الاستراتيجية الأمنية الإيرانية الجديدة.. مقاربة رفع تكلفة المواجهات المحتملة
27-10-2025

د. شيماء المرسي
* الخبيرة فى الدراسات البينية الإيرانية

بعد انقضاء القيود المفروضة على البرنامج النووي الإيراني في الثامن عشر من أكتوبر 2025، ظهرت مؤشرات واضحة على انتقال إيران من مرحلة "الصبر الاستراتيجي" إلى نهج "إدارة التصعيد المحسوب". لم يكن هذا التحول مجرد تبدلٍ في النبرة أو التكتيك، بل تحولًا بنيويًا في فلسفة الردع الإيرانية، عبر عن نفسه من خلال منظومة ردع متعددة الأبعاد، صُممت بعناية لجعل أي عدوان على أراضيها مغامرة باهظة الثمن سياسيًا، وعسكريًا، واقتصاديًا.فاستراتيجيتها الأمنية الجديدة لا تقف عند حدود تحسين القدرات التقنية، بل تعبر عن إعادة هيكلة شاملة لمنظومة الردع، وتستدعي قراءة دقيقة لمعادلات التصعيد وحدود الرد، بما يوازن بين منطق الردع وضرورات الفعل المحسوب.

تحول الاستراتيجية الأمنية لإيران:

منذ السابع من أكتوبر، ومن خلال عمليات "الوعد الصادق 1 و2 و3"، وبالتوازي مع سياسة حسن الجوار ومساعي التقارب مع القاهرة، بلورت إيران ما يمكن وصفه بـ "استراتيجية الردع الوطني"، التي باتت محور خطاب المؤسسة الأمنية القومية.حيث بدأت فعليًا بالانتقال من نموذج الردع غير المتماثل التقليدي إلى ما يشبه الردع المتماثل غير التقليدي، في وقت تصعد فيه إسرائيل جهودها لتثبيت هيمنتها الإقليمية، بدعمٍ غربيٍّ مستمر.

أولًا – الردع النووي:برز التحول الجوهري في العقيدة النووية الإيرانية بوضوح في خطاب المرشد الأعلى، علي خامنئي، قبيل وأثناء اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في أواخر سبتمبر 2025، حين شدد على استمرار تخصيب اليورانيوم كحق سيادي وتقني، معتبرًا الصناعة النووية جزءًا من رصيد الردع الوطني.وفي منتصف وأواخر أكتوبر الجاري، عاد خامنئي ليؤكد الرسالة ذاتها، مشيرًا إلى أن القدرة النووية تمثل عنصر ردع يصعب إخضاعه للتهديد أو الإملاء، مع إبقاء خيارات الردع الاستراتيجي مفتوحة في حال مواجهة خطر وجودي، بما يقترب من منطق سياسة حافة الهاوية (Brinkmanship).

ثانيًا– الردع بالحرمان الاستخباراتي:يقوم هذا المنهج على حرمان الخصم من اليقينبشأن القدرات والنوايا الإيرانية، من خلال إخفاء المعلومات أو توظيف التضليل الاستخباراتي. وقد دعا روح ‌الله قادري كنگاوري، الأستاذ المشارك في جامعة الإمام الحسينالتابعة للحرس الثوري، إلى تأسيس منظومة معلوماتية متكاملةتضم أجهزة الاستخبارات الخارجية والداخلية والسيبرانية والدفاعية، مع فصلٍ مؤسسيٍّ واضح بين المهام الأمنية والاستخباراتية، من أجل تعزيز التنسيق والحد من الهدر التنظيمي.

ثالثًا– التحول نحو البعد الاستباقي المحدود: اقترح قادري كذلك الانتقال إلى سياسة هجومية استباقية عند الضرورة، بما يتناغم مع منطق المقاومة، غير أن تبني هذا الخيار يتطلب إطارًا قانونيًا مبررًا، وآليات دقيقة لإدارة التصعيد، وضبطًا صارمًا لحدود الاشتباك مع إسرائيل والولايات المتحدة.

ومع ذلك يظل تطبيق هذه المنظومة مرهونًا بجملة من العوامل المساندة، أبرزها وجود آليات شفافة لإدارة الأزمات والتصعيد، وقدرة اقتصادية قادرة على امتصاص الصدمات، وتنسيق دبلوماسي فعال يحد من مخاطر الحساب الخاطئ.فعند توافر هذه المقومات، يمكن لاستراتيجية الردع الوطني أن تتحول إلى أداةٍ فعالة لحماية الأمن القومي الإيراني، بدلًا من أن تنقلب إلى محفزٍ لتصعيدٍ غير محسوب العواقب.

خطابات خامنئي تكشف آليات الردع المتعددة:

يوم الاثنين 20 أكتوبر 2025، أصدر القائد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، خلال لقائه الأبطال الرياضيين الإيرانيين الحاصلين على ميداليات أولمبية، بيانًا حمل دلالات سياسية وأمنية عميقة، إذ بدا واضحًا أن إيران قد انتقلت إلى مرحلة إدارة التصعيد السياسي المباشر في مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل، بعد سنوات طويلة من الصبر الاستراتيجي والدفاعي.

وأكد خامنئي في خطابه على صلابة القدرات النووية والصاروخية الإيرانية، رافضًا أي تدخل أمريكي، ومستنكرًا ما وصفه بـ "الادعاءات الغربية حول مكافحة الإرهاب والسلام."وتكمن أهمية هذا الخطاب في توقيته ومصدره، كونه صادرًا عن أعلى سلطة قرارية مسئولة عن خيارات الحرب والسلام. إضافة لكونه ترجمة لسياسات الردع النووية والصاروخية عبر توجيه مباشر نحو تطوير القدرات العسكرية والميدانية.

وفي السياق ذاته، تزامنت تصريحات القائد الأعلى مع مواقف متطابقة من كبار المسئولين الإيرانيين، إذ أعلن أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي لاريجاني، عن مراجعة العلاقة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية عقب انتهاء الاتفاق النووي، فيما حذر وزير الخارجية، عباس عراقجي، من أن تصريحات مدير الوكالة، رافائيل جروسي،بشأن فرض إيران قيودا على التفتيش قد تفسر بوصفها تحريضًا على استخدام القوة.

يعكس هذا التناسق في الخطاب الرسمي توجه إيران نحو صياغة موقف وطني موحد للدفاع عن سيادتها النووية وأمنها القومي. كما يشير إلى تنامي أدوات الردع، وخاصة البحري في المنظومة العسكرية، فقد كشفت تقارير غربية مثل موقع
“Army Recognition”المختص في مجال الدفاع والأمن والتقنيات العسكرية، عن تطوير إيران لأكثر من 19 غواصة محلية الصنع، وتتميز بقدرتها على العمل خارج الرصد التقليدي، وهو ما يمنح إيران ميزة تكتيكية مقارنةً بالغواصات الإسرائيلية السبع، ويُرسخ تموضعها في الجغرافيا البحرية الحيوية للخليج العربي ومضيق هرمز.

دور الأنفاق المخفية في منظومة الردع الإيرانية:

يوم السبت 18 أكتوبر 2025، عرضت القوة الجوفضائية التابعة للحرس الثوري لقطات من داخل "مدينة الصواريخ" تُظهر صواريخ متوسطة المدى مطورة (عماد وقدر) ومثبتة على ناقلات إطلاق(TELs) ومرافقة ضمن بنية تحت أرضية محمية، ومصحوبة بتدابير مضادة للحرب الإلكترونية.وقد كان لهذا البث رسالة مزدوجة، وهي: داخليًا لتعزيز ثقة الجمهور، وخارجيًا لبيان القدرة على البقاء وسرعة التموضع، وهذا بلا شك، يصعب مهام الخصم ويزيد من تكلفة أي اعتداء.

أما فنيًافيُعد صاروخ "عماد" قاذفًا متوسطَ المدى مزودًا برأس قابل للمناورة(MaRV) ومحسنات دقة. في حين يمثل "قدر"نسخة أخف وزنًا من عائلة شاهـب-3 مع تحسينات في التوجيه وتقليص زمن الإعداد للإطلاق. لكن الجديد في الإعلان، هو دمج تدابير حرب إلكترونية على نقاط الإطلاق، لشن تشويش على نظم الإنذار والتحكم بالنيران، وهذا يقلل من فرص الاعتراض أو يؤمن نافذة دفاعية حرجة لصالح منصات الإطلاق.

وينبثق عن هذا التطور أثران استراتيجيان مباشران:

أولًا، مضاعفة البقاء عبر شبكة أنفاق وخلايا إطلاق متكررة تفرض على المهاجم إنفاقًا هائلًا لضرب كل الخلايا.

ثانيًا، تقصير فترات التحذير،لأن خروج الصواريخ من مواقع محمية وعبورها لمسافات قصيرة قبل الإطلاق يضيق هامش الاستجابة أمام نظم الاستطلاع والاعتراض.

وعلى الرغم من أن هذه التغييرات تُعرض كترقيات تقنية،فإنها في جوهرها جزء من مقاربة إيرانية مُخططة لإدارة التصعيد، بحيث تمزج بين قدرات إطلاق قابلة للبقاء مع تكتيكات التضليل والحرمان الاستخباراتي وتدابير إلكترونية مضادة وبُنى تحتية مخفية، مما يؤدي عمليًا إلى استنزاف مخازن الاعتراض لدى الخصوم، والاعتماد الأكبر على استطلاع متقدم، وتسارع في دورات اتخاذ القرار.

وعلى مستوى التفاعل الغربي، تشير تقديرات مفتوحة المصدر وخاصة موقع“Army Recognition”إلى أن هذا النمط سيدفع إسرائيل لرفع جاهزية مخزون الاعتراض، ومراجعة الأنظمة الاتصالية واللوجستية، بينما تعيد الولايات المتحدة تركيز قدرات ISR، لرصد الأنفاق والممرات اللوجستية، مع مراقبة الإشارات الكهرومغناطيسية قبل الإطلاق وسرعة تحليلها.أما أوروبا فستواجه ضغوطًا، لإعادة تقييم أدوات الرقابة والدبلوماسية التقليدية أمام استراتيجية الردع الإيرانية القابلة للبقاء.

الجدير بالإشارة أن الفارق المفاهيمي بين الردع التقليدي والردع القابل للبقاء واضح، فالأول يقوم على عرض قوة هجومية ظاهرية وتهديد رادع ومباشر، أما الآخر، الذي تتبناه طهران، فيضيف ثلاثة أبعاد جوهرية، وهي: البقاء (بُنى تحت أرضية وغواصات ومنصات متنقلة)، الغموض والحرمان الاستخباراتي (تضليل وإخفاء القدرات)، ودمج تدابير الحرب الإلكترونية مع أدوات دبلوماسية واقتصادية، لتتحول هذه المنظومة الدفاعية إلى آلة استنزاف ميزانيات الخصوم عبر إجبارهم على إنفاق مستمر في استطلاع الأنفاق ورفع جاهزية الاعتراض.

خاتمة:

مجمل القول إن الخطوات الإيرانية الأخيرة لا تُحدث انقلابًا مفاجئًا في ميزان القوى الإقليمية، لكنها تُسهم في تسريع سباق الردع عبر تقليص نوافذ التحذير، ورفع كلفة الدفاع متعدد الطبقات. فقد بات واضحًا أن المنهجية الإيرانية القائمة على دمج البنية التحتية المحصنة بالقدرات الصاروخية والتقنيات المضادة للإجراءات الإلكترونية تشكل الركيزة الأساسية لاستراتيجية "الردع القابل للبقاء" وإدارة التصعيد.

والهدف السياسي من وراء ذلك واضح المعالم، وهو فرض تكلفة استراتيجية باهظة الثمن، تجعل أي هجوم رهانًا مكلفًا سياسيًا، وعسكريًا، واقتصاديًا على الخصم، على نحوٍ يُثنيه عن التفكير في عمليات واسعة النطاق.كما تُظهر هذه المقاربة تحولًا مدروسًا في ترتيب أولويات إيران الاستراتيجية، حيث تسعى إلى تحقيق توازن دقيق بين القوة العسكرية، والردع النووي، والأدوات الدبلوماسية، مع الإبقاء على خيارات الردع مفتوحة وضبط المخاطر الناجمة عن سوء التقدير أو الحسابات الخاطئة.


رابط دائم: