، في ظلّ توازنٍ هشٍّ بين القوى الإقليمية والدولية. فكل طرف يمتلك من أدوات النفوذ ما يكفي لتعطيل خصومه، دون القدرة على فرض حلٍّ منفرد.

هذا السيناريو هو الأكثر واقعية في المدى القريب، لأنه الأقل كلفة على القوى الكبرى، لكنه في المقابل يُطيل عمر الأزمة ويُبقي سوريا في دائرة "إدارة الصراع" بدل حلّه.

في هذا الإطار، يُرجَّح استمرار وجود خريطة النفوذ الحالية، بحيث تبقى روسيا ممسكة بالميدان العسكري والسياسي، بينما تحافظ إيران على وجودها الأمني في محيط دمشق والجنوب، وتواصل تركيا سيطرتها على الشمال، وتبقي الولايات المتحدة على انتشارها المحدود في الشرق لضمان التحكم بورقة النفط. هذه المعادلة تُبقي الوضع السوري تحت سقف الاستقرار النسبي، لكنها لا تفتح الباب أمام أي إعادة بناء أو تسوية حقيقية.

السيناريو الثاني يتمثل في إعادة فتح قنوات تفاوض إقليمي–دولي بإشراف روسي–عربي، بعد مؤشرات التقارب العربي مع دمشق، وخاصة عقب عودتها إلى الجامعة العربية. وقد يشمل هذا المسار اتفاقاتٍ تدريجية لإعادة الإعمار ودمج مؤسسات الدولة في محيطها العربي، مقابل التزاماتٍ سياسية وأمنية واضحة، مثل تقليص النفوذ الإيراني، وتفعيل دورٍ عربي في مراقبة الحدود وإعادة الإعمار. نجاح هذا السيناريو مرهون بمدى توافق موسكو وطهران من جهة، والغرب والعرب من جهة أخرى، على مقايضة النفوذ مقابل الاستقرار.

أما السيناريو الثالث فهو تصعيد محدود أو موضعي بين بعض الأطراف الإقليمية، مثل مواجهة إسرائيلية–إيرانية في الجنوب، أو صدام تركي–كردي في الشمال، مما قد يعيد إشعال جبهاتٍ خامدة ويقوّض أي جهودٍ نحو التهدئة. ورغم أن هذا الاحتمال لا يُتوقع أن يتحوّل إلى حربٍ شاملة، إلا أنه كفيل بإبقاء سوريا في حالة توترٍ دائم، وعرقلة أي مسارٍ سياسي منظم.

وعلى المدى البعيد، يبقى السيناريو الأكثر استقرارًا وإن كان الأصعب تحقيقًا هو الانتقال السياسي المنسّق، الذي يضمن وحدة الأراضي السورية، ويعيد توزيع النفوذ ضمن منظومة عربية–دولية متوازنة. يتحقق هذا المسار فقط إذا توفرت إرادة دولية حقيقية لإعادة إعمار سوريا، ورفع جزئي للعقوبات، ودمج تدريجي لمؤسساتها في النظام الإقليمي العربي بما يحقق توازن المصالح ويعيد للدولة مركزيتها.

من الناحية الاستراتيجية، يُفترض أن تتجه الدول العربية نحو ثلاثة مسارات تكاملية لحماية الأمن القومي العربي من تداعيات استمرار الأزمة:

1- المسار السياسي:تعزيز الدور الدبلوماسي العربي الجماعي لإطلاق مبادرة واقعية تتجاوز الاستقطاب الدولي، وتعيد العرب إلى موقع الوسيط الفعّال في صياغة الحل.

2- المسار الأمني:تفعيل التعاون الاستخباراتي والعسكري بين الدول العربية لمواجهة التهديدات العابرة للحدود، مثل الإرهاب، وتهريب السلاح، والمخدرات.

3- المسار الاقتصادي: دعم مشاريع إعادة الإعمار والمصالحة الوطنية ضمن أطر شفافة تضمن عدم استغلال الموارد في ترسيخ النفوذ الأجنبي.

في ضوء هذه المسارات تبرز مصر بوصفها فاعلًا عربيًا مركزيًا قادرًا على لعب دور التوازن بين القوى الإقليمية والدولية. فهي تجمع بين الواقعية السياسية والدور القومي، وتمتلك من الخبرة الدبلوماسية ما يؤهلها لتقود مقاربة عربية متزنة تجاه الملف السوري، تقوم على دعم الحلول السياسية الشاملة، والحفاظ على وحدة الأراضي، وتحييد سوريا عن دوائر النفوذ الخارجي، بما يضمن استقرار الإقليم ككل.

الموقف السوري الراهن وواقع الاحتلال الإسرائيلي والسياسة الخارجية الحالية:

تعيش سوريا اليوم حالة من السيادة المنقوصة نتيجة تعدد مناطق النفوذ الأجنبية على أراضيها، واستمرار الاحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان السورية منذ عام 1967، وهو ما يُشكّل خرقًا واضحًا لقرارات مجلس الأمن، ولا سيما القرار رقم (497) الذي رفض ضم الجولان واعتبر جميع الإجراءات الإسرائيلية باطلة.

وإلى جانب هذا الاحتلال الثابت نفّذت إسرائيل خلال السنوات الأخيرة عمليات توغّل وسيطرة جزئية في الجنوب السوري، خاصة في محيط القنيطرة وريف درعا، تحت ذريعة الحفاظ على أمنها القومي ومنع تموضع القوات الإيرانية والفصائل المسلحة الموالية لدمشق قرب حدود الجولان.

بهذا لم يعد الوجود الإسرائيلي مقتصرًا على مناطق الاحتلال التاريخي، بل تحوّل إلى نفوذ أمني متقدم يراقب الداخل السوري ويحدّ من قدرة دمشق على بسط سلطتها جنوب البلاد.في المقابل لا تزال المواقف السورية الرسمية ثابتة في التأكيد على رفض الاحتلال والتمسك الكامل بحق الدولة في استعادة الجولان وجميع الأراضي المحتلة بكافة الوسائل المشروعة، باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من التراب الوطني السوري.

غير أن هذا الموقف الوطني يصطدم بواقعٍ سياسيٍّ وأمنيٍّ معقد، حيث تفتقر سوريا إلى أدوات الردع العسكرية الفعّالة، كما تخضع حساباتها الأمنية لتوازنات القوى بين روسيا، وإيران، وإسرائيل، الأمر الذي يجعل خطابها السياسي أكثر تمسكًا بالمبدأ من تطبيقه العملي.

من جهة أخرى يتجلّى الموقف السوري الراهن في محاولة إعادة تموضعٍ دبلوماسيٍ محسوب. فدمشق تحاول اليوم الخروج تدريجيًا من عزلتها الإقليمية والدولية عبر إعادة بناء العلاقات مع الدول العربية، مستفيدةً من التحولات في المواقف الخليجية والعربية تجاهها.وقد مثّل قرار عودة سوريا إلى الجامعة العربية خطوة رمزية مهمة نحو استعادة حضورها السياسي، وإن ظلّ محدود التأثير في ظل العقوبات الغربية والقيود المفروضة على إعادة الإعمار.

أما على صعيد التحالفات الدولية، فتستمر العلاقة الاستراتيجية بين دمشق وموسكو باعتبارها الضامن الأساسي لبقاء النظام، ومصدر الدعم العسكري والسياسي الرئيسى في مجلس الأمن. في المقابل تسعى سوريا للحفاظ على شراكتها مع إيران رغم الضغوط الدولية والعربية المطالبة بتقليصها، نظرًا لاعتمادها عليها في الدعم اللوجستي والأمني.وتعمل دمشق في الوقت نفسه على فتح قنوات تواصل أمنية محدودة مع أنقرة بوساطة روسية، لإعادة ضبط الحدود الشمالية وتهيئة بيئة تفاوض حول الانسحاب التركي التدريجي.

فيما يتعلق بإسرائيل تتبنى دمشق سياسة ردعٍ دبلوماسي أكثر من عسكري، تقوم على استخدام المنابر الدولية لتجديد رفض الاحتلال والتأكيد على الحقوق القانونية، مع تجنّب التصعيد الميداني الذي قد يجرّها إلى مواجهة مباشرة غير محسوبة.وقد ساهمت هذه السياسة في تثبيت حالة "الهدوء المتوتر" جنوبًا، حيث تتواصل الضربات الإسرائيلية المتقطعة دون ردٍّ عسكري واسع من الجانب السوري، ضمن توازن غير معلن ترعاه موسكو لتجنّب انفجارٍ إقليمي شامل.

تُظهر هذه المعطيات أن السياسة الخارجية السورية الحالية تقوم على مبدأ "الواقعية الدفاعية"، أي الحفاظ على البقاء وتثبيت الشرعية السياسية دون مجابهة مباشرة مع القوى الكبرى. فهي تحافظ على تحالفاتها مع موسكو وطهران، وتنفتح بحذر على العالم العربي، وتتعامل مع إسرائيل كاحتلال قائم يجب عزله دبلوماسيًا لا مواجهته ميدانيًا.وبهذا يمكن القول إنّ سوريا اليوم تُوازن بين مبدأ المقاومة التاريخي ومقتضيات البقاء السياسي، في محاولةٍ لإعادة إنتاج دورها في الإقليم كدولة ذات سيادة منقوصة، تسعى لاستعادتها عبر الدبلوماسية الواقعية لا عبر القوة المسلحة.

الخاتمة:

تُختزل الأزمة السورية اليوم في كونها نموذجًا مكثّفًا لصراع الإرادات الإقليمية والدولية، حيث تداخلت فيها الحسابات الجيوسياسية مع الانقسامات المذهبية والاعتبارات الاقتصادية، لتتحوّل سوريا إلى مختبرٍ مفتوح لإعادة توزيع القوة في الشرق الأوسط.لقد كشفت الحرب السورية هشاشة النظام الإقليمي العربي، وأظهرت أن تفكك الدولة الوطنية لا يؤدي إلى انتصار أحد، بل إلى انهيار شامل تتقاسم نتائجه القوى الخارجية والفاعلون بالوكالة.

وعلى الرغم من أن المعادلة العسكرية تميل نسبيًا لصالح النظام بدعمٍ روسي–إيراني، فإنّ السيادة السورية لا تزال موزّعة فعليًا بين خمس قوى رئيسية: روسيا في الساحل والوسط، وإيران في الجنوب ودمشق، وتركيا في الشمال، والولايات المتحدة في الشرق، وإسرائيل عبر الاحتلال الدائم للجولان ومناطق التماس الأمني في الجنوب.هذا الواقع جعل من سوريا دولة قائمة قانونيًا ومجزأة ميدانيًا، مما يجعل أي استقرار مستقبلي مرهونًا بالتفاهمات الخارجية أكثر من الإرادة الوطنية الداخلية.

إنّ توازن القوى الهشّ القائم حاليًا لا يمكن اعتباره استقرارًا، بل هو هدنة مفتوحة تتغيّر مع كل تحوّل في المواقف الدولية. فروسيا منشغلة بالحرب الأوكرانية، وإيران تواجه ضغوطًا اقتصادية متصاعدة، وتركيا تعيد حساباتها الحدودية والأمنية، بينما تواصل إسرائيل فرض خطوطها الحمراء تحت ذريعة "أمنها القومي".

أما الولايات المتحدة، فتتبنّى سياسة "الإدارة عن بُعد"، تُبقي الأزمة مشتعلة بقدرٍ لا يسمح بانفجارها الكامل ولا بحلّها النهائي.

ورغم هذا المشهد المأزوم، فإنّ السنوات الأخيرة كشفت عن عودة تدريجية للبعد العربي في المعادلة السورية، من خلال جهود دبلوماسية تقودها مصر، والسعودية، والأردن لإعادة دمشق إلى محيطها الطبيعي، وإحياء مفهوم الأمن القومي العربي القائم على التوازن لا الاصطفاف.فإعادة دمج سوريا في النظام العربي، ضمن رؤية مشتركة توازن بين الواقعية السياسية والحد الأدنى من التضامن القومي، تمثل المدخل الحقيقي لإعادة ضبط خرائط النفوذ في الشرق الأوسط.

تُبرز التجربة السورية كذلك أنَّ القوة العسكرية وحدها لا تصنع استقرارًا، وأنّ التسويات الدائمة تحتاج إلى توافقٍ سياسي شامل يعيد بناء الدولة على أسس المواطنة، لا المحاور الإقليمية. كما أكّدت أنّ الفراغ العربي في إدارة الأزمات يفتح الباب أمام القوى غير العربية لتحديد مصير المنطقة.

إنّ مستقبل سوريا، كما تشير المؤشرات الراهنة، لن يُحسم في ميدان القتال بل على طاولة التفاهمات الدولية والإقليمية. لكنّ تفعيل دور عربي جادّ يمكن أن يضمن ألّا تكون هذه التسوية على حساب الأمن القومي العربي، بل لصالح استعادته.فاستقرار سوريا ليس مصلحةً محلية فقط، بل ضرورة استراتيجية للأمن الإقليمي والعربي، وضمانة لمنع الشرق الأوسط من التحوّل إلى مسرحٍ دائم للصراعات المفتوحة.

ومن ثمّ فإنّ الرهان الأكبر لا يكمن في إنهاء الحرب فحسب، بل في بناء سلامٍ عربيٍّ مستدام يحصّن الإقليم من تكرار النموذج السوري في مناطق أخرى، ويعيد الاعتبار لمفهوم الدولة الوطنية كركيزة أولى لحماية الأمن القومي العربي في عالمٍ يتغيّر بسرعة ويفتقر إلى التوازن.


رابط دائم: