السردية عن عالم المخابرات ليست بالأمر اليسير، بل هي عملية غاية في الصعوبة ويكتنفها الكثير من العناء، لما لهذا العالم من أهمية وخصوصية ومتغيرات مستمرة من جهة، ولوجود علاقة جدلية بين عمل المخابرات وقرار الحرب من جهة ثانية. فقد يُخيّل للآخرين أحيانا أنه عالم غير واقعي وذلك لما ينقل عنه من قصص وأساطير. هذا العالم المجهول مهما بلغ ثراء المعلومات عنه ومهما كتب عنه يبقى الغموض السمة الأهم في هذا العالم، وهو العالم والأكثر تفردا في نواحي الغرابة التي تحكم نظمه ورجاله. ولكنه يبقى جهدا إنسانيا يحتمل الصواب والخطأ. فقد غير هذا الجهد وعبر قنواته الخاصة خرائط البلدان، وأحداث التاريخ، ومصائر الشعوب، فمن هنا تنبع أهمية هذا العالم الغريب والخطير، فمهما سبر الكتُّاب والباحثون أغوار هذا العالم يبقى بحاجة إلى المزيد من البحث والتقصي، لأنه عالم متغير لا يستند إلى الثوابت سوى المصالح التي ينشأ من أجلها، وهو قديم قدم وجود الإنسان نفسه، وإن تغيرت الأساليب والطرق بتغير وسائل التكنولوجيا وتطورها، ولكن هناك ثابت واحد يبقى سرمديا في عمل أجهزة المخابرات وهو عملية جمع المعلومات وما يدور في نوايا العدو، وتحليلها وتوظيفها في خدمة الهدف والمصلحة لهذا الطرف أو ذاك.
في سياق التطور التاريخي، كان هذا الجهد مقتصرا على المجال العسكري فقط، إلا أنه تطور ليشمل المجال المدني أيضا وذلك نتيجة لظهور أنظمة السطوة والاستبداد. أما المخابرات بأسلوبها الحديث فلم تعرف إلا مع نهاية القرن الثامن عشر، وفيه تأسست القواعد الأولية لعلم التخابر القائم على حفظ أمن الدولة الخارجي عن طريق استقصاء المعلومات التي تهدد أو تعد خطرا على الأمن القومي، وفي الوقت نفسه حماية الدولة من المخابرات المعادية أو ما يعرف باسم الجاسوسية المضادة. وأقدم وأعرق أجهزة المخابرات في العالم هي جهاز المخابرات البريطاني "المكتب السادس MI6" وجهاز المخابرات السوفيتي "كي جي بي" KGPوالذي تحول مع انهيار النظام الشيوعي في الاتّحاد السوفيتي إلى جهاز "الأس أف آر" SFRأو المخابرات الروسية، وكان أول رئيس للجهاز الجديد الجنرال يفجيني بريماكوف الذي تولى فيما بعد رئاسة الوزارة في روسيا الاتّحادية، ومع السوفيت والإنجليز يقبع جهاز المخابرات الألماني "إن بي دي" NPDويشاركهم العراقة والقدم في هذا المجال وتبعتهم الأجهزة الأخرى سواء (DST) "دي أس تي" الفرنسي أو "سي آي إي" CIAالأمريكي وغيرهما، ومسألة القدم أو العراقة تختلف عن مقياس البراعة والنجاح لأن التفوق مرهون بزمن معين فقط. إن عمل أجهزة المخابرات ليس كما هو يسمع عنه، أنها تبادل إطلاق نار ومغامرات ومطاردات على النحو الذي تصوره السينما العالمية، إنما هو عمل من أعمال العقل البشري من الدرجة الأولى، لذا تتمتع المخابرات في أي دولة نظامية بولاية مطلقة على أعمالها، بمعنى أنها في حدود عملها تمتلك صلاحيات وسلطات تعد هي الأعلى بين سائر الأجهزة الأمنية دون استثناء.
لقد تزامن تطور العرف المخابراتي مع بداية تطور الاستخبارات العسكرية، وعلى أية حال فالثورة العسكرية الفرنسية الصناعية المخابراتية لم تكن العامل الوحيد الذي كان ذا أهمية كبيرة في حينه، بل في الحقيقة تُعدُّ المخابرات أن العوامل الصناعية، واللوجستية، والاقتصادية حاسمة أيضا لدعم الجيوش، لذلك كان هذا مقدمة للاختراع النابليوني الجديد للجيوش المجنّدة الهائلة التي يقال عنها الجيل الثاني من طرق الحرب التي تشدّد على أهمية الاستخبارات. ولكن حتى لو كان مفهوم المخابرات مهما جدا، فإن ما ورد أخيرا لا يمكن القياس عليه في تعريف مفهوم المخابرات. والسبب بشكل رئيسى لهذه الحالة نابع من حقيقة البحث في هذا الحقل الذي بدأ بعد الحرب العالمية الثانية. فكما أشار ديريان (1992)، إلى أن مفهومه أقل فهما وأكثر ورودا تحت عنوان نظرية العلاقات الدولية. لكن كتّاب بارزين مثل كينت (1949)، الذي حاول إعطاء تعريف ملم بالمخابرات حين قال "المخابرات هي المعلومات والنشاطات المنظمة".
والمخابرات نشاط مهم في عالم اليوم. ولكن يجب عدم الاعتماد عليه أكثر من اللازم لأنه في بعض الأحيان هناك حالات قد يقع فيها أحد صنّاع القرارات في خطأ وقد يظلّ يكرّر الأخطاء نفسها التي عاشها في الماضي. فالمخابرات عامل حاسم، ومن المهم جدا أن يعتمد عليه رجال السياسة قبل اتّخاذ الإجراء ولكن يجب ألا يكون هو العامل الوحيد.
في سياق ما تقدم ما الذي يعنيه بالضبط مفهوم المخابرات، إذن هل هي المعلومات التي تحتاجها الحكومة لكي تكون عندها القدرة على تنفيذ سياستها، كونها وسيلة لحماية مصلحة الأمة في حال وقوع أيّ نوع من أنواع الهجوم الداخلي أو الخارجي الذي تتوقع حدوثه؟ أم هي نشاط بحسب هذا التعريف يشير ضمنا إلى أن المخابرات يمكن أن تكون خطوة تتّخذ نحو جمع وتحليل ونشر البيانات والمعلومات لغرض تعريف المهتمين بالمؤسسة المخابراتية. من الناحية الأخرى تتضمّن المخابرات أيضا نشاطات تنفّذ للتغلّب على نشاطات عدائية. وهذا النشاط يلحق أيضا بمكافحة المخابرات المعادية إذ يتم إنشاؤها بصفتها وسيلة لإخفاء المعلومات الحساسة. وأخيرا وليس آخرا فإن المخابرات المشار إليها آنفا هي منظمة تعنى بهذه النشاطات.
ومن الجدير بالذكر أيضا أن أحد المنظريّن والممارسين للعلم المخابراتي المعاصر -مارك لوينثال- يدعم وجهات النظر التي عرضها كينت (1949) إذ إنّه قد عرّف المخابرات بوجهة أكثر اتّساعا، حيث قال أن المخابرات هي عملية إنتاج منظمة للمعلومات. فضلا عن ذلك كان تعريف جونس وويرز (2004) أكثر صلابة من تعريف لوينثال، إذ أضاف يجب أن يتضمّن مفهوم المخابرات القراءات التي جمعت والتي لها الميل للتركيز على القضايا ذات الأهمية الحساسة كـ: "قضايا السياسة الوطنية". من ناحية أخرى فهناك علماء بارزون آخرون، مثل هيرمان (2001) دعم تعريف كينت أيضا وأكّد على أهمية قوّة الاستخبارات. ناهيك عن أن كينت (1949) يعد مفهوم المخابرات أيضا مفهوما حساسا وأوسع من جمع المعلومات فحسب. وبذلك نستطيع أن نعرف المخابرات بأنّها عملية وناتج نهائي. ولكن يتقرّر ذلك بشكل كبير في الحقيقة من قبل الناس والمنظمات التي تشكّل تلك المنتجات المعلوماتية. فمن المهم أيضا الإشارة إلى أن المخابرات ما هي إلا حالة ديناميكية طبيعية جدا قد تكون عرضة للتغيير بصورة كبيرة، لذلك قد يكون من الصعب الالتزام بتعريف معيّن، على الرغم من أن هناك ضرورة للتذكير بأن ما ورد عن كينت (1949) من تعريف هو الأقرب الذي ينظر من خلاله للمخابرات كونها تضمينا للمعلومات والنشاط والمنظمة.
فالكاتب والدبلوماسي نيكولاي ميكافيللي، يشير إلى أن الدبلوماسي ضليع بخمس مهام يستوجب تأديتها بضمنها جمع المعلومات، وقال إني شخصيا أصرّح بأنّه: "يتوجب على الدبلوماسي أن يكون دءوبا في الحصول على المعلومات وكتابة التقارير وإرسالها لبلده، لأن فيها ما يتضمّن المسئولية عن توقّع التطوّرات المستقبلية. فضلا عن ذلك، فإنّ العديد من التوقّعات صنعت من الدبلوماسيين نتيجة جمعهم المعلومات العلنية والسرية وهم على معرفة كافية بكيفية إدارة شبكات وكلائهم، ناهيك عن المعلومات التي جُمعت بطرق خاصة غير مؤسّساتية. على أية حال من المهم الإشارة إلى أنّه خلال منتصف القرن الثامن عشر، أصبحت الهيئة الاستخباراتية كيانا منفصلا وتحوّلت تدريجيا لكيان خاضع لما يعرف بالاتفاقيات والأنظمة الدبلوماسية. لذلك فإن اتّفاقية فيينا لعام 1961 نصت على أنّ "البعثة الدبلوماسية يجب أنْ تؤسّس بكلّ الوسائل القانونية المشروطة ويتم تطويرها وفق حالة البلد المضيف".
رابط دائم: