يشهد عصرنا الحالي تطورات تكنولوجية واجتماعية سريعة، أدت إلى تحول طبيعة الحروب بشكل جذري تمامًا. لم تعد الحروب تقتصر على الاشتباكات العسكرية التقليدية التي تعتمد بشكل أساسي على الجيوش النظامية، الدبابات، المدفعية، والطائرات الحربية، كما كان الحال في الحروب العالمية السابقة. بل أصبحت تركز على استهداف العنصر الأكثر أهمية وحساسية في أي مجتمع: الوعي الجمعي للشعوب، الذي يمثل الأساس للاستقرار الاجتماعي والسياسي. هذا التحول الاستراتيجي يأتي ضمن إطار نظرية “حروب الأجيال”، التي نشأت داخل مراكز الأبحاث الاستراتيجية الأمريكية في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين، تحديداً لتفسير التحديات والصعوبات التي واجهت القوى العظمى في مواجهة الحركات المقاومة غير النظامية، مثل تلك التي حدثت في فيتنام خلال الستينيات والسبعينيات، وأفغانستان في الثمانينيات. تقسم هذه النظرية الحروب إلى أجيال متتالية، تعكس تطور الأساليب العسكرية والاستراتيجية عبر التاريخ: الجيل الأول يمثل الحروب التقليدية بين الجيوش المنظمة، كما في الحروب النابليونية التي اعتمدت على تشكيلات كبيرة ومواجهات مباشرة؛ الجيل الثاني يركز على الحروب الجماهيرية مع استخدام الأسلحة النارية الثقيلة، كما في الحرب العالمية الأولى؛ أما الجيل الثالث فيعتمد على الحركة السريعة، المناورة، والحرب الخاطفة، كما شهدناها في الحرب العالمية الثانية مع استراتيجيات مثل “البليتزكريج” الألمانية؛ وأخيراً، الجيل الرابع الذي يدخل إلى عالم الحرب غير التقليدية، حيث تندمج العناصر المدنية والعسكرية.
حروب الجيل الرابع (4(GWتمثل نقلة نوعية كبيرة في الفكر العسكري، حيث تختفي الحدود الواضحة بين الحرب والسياسة، والعسكري والمدني، وتصبح الحرب حالة مستمرة غير معلنة. تعتمد هذه الحروب على أساليب نفسية عميقة، إعلامية متقدمة، واقتصادية مدروسة لإضعاف الدول من الداخل، دون الحاجة إلى غزو عسكري مباشر يتطلب موارد هائلة ويثير ردود فعل دولية. الهدف الرئيسي هو استهداف الوعي الشعبي بشكل مباشر، من خلال خلق انقسامات اجتماعية عميقة، تعزيز الشكوك في المؤسسات، وتشجيع ثورات مصنعة تبدو عفوية لكنها تؤدي إلى تفجير ذاتي للأوطان، مما يؤدي إلى انهيار داخلي يوفر على الخصم تكاليف الغزو. أما حروب الجيل الخامس (5(GW، فهي تطور أكثر تعقيدان ، حيث تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات، وسائل التواصل الاجتماعي لنشر التضليل، والحرب الإلكترونية للسيطرة على المعلومات، مما يؤدي إلى السيطرة الكاملة على العقول وتدمير الهوية الوطنية دون إطلاق رصاصة واحدة. في هذا السياق، تصبح الدولة ليست هدفًا عسكريًا فحسب، بل يتم هزيمتها من خلال التأثير الخفي على تفكير شعبها وسلوكياته، مما يؤدي إلى إسقاط مؤسساتها دون إراقة دماء مباشرة أو خسائر مادية كبيرة للمهاجم.
هذه الحروب ليست مجرد نظريات أكاديمية مجردة؛ إنها واقع ملموس يُمارس يوميًا في العديد من الدول حول العالم، خاصة في المنطقة العربية التي شهدت موجات من الاضطرابات السياسية والاجتماعية. في مصر، على سبيل المثال، واجهت الدولة حملات مكثفة وممنهجة من هذا النوع خلال العقد الماضي، تهدف إلى استهداف الوعي الشعبي الجمعي بشكل مباشر وإثارة الفتن الداخلية التي قد تؤدي إلى انقسامات عميقة.
كما أكد الرئيس عبد الفتاح السيسي في عدة مناسبات رسمية، فإن حروب الجيل الرابع والخامس تمثل قضية شديدة الخطورة على أمن مصر الوطني، مشيرًا إلى أنها تعتمد بشكل أساسي على الشائعات، التضليل الإعلامي، والحرب النفسية لتدمير الدولة من الداخل دون تدخل عسكري مباشر. سيتناول هذا المقال المدخل النظري لهذه الحروب بتفصيل أكبر، غاياتها في التفجير الذاتي للأوطان عبر الثورات المصنعة والمخططة، مع التركيز على الشائعات والبرامج الإعلامية المعادية التي استهدفت الوعي المصري، ورصد نماذج محددة من ذلك، وكيف مكن نمو الوعي الشعبي المصري من مواجهتها بفعالية كبديل عن الحروب التقليدية التي تعتمد على القوة المادية. سنربط الإطار النظري بالتطبيق العملي في مصر، مستندين إلى تصريحات الرئيس السيسي حول معركة الوعي، مع إضافة تحليل للحروب الشبحية كامتداد أو أداة ضمن هذه الحروب، لنقدم رؤية شاملة ومتعمقة.
أولًا: ماهية حروب الأجيال الرابعة والخامسة.
نشأت نظرية حروب الأجيال داخل مراكز الأبحاث الاستراتيجية الأمريكية، مثل تلك التابعة للجيش الأمريكي، كمحاولة لتبرير الفشل في مواجهة المقاومة غير النظامية التي أظهرت فعالية كبيرة ضد القوى التقليدية. في عام 1989، قدم ويليام ليند وفريقه مفهوم الجيل الرابع، الذي يعتمد على مبدأ اللامركزية، حيث يصبح الخصم غير مرئي تمامًا، ويستخدم الإعلام كأداة للدعاية، الثقافة للتأثير على القيم، والاقتصاد للضغط غير المباشر كأسلحة رئيسية بدلًا من السلاح التقليدي. هذه الحروب تستهدف “النسق الاجتماعي” بشكل مباشر، أي تدمير الروابط الاجتماعية التي تربط المجتمع، القيم الثقافية التي تشكل هويته، والثقة في المؤسسات الحكومية، مما يؤدي إلى انهيار الدولة ذاتياً دون تدخل خارجي واضح. نظريًا، تعتمد )4(GWعلى نظريات متقدمة مثل تلك الخاصة )بجون بويد في “دورة“OODAالمراقبة، التوجيه، القرار، العمل)، حيث يتم تعطيل قدرة الخصم على اتخاذ قرارات سريعة من خلال التضليل النفسي والإعلامي، مما يجعل الدولة تتخبط في ردود فعل غير فعالة.
بعد تعريف حروب الجيل الرابع، يبرز مفهوم “الحروب الشبحية” كامتداد أو شكل متطور من هذه الحروب غير التقليدية، حيث تُعرف بأنها عمليات سرية وغير مرئية تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية أو عسكرية دون ترك أثر واضح، مما يجعلها تبدو كأنها أحداث عفوية أو داخلية تمامًا. هذا المفهوم مستوحى من تجارب تاريخية حقيقية مثل دور وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية(CIA) في أفغانستان خلال الغزو السوفييتي في الثمانينيات، كما وثق بالتفصيل في كتاب“Ghost Wars” لستيف كول، الذي يصف كيف تم دعم المجاهدين بالسلاح والتدريب سرًا دون إعلان حرب رسمي، مما أدى إلى إضعاف الاتحاد السوفييتي تدريجيًا. في السياق العسكري الحديث، تعتبر الحروب الشبحية استراتيجية شاملة تنفذ عمليات بأداء نوعي عالي، لا تقبل الخطأ، وتستخدم أدوات متقدمة مثل الدعم السري للمجموعات المحلية، الحرب الإلكترونية الخفية لاختراق الشبكات، أو حتى الاغتيالات السياسية غير المعلنة لإضعاف الخصم دون مواجهة مباشرة، مما يتجنب التداعيات الدولية. هذه الحروب ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحروب الجيل الرابع، حيث تعزز اللامرئية والتأثير غير المباشر، مما يجعلها أداة فعالة في استهداف الوعي الشعبي دون إثارة ردود فعل دولية فورية، وغالباً ما تكون مقدمة لانهيار داخلي.
مع تقدم التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي، دخلنا عصر الجيل الخامس، الذي يركز على “احتلال العقول” عبر وسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي. هنا، تستخدم البيانات الكبيرة(Big Data) لتحليل سلوكيات الأفراد بدقة متناهية، وتوجيه حملات دعائية مخصصة تثير الغضب، اليأس، أو الشك في المؤسسات. )على سبيل المثال، خوارزميات فيسبوك أوXتويتر سابقًا) تعزز المحتوى السلبي بشكل تلقائي لخلق فقاعات إعلامية(Echo Chambers) تؤدي إلى انقسامات اجتماعية حادة وتعزيز الاستقطاب. في السياق العام، أدرج حلف الناتو هذه المفاهيم في استراتيجياته عام 2009، مما دفع دولاً مثل روسيا والصين إلى تطوير دفاعات مضادة متقدمة، مثل قوانين السيطرة على الإنترنت وبرامج التوعية الإلكترونية. الغاية النهائية لهذه الحروب هي “التفجير الذاتي”، حيث يدمر الشعب وطنه عبر ثورات تبدو عفوية لكنها مدبرة بعناية من قبل جهات خارجية تستغل الثغرات الداخلية.
في مصر، يرتبط هذا الإطار النظري بالواقع اليومي، كما أبرز الرئيس السيسي في تصريحاته المتكررة. فقد حذر من أن حروب الجيل الرابع والخامس تمثل خطرًا شديدًا على أمن مصر، مشيرًا إلى أنها تعتمد على التشكيك في قدرات الشعب وقياداته، مما يؤدي إلى إضعاف الثقة الداخلية. في الندوة التثقيفية الـ32 للقوات المسلحة عام 2020، أكد الرئيس السيسي أن هذه الحروب لا تعتمد على السلاح التقليدي فقط، بل تستهدف الوعي الحقيقي بغرض التضليل. هذا الربط يجعل النظرية أداة تحليلية قوية لفهم التحديات المصرية، حيث أصبحت معركة الوعي بديلًا فعالًا عن الحروب التقليدية، مع دمج الحروب الشبحية كعنصر خفي يعزز التأثير غير المباشر ويجعل الدفاع أكثر تعقيدًا.
ثانيًا: التفجير الذاتي عبر الثورات المصنعة وإسقاط المؤسسات.
تهدف حروب الأجيال الرابعة والخامسة إلى إسقاط الدول دون تحمل تكاليف عسكرية باهظة أو مخاطر دولية كبيرة، من خلال استهداف الوعي الشعبي لخلق حالة من اليأس والغضب الجماعي الذي يؤدي إلى ثورات داخلية مدمرة. هذه الثورات “المصنعة” تبدو كحركات شعبية عفوية نابعة من مطالب محلية، لكنها في الواقع مدعومة خارجيًا بشكل سري، تستغل الثغرات الاجتماعية، الاقتصادية، والسياسية لتعزيز الاضطراب. في الربيع العربي عام 2011، شهدت مصر نموذجًا واضحًا لهذا النوع من الحروب؛ بدأت الاحتجاجات في ميدان التحرير بقضايا اقتصادية مشروعة مثل البطالة والفساد، لكنها سرعان ما تحولت إلى انتفاضة شاملة أسقطت نظام الرئيس حسني مبارك بعد 30 عامًا من الحكم، مما أدى إلى فترة من الفوضى السياسية.
كانت هذه الموجة جزءًا من حملة أوسع ومنظمة بدأت في تونس بانتحار محمد البوعزيزي، الذي أشعل شرارة الاحتجاجات، وانتشرت بسرعة إلى مصر، ليبيا، وسوريا، مما أدى إلى تغييرات جذرية في المنطقة. الدراسات اللاحقة تظهر أن هذه الثورات كانت مدعومة إعلامياً من قنوات مثل الجزيرة، التي ساهمت في تضخيم الأحداث، نشر الشائعات، وإثارة الغضب الشعبي من خلال تغطية حية مستمرة وتحليلات متحيزة. النتيجة كانت تفجيرًا ذاتيًا للأوطان، حيث أدى إلى انهيار مؤسسات الدولة في بعض البلدان، مثل ليبيا وسوريا، مما فتح الباب للفوضى، الإرهاب، والتدخلات الخارجية المباشرة تحت ستار المساعدات الإنسانية.
في مصر، مكنت الانتفاضة تنظيم الإخوان الإرهابي من السلطة مؤقتاً، حيث أدت ثورة ٣٠ يونيو الشعبية العظيمة عام 2013 إلى إسقاطهم، مما يظهر كيف يمكن لهذه الحروب أن تؤدي إلى دورات مستمرة من الاضطراب وعدم الاستقرار. بما يعكس غايات الحروب في إضعاف الدولة حتى تصبح عرضة للسيطرة الخارجية أو الانهيار الكامل. الرئيس السيسي أكد في كلمته عام 2019 أن هذه الحروب تستهدف تدمير أجهزة الدولة منذ عام 2011، مشددًا على أنها قضية خطيرة تتطلب وعياً وطنياً. في حفل تخريج الكليات العسكرية عام 2021، قال: “الحروب الجديدة والجيل الرابع والخامس كلها مبنية على التعامل مش بالسلاح بس، لكن السلاح التاني هو الفهم الوعي الحقيقي بعيدا عن الجهل والوعي الزائف.” هذا الربط يظهر كيف تحولت النظرية إلى واقع عملي، حيث أصبحت معركة الوعي أساسية لمواجهة التفجير الذاتي ومنع الانهيار.
ترتبط أهداف هذه الحروب بنظرية “الفوضى الخلاقة” التي روجتها الإدارة الأمريكية في عهد جورج بوش الابن، والتي ترى في الثورات والفوضى فرصة لإعادة تشكيل المنطقة وفق مصالح غربية. في مصر، استهدفت حملات التشكيك المشاريع الوطنية الكبرى مثل قناة السويس الجديدة، التي تم تصويرها في الإعلام المعادي كفشل اقتصادي يثقل كاهل الدولة بديون خارجية، مما يهدف إلى إثارة اليأس بين الشعب. هذا يعزز الإطار النظري، حيث يصبح الوعي السلاح الرئيسي، كما أكد السيسي في تصريحاته المتعددة على أهمية الفهم الحقيقي لمواجهة الجهل والتضليل. هنا، تدخل الحروب الشبحية كعنصر حاسم، حيث تعتمد على عمليات سرية مثل الدعم الخفي للجماعات المعارضة، الحملات الإلكترونية غير المرئية لاختراق الشبكات الاجتماعية، أو تمويل المنظمات غير الحكومية تحت غطاء المساعدات، مما يعزز التفجير الذاتي دون كشف الجهات الخارجية. كما حدث في أفغانستان حيث دعمت الـCIAالمجاهدين سراً لإضعاف السوفييت، مما أدى إلى انسحابهم وانهيار الاتحاد لاحقاً. هذا الدمج بين النظرية والحروب الشبحية يجعل غايات إسقاط المؤسسات أكثر فعالية، حيث تبدو الثورات داخلية بينما هي مدبرة خارجيًا بعناية.
ثالثًا: الشائعات والبرامج الموجهة من القنوات المعادية.
الشائعات والبرامج الإعلامية المعادية تمثل أبرز الأدوات في حروب الأجيال الرابعة والخامسة لاستهداف الوعي المصري، حيث تعمل كسلاح ناعم يخترق المجتمع دون مواجهة مباشرة. خلال السنوات الأخيرة، واجهت مصر حملات ممنهجة ومكثفة من قنوات إعلامية مثل الشرق، ومكملين،BBCالعربية، ورصد، التي روجت شائعات متكررة عن بيع الأراضي المصرية لجهات أجنبية، إغلاق معبر رفح بشكل دائم، أو بيع المطارات والموانئ لشركات أجنبية، مما يهدف إلى إثارة الشك في القيادة والمؤسسات. عام 2018 وحده، رصدت الجهات المصرية أكثر من 70 ألف شائعة، معظمها يستهدف قطاعات حيوية مثل التعليم، التموين، والصحة، لإثارة الغضب الشعبي وتعزيز الاستقطاب الاجتماعي.
من الأمثلة البارزة على هذه الحملات: حملات التشويه الممنهجة ضد الدور المصري في قضية غزة، حيث روجت وسائل إعلام إسرائيلية ومتحالفة معها شائعات عن إغلاق معبر رفح بشكل تعسفي لتأليب الرأي العام العربي ضد مصر، مما يهدف إلى عزلها إقليميًا. كما نشرت صفحات ممولة على ( منصةXتويتر سابقاً) شائعات عن سحب أراضي نادي الزمالك لمشاريع أجنبية أو إضافة مواد ضارة إلى الخبز المدعوم، مما أثار مخاوف جماعية ودعوات للاحتجاجات. هذه الشائعات جزء من استراتيجية أكبر لتشويه الإنجازات الوطنية، مثل مشاريع البنية التحتية في العاصمة الإدارية الجديدة، حيث تم تصويرها كإهدار للموارد وتراكم ديون خارجية، رغم أنها تمول جزئياً من موارد داخلية.
في عام 2024، رصدت تقارير رسمية أكثر من 50 ألف شائعة رئيسية تستهدف الدول العربية، مع تركيز خاص على مصر، حيث زادت الحملات خلال الأزمات الإقليمية مثل حرب غزة. غالبًا ما تدار هذه الحملات من قبل “الطابور الخامس”، أي جماعات داخلية مثل الإخوان المسلمين، مدعومة خارجيًا. الرئيس السيسي حذر من هذا الخطر، قائلاً في عام 2021 إن هذه الحروب مبنية على تزييف الوعي من خلال الشائعات والتضليل.
ترتبط هذه الشائعات بالنظرية الرئيسية من خلال استخدام الإعلام كسلاح لاحتلال العقول، كما في نموذج الربيع العربي حيث ساهمت الجزيرة في تضخيم الأحداث من خلال تغطية مستمرة وشهادات متحيزة. هذا يؤكد أن الشائعات ليست عشوائية، بل جزء من استراتيجية ممنهجة للتفجير الذاتي.
أمثلة أخرى تشمل شائعات عن انهيار السد العالي بسبب سوء الصيانة، أو تسميم مياه النيل بمواد كيميائية، تهدف إلى خلق خوف جماعي وتشكيك في قدرة الدولة على الحماية. في سياق حروب الجيل الخامس، تستخدم الذكاء الاصطناعي لنشر هذه الشائعات بسرعة فائقة عبر الروبوتات والحسابات الوهمية، مما يعزز الانقسامات الاجتماعية والطائفية. الربط النظري واضح؛ كما في نظرية ويليام ليند، يصبح الإعلام أداة رئيسية لتدمير النسق الاجتماعي من الداخل. هنا، تندمج الحروب الشبحية بشكل كبير، حيث تعتمد على حملات إعلامية سرية مدعومة من جهات خارجية غير مرئية، مثل الدعم الخفي للصفحات الممولة أو البرامج الموجهة التي تبدو محلية لكنها جزء من عمليات وكالة، مشابهة لدور الـCIAفي نشر الدعاية السرية في أفغانستان خلال الثمانينيات. هذا يعطي مساحة واسعة للتحليل في كيفية استخدام الحروب الشبحية كغطاء مثالي للشائعات، مما يجعلها أكثر فعالية في استهداف الوعي المصري دون كشف المسؤولين الحقيقيين، ويبرز الحاجة إلى استراتيجيات دفاعية متقدمة.
رابعًا: نمو وعي المصريين ودوره في معركة الوعي.
رغم شدة وتكرار هذه الحملات، مكن نمو الوعي الشعبي المصري من مواجهتها بفعالية ملحوظة، مما يعكس تحولًا في استراتيجيات الدفاع الوطني. بدأت الدولة المصرية بتطوير استراتيجيات شاملة لمكافحة الشائعات، مثل إنشاء وحدات رصد إلكترونية متخصصة في مراقبة وسائل التواصل، وإصدار قوانين صارمة تفرض غرامات مالية وعقوبات جنائية على مروجي الأكاذيب المضللة. كما ساهمت حملات التوعية الإعلامية الرسمية في تعزيز الوعي ضد الحرب النفسية، خاصة بعد تجربة الربيع العربي التي كشفت مخاطر الثورات المصنعة وكيف يمكن للإعلام أن يحول احتجاجات محدودة إلى ثورات شاملة.
خلال حرب غزة الأخيرة، زاد الوعي بين الشباب المصري حول آليات التضليل الإعلامي، مما أدى إلى رفض واسع للشائعات ودعم قوي للدور المصري في التفاوض والمساعدات الإنسانية. برامج تلفزيونية كشفت هذه المؤامرات من خلال تحليلات مباشرة وكشف الحقائق، محذرة من صفحات ممولة تستهدف الدولة. تطور نظام التعليم، مع إدراج مواد عن التربية الإعلامية، والتوعية النفسية من خلال حملات حكومية، بنى مجتمعاً أكثر مقاومة للتأثيرات الخارجية.
الرئيس السيسي أكد هذا النمو في الوعي في تصريحاته المتعددة؛ في الندوة التثقيفية عام 2025، قال إن الحرب ليست بالسلاح فقط بل بالعلم، المعرفة، الوعي، والإرادة الوطنية. في عام 2021، شدد على أن مواجهة هذه الحروب ترتكز على الوعي الصحيح بعيداً عن الجهل. هذا يربط النظرية بالتطبيق العملي، حيث أصبح الوعي دفاعاً رئيسياً عن الوطن، كما في نموذج مصر الذي تحول من ضحية للحملات إلى نموذج ناجح في مواجهة حروب الأجيال الرابعة والخامسة.
يعكس نمو الوعي تطبيقًا عمليًا لنظرية بويد في “دورة"OODA، حيث يعطل المصريون دورة التضليل بالتحقق السريع من المعلومات عبر مصادر رسمية. هذا جعل مصر نموذجاً إقليمياً، كما أشار السيسي إلى أهمية الوعي في بناء الدولة القوية. في هذا السياق، يلعب دور الحروب الشبحية دوراً حاسماً في التحليل، حيث يتطلب نمو الوعي مواجهة العمليات السرية غير المرئية، مثل كشف الدعم الخفي للشائعات أو البرامج المعادية من خلال تقنيات الذكاء الاصطناعي الدفاعية. من خلال وحدات الرصد الإلكتروني وبرامج التوعية، نجحت مصر في كشف بعض هذه العمليات الشبحية، مما يعزز الوعي كسلاح دفاعي فعال ضد التهديدات الخفية، مشابهة لكيفية تعامل الولايات المتحدة مع الحروب بالوكالة في أفغانستان لكن بطريقة دفاعية وقائية، مع التركيز على بناء المناعة الاجتماعية.
خامسًا: دروس من التجربة المصرية وآفاق المستقبل.
تكشف حروب الأجيال الرابعة والخامسة عن حقيقة أساسية، ألا وهي أن الوعي الجمعي الشعبي السليم ليس مجرد دفاع، بل هو سلاح المواجهة الرئيس في عصرنا الحالي، فهو قادر على إحباط أكبر التهديدات دون إراقة دماء.
في مصر، تحولت هذه الحروب من تهديد وجودي يهدد بتفكك الوطن إلى فرصة ذهبية لبناء مجتمع أكثر تماسكًا، ووعيًا، وصمودًا، كما أكد الرئيس عبد الفتاح السيسي في تصريحاته المتكررة، حيث شدد على أن “معركة الوعي هي البديل الأساسي عن السلاح التقليدي، وهي التي تحمي الأوطان من الانهيار الداخلي”. هذا التحول لم يكن مصادفة، بل نتيجة استراتيجية وطنية متكاملة ربطت بين النظرية والتطبيق، حيث أظهرت التجربة المصرية أن الشعوب ذات الوعي العالي لا تهزم، بل تتحول التحديات إلى قوة دافعة للتقدم، خاصة أمام التحديات الجديدة مثل الحروب الشبحية التي تعتمد على الغموض والتخفي.
الدروس المستفادة من التجربة المصرية واضحة وملهمة، حيث يجب تعزيز برامج التوعية الشاملة، التعليم الإعلامي في المدارس، والرصد الإلكتروني المتقدم لمواجهة هذه التحديات، فالغاية النهائية لهذه الحروب ليست الغزو المباشر بل الانهيار الذاتي من الداخل، الذي يفتح الباب للسيطرة الخارجية.
هنا، تضيف الحروب الشبحية عمقاً إضافياً للتحليل، حيث تكشف عن أبعاد سرية تجعل مواجهة هذه الحروب أكثر تعقيداً وتطلب استراتيجيات دفاعية متعددة الطبقات، لكن نمو الوعي المصري أثبت فعاليته في كشف هذه الحروب الشبحية، وتحويلها إلى دروس قيمة للمستقبل، وتعزيز الاستقرار الوطني. إن مصر اليوم ليست مجرد نموذج ناجح، بل هي دليل حي على أن الوعي يمكن أن يغير مسار التاريخ، وأن الشعوب الحرة قادرة على هزيمة أعدائها بالفكر قبل السلاح. فلنتعلم من هذه التجربة، ولنبني مستقبلًا مصريًا يعتمد على الوعي كأقوى درع، ضمانًا للسيادة والازدهار في وجه كل التحديات المحتملة القادمة.
نقلا عن جريدة الجمهورية، الأحد 26أكتوبر 2025.