لعلنا لا نعلن سرا بالقول: إن التقدم التكنولوجي وبروز الفضاء السيبراني وهيمنته على حياتنا اليومية، وسيطرته على الساحة العالمية، قد غير من قواعد اللعبة في ميادين الصراع والتعاون الدولي على حدٍ سواء, مما غير المعادلات، وطريقة المواجهة بين الدول، وقدرتها على التحكم في قوة وسلوك الدول، وأن انتقال القوة عبر الفضاء السيبراني، قد حفز الدول الكبرى إلى التسارع والتسابق لخوض غمار هذه الحرب السيبرانية التي غيرت الواقع وفرضت سيطرة عالمية من نوع جديد, حيث إن تصاعد هذه الحرب وزيادة مكانتها وقوتها والدور الكبير المؤثر الذي تمارسه على الدول، فرضت عليها وضع استراتيجيات تختص بمجال الأمن السيبراني للمحافظة على أمنها، وبنيتها التحتية، ومصالحها السياسية، والوقاية من التهديدات السيبرانية فالحروب والهجمات السيبرانية باتت أكبر وأخطر التهديدات التي يواجهها العالم اليوم، فهذه الحرب لا تستهدف الدول فحسب بل إن كل شيء يعمل على البرمجيات هو عرضة للاستهداف السيبراني.
كما رفعت نهاية الحرب الباردة الستار عن العديد من التحديات والتهديدات التي لم يشهدها المجتمع الدولي من قبل، والتي تعرف بالتهديدات اللاتماثلية أو اللاتناظرية العابرة للحدود التي لا تعترف لا بالحدود أو السيادة الوطنية أو فكرة الدولة القومية، الأمر الذي أدى إلى حدوث تحولات في حقل الدراسات الأمنية والاستراتيجية، حيث ظهر الفضاء السيبراني كساحة جديدة للصراع بشكله التقليدي، ولكنه ذو طابع سيبراني يعكس النزاعات التي تخوضها الدول أو الفاعلين من غير الدول على خلفيات أيديولوجية، أو اقتصادية، أو سياسية، كذلك أصبح الفضاء السيبراني الميدان الرئيسى للمعركة لهذه الدول، ولكنه ليس الميدان الوحيد، فكما تقاتـل القـوات المسلحة في الميادين الأربعة التقليدية الأرض، والبحر، والجو، والفضاء الخارجي فإن الجيوش السيبرانية تقاتل في جميع هذه الميادين مشتركة إلى جانب قتالها في الميدان الافتراضي.
وفقا لما تقدم بدأت دول العالَم تستكشف الخيارات المتاحة لتعزيز قدراتها الهجومية في الفضاء السيبراني، حيث الثابت اليوم في العلاقات الدولية وتوازنات القوى أن الصراع السياسي بين الأقطاب في العالم تحول إلى حرب سيبرانية صامتة، وقد تكون مدمرة في الأعوام المقبلة، وقد أعدت دول كثيرة عدتها للتحول إلى مرحلة جديدة لإعادة حساباتها ومراجعة أولوياتها حتى تكون على أهبة الاستعداد للتعامل مع حروب المستقبل، وأضحى من يسيطر ويحكم قبضته على الفضاء الرقمي هو من يفوز بالرهانات المستقبلية، وعليه أصبح الصراع من أجل السيطرة على الفضاء السيبراني الشكل المهيمن للمنافسة الاستراتيجية بين الدول في عصر المعلومات، كون المعلومات تعد موردا استراتيجيا على شاكلة النفط، فتحتدم المنافسة ما بين الدول لتعظيم الاستفادة من مزايا السيبرإنية عسكريا، واقتصاديا، وسياسيا.
بمقاربة ساندة لما تقدم أولت الكثير من الدول المتقدمة اهتماما واضحا في توظيف الفضاء السيبراني لتعزيز قوتها، ولا يختلف اثنان على أن الصين حققت خلال السنوات الماضية انطلاقة متزايدة في المجالات والميادين كافة وفقا لتقارير أعدت في الغرب والشرق، يأتي في مقدمتها الاقتصاد الذي مكنها من الصعود إلى مصاف القوى الكبرى، حيث تحتل الصين المرتبة الأولى عالميا من حيث معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي، فضلا عن ذلك أنها الأولى عالميا من حيث الموارد البشرية، والأولى عالميا من حيث معدل سرعة النمو الاقتصادي، وتمثل ثاني أكبر اقتصاد عالميا من حيث القوة الشرائية، وتمتلك أضخم جيش في العالم تسانده قوات احتياط، ولديها ثاني أكبر ميزانية معلنة للدفاع بعد الولايات المتحدة الأمريكية، هذا إلى جانب كونها القوة النووية الثالثة في العالم بعد الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، ناهيك عن المقومات السالفة الذكر تتمتع الصين بخصائص سياسية متنوعة باعتبارها دولة تجمع بين متطلبات القوى الكبرى، كونها ضمن الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وهو ما يسمح لها بممارسة تأثير كبير في مجريات الأحداث العالمية، وهي أكبر دولة يستخدم شعبها الإنترنت، كما أنها تحتل المرتبة الرابعة عالميا من حيث المساحة بعد روسيا، وكندا، والولايات المتحدة. ناهيك عن موقعها الاستراتيجي الذي يربط شرق آسيا بشرق أوروبا، والذي يجعلها تتحكم بعدد من طرق الملاحة البحرية، والجوية، والبرية، فالصين بما لديها من مقومات تطرقنا إلى بعضها، استطاعت أن تحقيق مكانة متقدمة في النظام العالمي كونها القوة الوحيدة حاليا التي يمكن وصفها بالقوة الموازية التي تستطيع أن تنافس الولايات المتحدة على الريادة العالمية.
إن صعود الصين إلى مكانة القوة "الموازية" للولايات المتحدة الأمريكية كثيرا ما يثير القلق والهواجس لدى القوى العالمية، كما أنه يمثل المتغير الاستراتيجي الرئيسي الذي أطلق الموجة الراهنة من التنافس الاستراتيجي بين القوى الكبرى، حيث إن الولايات المتحدة لم تنظر يوما إلى الصعود الصيني على أنه صعود سلمي، وإنما تعده مصدرا يهدد مكانتها ومصالحها القومية، وعاملا سلبيا يهدد الاستقرار العالمي والإقليمي، وهذا هو التفسير الحقيقي لمرحلة توتر العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين في الوقت الحالي، ومن مبرراتها حسب القيادة الأمريكية حماية المصالح الأمريكية والقيم الليبرالية من التهديد الصيني.
وتجدر الإشارة هنا، أن الولايات المتحدة تدرك أن إضعاف أو تفكيك الصين ليس بالأمر السهل، كما أنه في حالة تحقيقه فإن النتائج التي تترتب عليه ستكون بالغة الخطورة على مصالحها، لذلك فهي تنتهج الاستراتيجية البديلة من أنماط الاستراتيجية الأمريكية"إذا كان هنالك عدو لا يمكن تدميره، ينبغي العمل على تشتيته"، وربما ذلك يفسر الكيفية التي تحاول بها الولايات المتحدة تطويق التنين الصيني، سواء عن طريق الدخول في تحالفات عالمية مع الدول المناوئة لها، أو إثارة الاضطرابات في الدول التي تمثل أهمية استراتيجية لها، أو حتى التورط في إثارة الاضطرابات داخل الصين نفسها عن طريق دعم الأقليات مثل قبائل الإيجور، ودعم المعارضة في هونج كونج، أو عن طريق الحرب الإعلامية على غرار التصريحات المتكررة والمستفزة للرئيس الأمريكي "دونالد ترامب". ومع تصاعد التوتر والصراعات في العلاقات بين الدول على المستويين الإقليمي أو الدولي، تلجأ الدول إلى توظيف الحروب السيبرانية كأدوات إضافية في إدارة صراعها مع خصومها، حيث سعت الولايات المتحدة الأمريكية -ولا تزال- إلى بناء استراتيجيات للتصدي للصعود الصيني بما يحفظ مكانتها وتفوقها الدولي في الفضاء السيبراني، في ظل التنافس الاستراتيجي الأمريكي-الصيني حول احتكار التكنولوجيا والتقنية، وحقوق الملكية الفكرية، ونقل التكنولوجيا، وتطوير تقنية الجيل الخامس والتي ترى فيها الولايات المتحدة الأمريكية مجالا سوف يمكن توظيفه في مجال الأنشطة الاستخباراتية، فيما سعت الصين بشكل دءوب لفض ذلك الاحتكار والسعي في أن تتخلص من تبعيتها التكنولوجية للغرب، حيث تسعى الصين إلى السيطرة الرقمية، والاستثمار في تقنية الجيل الخامس، وفي ظل التصعيد الأمريكي، تقوم الصين بتغيير عقيدتها الصناعية حاليا من أجل تحقيق الهيمنة في مجال التكنولوجيا الفائقة الذكاء وتحقيق مزيد من الاحتكار في الأسواق العالمية، بحيث تصبح في باكورة صفوف الدول المبتكرة للتكنولوجيا وليس المقلدة لها، وفي ذلك تصطدم بالولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا من عدة جوانب، فهي من ناحية تمثل تهديدا للأمن القومي لتلك الدول، والخشية من التعرض للاختراق في أثناء استخدام التكنولوجيا الصينية، ومن ناحية أخرى تمثل تهديدا مباشرا للاقتصاديات الغربية التي لا تزال تستحوذ على المراتب الأولى في هذه التقنيات.
تأسيسا لما تقدم يمكن القول إن المجال السيبراني قد دخل ضمن الميادين البديلة للقوة وأبعادها من حيث طبيعتها وأنماط استخدامها، فضلا عن طبيعة الفاعلين وهو ما كان له انعكاس على قدرات الدول وعلاقاتها الخارجية. ونظرا إلى استبعاد الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، من المحتمل أن يأخذ الصراع في المستقبل أشكالا صامتة مختلفة منها الهجمات السيبرانية , كون الفجوة في القوة العسكرية بين الصين و الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال لصالح الولايات المتحدة، لذا فالصراع ربما قد يبقى في الفضاء السيبراني، فيتضح هنا ان القوة السيبرانية التي تمتلكها الصين أدخلتها في مصاف الدول الكبرى، مع احتمالية الانتقال من الهيمنة إلى ثنائية الأقطاب، على أساس أن الصين قد تتجاوز الولايات المتحدة الأمريكية اقتصاديا، مع بقاء الولايات المتحدة الأمريكية القوة العسكرية الأكبر.
وعليه إن الفضاء السيبراني سلاح ذو حدين، لما يتضمنه من إيجابيات من جهة ومن تهديدات وتحديات من جهة أخرى، ولا سيما أن الهجمات السيبرانية أصبحت مركبة، ومعقدة، ومتسارعة، وخطيرة، ويصعب على الكثير من الدول التغلب والدفاع عن أمنها السيبراني دون وجود استراتيجية شاملة للأمن السيبراني، تأخذ بعين الاعتبار كل الاحتمالات للوقاية من مخاطر وتهديدات هذا الفضاء العالمي المتسع، الذي أصبح دون شك ميدان الحرب الجديد بين أطراف القوى العالمية العظمى والكبرى.
ما نخلص إليه أن الميدان السيبراني لم يخلق فقط مجالا جديدا للصراع، بل جعل الصراعات الجيوسياسية التقليدية، بين أمريكا والصين وباقي الفواعل الدولية أكثر تعقيدا على مر العصور.
رابط دائم: