شهدت المنطقة فى سبتمبر 2025 حدثًا استراتيجيًا بارزًا بتوقيع اتفاقية الدفاع المشترك بين السعودية وباكستان، وهو تطور يعكس حجم التحولات التى يشهدها الشرق الأوسط فى لحظة إقليمية ودولية شديدة التعقيد. فالخطوة لم تأتِ فى سياق ثنائى ضيق، بل جاءت فى ظل تصاعد العدوان الإسرائيلى على غزة، واستمرار التوتر السعودي-الإيرانى، وتراجع الثقة بالمظلة الأمنية الغربية، مما جعلها رسالة واضحة بأن الرياض تبحث عن بناء خيارات دفاعية جديدة أكثر استقلالية، وأن إسلام آباد توظف قوتها العسكرية والنووية لتعزيز مكانتها الاستراتيجية فى محيطها الأوسع. ومن ثمّ، فإن الاتفاقية تمثل منعطفًا حاسمًا ليس فقط فى مسار العلاقات السعودية-الباكستانية، بل فى مستقبل بنية الأمن الإقليمى والتوازنات الاستراتيجية فى الشرق الأوسط.
الخلفية التاريخية للعلاقات السعودية-الباكستانية:
منذ إعلان استقلال باكستان عام 1947، برزت السعودية كأحد أوائل الداعمين للدولة الوليدة سياسيًا واقتصاديًا، حيث رأت الرياض فى إسلام آباد حليفًا استراتيجيًا يعزز مكانة العالم الإسلامى على الساحة الدولية. هذه العلاقة تعززت مع البعد الدينى، إذ ينظر الشعب الباكستانى إلى المملكة باعتبارها قبلة المسلمين ومركز ثقلهم الروحى، مما جعلها تحظى بمكانة خاصة لا تضاهيها أى دولة أخرى فى وعى النخبة الباكستانية وصانع القرار.
خلال العقود الأولى تركز التعاون بين البلدين على الدعم الاقتصادى السعودى لباكستان، حيث وفرت الرياض النفط بأسعار تفضيلية وقروضًا ومنحًا ساعدت الاقتصاد الباكستانى على تجاوز أزمات متكررة. فى المقابل أظهرت باكستان وفاءً سياسيًا للسعودية فى المحافل الدولية، إذ دعمت مواقفها فى الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامى، كما وقفت إلى جانبها فى الدفاع عن القضايا الإسلامية.
البعد العسكرى أخذ منحى أكثر وضوحًا منذ سبعينيات القرن الماضى، حين استعانت السعودية بالخبرات الباكستانية فى تدريب قواتها المسلحة. وبرز الدور الباكستانى فى سلاح الجو بشكل خاص، حيث شارك طيارون باكستانيون فى حماية الأجواء السعودية خلال فترات التوتر مع إسرائيل، بل تشير بعض الوثائق إلى مشاركتهم المباشرة فى مواجهة الغارات خلال حرب أكتوبر 1973. كما أرسلت باكستان وحدات عسكرية لتأمين المنشآت الحيوية السعودية، خاصة فى حقبة الثمانينيات التى شهدت اضطرابات إقليمية مع اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية.
التعاون الأمنى لم يتوقف عند حدود التدريب أو الحماية، بل شمل أيضًا تطوير الصناعات الدفاعية، حيث نقلت باكستان خبرات فى مجال تصنيع الأسلحة الخفيفة وتكنولوجيا الصواريخ قصيرة المدى، مما منح السعودية فرصة لبناء قاعدة صناعية أولية. وفى المقابل ساهمت السعودية فى تمويل بعض برامج التسليح الباكستانية، وهو ما أعطى العلاقة طابعًا تبادليًا قائمًا على المصلحة المشتركة.
وفى محطات الأزمات تكشفت أهمية هذا التحالف؛ فخلال الحروب الباكستانية-الهندية (1965، 1971، 1999)، دعمت السعودية باكستان سياسيًا وماليًا، فيما لم تتردد إسلام آباد فى دعم الرياض أثناء حرب الخليج الأولى عام 1991، حيث أرسلت آلاف الجنود للمشاركة فى حماية الأراضى السعودية من أى تهديد مباشر. حتى فى مواجهة التهديدات الإرهابية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، تعاون البلدان فى تبادل المعلومات ومكافحة التنظيمات المتطرفة، مما أعطى العلاقة بعدًا أمنيًا جديدًا.
ومع صعود البرنامج النووى الباكستانى فى التسعينيات، برزت تكهنات متكررة حول "مظلة ردع نووى غير معلنة" قد توفرها إسلام آباد للرياض فى حال تعرضها لتهديد وجودى، وهو ما يعكس حجم الثقة الاستراتيجية التى ميزت العلاقة. ورغم أن هذا البعد ظل فى إطار التلميح لا التصريح، إلا أنه أضفى على العلاقة ثقلًا خاصًا فى ميزان القوى الإقليمى.
هكذا يمكن القول إن العلاقات السعودية-الباكستانية لم تكن مجرد تواصل دبلوماسى أو تعاون اقتصادى عابر، بل تشكلت عبر سبعة عقود كشراكة متينة تتشابك فيها الروابط الدينية، والسياسية، والاقتصادية، والعسكرية، بحيث أصبحت نموذجًا فريدًا لتحالف استراتيجى طويل الأمد فى العالم الإسلامى، الأمر الذى يمهد لفهم طبيعة الاتفاقية الدفاعية الجديدة التى تعكس تراكم هذا التاريخ وتعيد صياغته فى سياق التحديات الراهنة([1]).
الاتفاقية الدفاعية:
تأتى اتفاقية الدفاع المشترك بين السعودية وباكستان كإطار مؤسسى غير مسبوق فى مسار العلاقات الثنائية، إذ جمعت بين البنود التقليدية للتعاون الدفاعى، وبين مضامين استراتيجية أكثر عمقًا تعكس تطلعات البلدين لمواجهة التحديات الأمنية فى المرحلة المقبلة.
فى بنيتها الأساسية، نصّت الاتفاقية على مبدأ الدفاع المشترك، أى إن أى اعتداء على أحد الطرفين يُعتبر عدوانًا على الطرف الآخر، وهو ما يرقى إلى صيغة شبيهة بآليات "الأمن الجماعي" المعمول بها فى التحالفات العسكرية الكبرى مثل حلف الناتو. هذا البند يعكس انتقال العلاقة من مجرد تعاون تدريبى أو تسليحى إلى التزام متبادل يضفى على التحالف طابعًا رسميًا وملزمًا.
كما شملت الاتفاقية تعزيز برامج التدريب العسكرى عبر تبادل الخبرات وإرسال بعثات مشتركة، إلى جانب التعاون فى الصناعات الدفاعية، وهو بند يُعدّ جديدًا من حيث المضمون والعمق. فالسعودية تسعى ضمن "رؤية 2030" إلى توطين 50% من صناعاتها الدفاعية، وباكستان تملك خبرة متقدمة فى مجالات التصنيع العسكرى وخاصة فى الذخائر الخفيفة وتكنولوجيا الصواريخ والطائرات من دون طيار، مما يجعل هذا التعاون رافعة عملية لطموحات الرياض فى بناء قاعدة صناعية دفاعية محلية.
الأكثر حساسية هو البعد النووى غير المباشر؛ فباكستان دولة نووية معلنة تمتلك ترسانة معتبرة من الرءوس والصواريخ الباليستية، بينما لا تمتلك السعودية قدرات نووية عسكرية لكنها تملك موارد مالية هائلة وشبكة تحالفات إقليمية. الاتفاقية لا تشير صراحة إلى أى تعاون نووى، لكن مجرد الشراكة الدفاعية مع دولة نووية مثل باكستان يفتح الباب لتأويلات استراتيجية حول "مظلة ردع غير معلنة" قد تُسهم فى تعزيز موقع الرياض أمام خصومها الإقليميين، خصوصًا فى مواجهة إيران التى تقترب من العتبة النووية([2]).
من بين مضامين الاتفاقية أيضًا ما يمكن وصفه بالانفتاح الإقليمى، إذ جرى الحديث عن إمكانية توسعها لتشمل أطرافًا عربية وإسلامية أخرى. هذا البعد يطرح تصورًا مستقبليًا لمحور أمنى إسلامى قد يُعاد صياغته على غرار "التحالف الإسلامى العسكرى لمكافحة الإرهاب" الذى أُعلن عام 2015، لكنه فى هذه المرة سيكون أكثر وضوحًا فى طبيعته الدفاعية التقليدية.
وبالنظر إلى توقيت توقيع الاتفاقية، يتضح أنها لا تقتصر على تأطير التعاون العسكرى الثنائى، بل تحمل رسائل سياسية إقليمية ودولية:فهى موجهة إلى إيران كإشارة إلى أن السعودية تمتلك حلفاء ذوى ثقل عسكرى، وإلى إسرائيل بأن أى محاولة لتوسيع دائرة الصراع مع الفلسطينيين قد تواجه بردع إقليمى أوسع، كما أنها رسالة غير مباشرة إلى الولايات المتحدة بأن الرياض لم تعد رهينة للمظلة الأمنية الغربية، وأنها تنوّع خياراتها الدفاعية عبر بناء تحالفات مع قوى إسلامية كبرى.
إن مضامين هذه الاتفاقية تجعلها مختلفة عن كل الاتفاقيات السابقة بين البلدين، حيث لا تكتفى بتكرار نماذج الدعم والتدريب التقليدية، بل تؤسس لمرحلة جديدة قوامها الدفاع المشترك، وتوطين الصناعات الدفاعية، وتعزيز الردع الاستراتيجى، وهى محاور تجعلها خطوة فارقة فى رسم ملامح الأمن الإقليمى خلال السنوات المقبلة.
السياق الإقليمى للاتفاقية:
تقف الاتفاقية فى قلب مشهد إقليمى معقّد تتداخل فيه قضايا جيوسياسية، وأمنية، ودبلوماسية، ولا يمكن فصلها عن الديناميكيات الراهنة التى تشكل بيئة صنع القرار فى الرياض وإسلام آباد. أولا- التوتر السعودي-الإيرانى لا يزال عاملا مركزيا: على الرغم من محطات التقارب والحوارات التى شهدتها المنطقة فى السنوات الأخيرة، فإن الخلافات العميقة حول النفوذ فى الخليج، واليمن، وسوريا، والعراق لم تختفِ. فى هذا المناخ تسعى السعودية إلى تعزيز أوراق ردعها لتقليل هشاشة اعتمادها على قنوات التفاوض والضغوط السياسية، والاتفاق مع باكستان يمنحها قدرة إضافية على التحرك الاستراتيجى ضد أى تصعيد إقليمى قد يتجاوز الحدود.
ثانيًا- تأتى الاتفاقية فى ظل تفاقم التصعيد الإسرائيلي-الفلسطينى الذى أعاد زعزعة ثقة العديد من العواصم العربية فى أساليب إدارة الأزمة التقليدية. التصعيد الأخير وأثره الإنسانى والسياسى خلق حالة من القلق لدى دول الخليج التى ترى فى أى توسيع للقتال أو اعتداءات عبر الحدود تهديدًا للاستقرار الإقليمى ولأمن خطوط الملاحة والطاقة. هنا يوفر التحالف السعودي-الباكستانى رسالة ردع مزدوجة: داخليًا لرفع معنويات الحلفاء العرب بأن هناك استعدادًا للدفاع، وخارجيًا لتبليغ رسائل دبلوماسية وعسكرية مفادها أن تكاليف التمادى فى الأعمال العدائية قد تتصاعد.
ثالثًا- لا يمكن قراءة الخطوة بعيدًا عن وضع العلاقة السعودية-الأمريكية؛ فمرحلة ما بعد تباطؤ الالتزامات الأمنية التقليدية للولايات المتحدة جعلت الرياض تبحث عن تنويع مظلاتها الأمنية. الاتفاقية تعبر عن قرار سعودى أكثر استقلالية فى إدارة أمنها، وليس بالضرورة استبدالًا للغطاء الأمريكى، بل محاولة للاتزان بين الاعتماد الغربى والشراكات الإقليمية -مما يمنح السعودية هامش مناورة أوسع فى مواجهة الخيارات الاستراتيجية والأزمات المفاجئة.
رابعًا- تمثل معادلة السعودية بين الهند وباكستان بُعدًا آخر حاسمًا: اقتصادية الرياض المتزايدة مع نيودلهى (تجارة، واستثمارات، وطاقة) تتقاطع مع تحالفها الأمني-التاريخى مع إسلام آباد. دخول السعودية فى تحالف دفاعى مع باكستان يضع الرياض أمام تحدى الموازنة الدبلوماسية، كيف تحافظ على الروابط الاقتصادية المتنامية مع الهند دون إضعاف التزامها الأمنى تجاه باكستان؟ هذا التعقيد يدفع الرياض لاعتماد سياسة دقيقة: تعزيز التعاون الاقتصادى مع الهند بينما تُبقى على مرونة دبلوماسية تسمح لها بالحفاظ على شراكات أمنية تقليدية مع باكستان.
مما سبق تشكل هذه المحاور مجتمعة مشهدًا يجعل الاتفاقية أكثر من مجرد اتفاق ثنائي؛ إنها أداة استراتيجية مدروسة داخل سياق إقليمى متعدد المحاور ومتناقض المصالح. الاتفاقية تُمكّن السعودية من تعزيز قدراتها على الردع وتوفير خيارات بديلة، وتمنح باكستان حضورًا إقليميًا أكبر؛ وفى الوقت نفسه تفرض على جميع الأطراف القريبة إعادة حساب مواقفها، سواء عبر تعزيز التواصل لآليات تفادى التصعيد أو عبر إعادة صياغة سياسات التحالفات الإقليمية بما يتناسب مع المعطيات الجديدة.
انعكاسات الاتفاقية على أمن الشرق الأوسط:
الاتفاقية الدفاعية بين السعودية وباكستان تمثل محطة فارقة فى معادلات الأمن الإقليمى، إذ تتجاوز كونها خطوة ثنائية لتعكس تحولًا استراتيجيًا فى توازنات الشرق الأوسط. فالسياق الذى جاءت فيه الاتفاقية شديد التعقيد، حيث تتقاطع التوترات مع إيران، والعدوان الإسرائيلى المستمر على غزة، وتراجع الثقة بالمظلة الأمنية الغربية، مما يمنحها أبعادًا تتخطى التعاون العسكرى المباشر لتشكل أداة لإعادة صياغة ملامح الأمن الإقليمى.
أول ما تحققه الاتفاقية هو تعزيز منظومة الردع الاستراتيجى للسعودية، إذ يضاف إلى قدراتها التقليدية دعم دولة نووية مثل باكستان بما تملكه من ترسانة عسكرية متقدمة وخبرة قتالية واسعة. وهذا يضع خصوم الرياض، وفى مقدمتهم إيران والجماعات المسلحة المتحالفة معها، أمام حسابات أكثر تعقيدًا عند التفكير فى أى مغامرة عسكرية أو تصعيد إقليمى، فضلًا عن طمأنة الشركاء الخليجيين الذين ينظرون إلى الاتفاقية كمظلة إضافية للاستقرار.
كما تسهم الاتفاقية فى إعادة تشكيل التوازنات الثلاثية بين الخليج وإيران وإسرائيل. فبالنسبة لطهران، تشكل هذه الشراكة تحديًا مباشرًا يحد من قدرتها على التمدد فى ساحات النفوذ الإقليمية، مثل اليمن، والعراق، وسوريا، إذ إن أى مواجهة مفتوحة مع السعودية قد تستجلب دورًا باكستانيًا داعمًا، مما يعقد خياراتها. أما إسرائيل فتبدو أمام مصدر قلق مزدوج، إذ إن الاتفاقية من جهة تعزز الاصطفاف الإسلامى الرافض لممارساتها فى فلسطين، ومن جهة أخرى تحد من قدرتها على استثمار التباينات بين القوى الإسلامية الكبرى لصالحها.
وفى ظل العدوان الإسرائيلى على غزة، حملت الاتفاقية رسالة رمزية قوية للقضية الفلسطينية، باعتبارها تعبيرًا عن اصطفاف إسلامى أوسع يمكن أن يتحول إلى بعد أمنى أو عسكرى إذا استمرت إسرائيل فى سياساتها التصعيدية. هذا يفرض على تل أبيب مراجعة حساباتها الإقليمية بعناية أكبر، خصوصًا مع احتمال أن تقترن الاتفاقية بمواقف سعودية أكثر صرامة تجاه ممارسات الاحتلال.
وأخيرًا تفتح الاتفاقية الباب أمام إمكانية نشوء محور أمنى إسلامى جديد، تقوده السعودية وتدعمه قوى إقليمية كبرى، مثل مصر وتركيا، ليشكل بديلًا استراتيجيًا عن الاعتماد على المظلة الغربية المتراجعة. هذا التوجه يعكس تحوّلًا نوعيًا فى فلسفة الأمن بالشرق الأوسط، من الاعتماد على القوى الخارجية إلى بناء منظومة أمنية إقليمية ذاتية قادرة على إدارة التهديدات والتحديات المشتركة من داخل المنطقة نفسها.
الدور المصرى فى المعادلة الجديدة:
تمثل مصر ركيزة مركزية فى معادلة الأمن العربى والإقليمى، إذ يصعب تصور أى ترتيبات استراتيجية فى الشرق الأوسط بمعزل عن موقعها ودورها. فالقاهرة تملك مقومات تجعلها لاعبًا مستقلًا قادرًا على التأثير فى موازين القوى: موقع جغرافى يتحكم فى شرايين الملاحة الدولية (قناة السويس والبحرين الأحمر والمتوسط)، قاعدة بشرية ضخمة تمنحها عمقًا استراتيجيًا، وقوة عسكرية تُعد من الأبرز فى المنطقة. هذه العوامل تجعل من مصر عنصر توازن لا يمكن تجاوزه عند الحديث عن مستقبل الأمن الإقليمى.
فى ضوء الاتفاقية الدفاعية بين السعودية وباكستان، يبرز الدور المصرى من زاوية مختلفة؛ ليس بوصفه جزءًا من هذا التفاهم، وإنما باعتباره فاعلًا مستقلًا يملك رؤية خاصة لإدارة التحديات الأمنية. فالقاهرة لطالما سعت إلى بناء سياسات أمنية قائمة على تحقيق التوازن بين القوى الإقليمية، ومنع انزلاق المنطقة إلى محاور مغلقة أو تحالفات قد تزيد من حدة الاستقطاب. ومن هذا المنطلق، فإن مصر تظل قادرة على صياغة دورها بما يحافظ على استقلالية قرارها الاستراتيجى، ويمنحها مساحة مناورة واسعة بين مختلف القوى.
كما أن القاهرة تنظر إلى الترتيبات الأمنية الجديدة من منظور يتجاوز الحسابات الثنائية أو اللحظية؛ فهى معنية بترسيخ مفهوم الأمن الجماعى العربى، وتعزيز الاستقرار الإقليمى عبر أدوات متعددة تشمل القوة العسكرية، والتحركات الدبلوماسية، والدور المحورى فى دعم القضايا المركزية وفى مقدمتها القضية الفلسطينية. ومن ثم فإن وزنها لا ينبع فقط من قدرتها الصلبة، بل أيضًا من موقعها كضامن للاستقرار ومحور للتوازن فى بيئة إقليمية مضطربة.
وعليه فإن الدور المصرى يشكّل بعدًا موازيا للاتفاقية السعودية-الباكستانية، لا يتقاطع معها مباشرة لكنه يؤثر فى محيطها. فوجود مصر كفاعل مستقل يمنح المنطقة فرصة لبناء منظومة أكثر اتزانًا، ويحول دون هيمنة طرف واحد على المشهد الأمنى. وهو ما يجعل القاهرة حجر الزاوية لأى تصور استراتيجى يهدف إلى إعادة صياغة الأمن فى الشرق الأوسط على أسس أكثر استقرارًا واستقلالية.
السيناريوهات المستقبلية:
تفتح الاتفاقية الدفاعية بين السعودية وباكستان الباب أمام مجموعة من السيناريوهات المستقبلية التى ستحدد شكل التوازنات فى الشرق الأوسط خلال السنوات المقبلة، خاصة مع ما تشهده المنطقة من تحولات متسارعة وتراجع نسبى لدور القوى الدولية التقليدية.
أول هذه السيناريوهات يتمثل فى نجاح الاتفاقية وتوسّعها لتشمل أطرافًا عربية وإسلامية أخرى، مثل مصر، وتركيا، وقطر، بما يحولها إلى نواة لتحالف أمنى إسلامى واسع. هذا السيناريو سيعنى ولادة محور إقليمى جديد قادر على مواجهة التحديات المشتركة من داخل المنطقة، ويمثل خطوة نحو استقلالية أكبر عن المظلة الأمنية الغربية، وهو ما يعيد تشكيل خريطة الأمن فى الشرق الأوسط على أسس جديدة.
أما السيناريو الثانى فيرتبط بردود الفعل المحتملة من الأطراف الإقليمية والدولية. فإيران قد ترى فى الاتفاقية تهديدًا مباشرًا لتوازن القوى، وتسعى إلى زيادة دعمها لأذرعها فى اليمن، ولبنان، والعراق لعرقلة أى اصطفاف جديد. بينما ستتعامل إسرائيل مع الاتفاقية باعتبارها مصدر قلق استراتيجى، خصوصًا فى ظل تزامنها مع استمرار العدوان على غزة، مما قد يدفعها لمحاولة استباق أى توسع لهذا التحالف عبر تكثيف تحركاتها الدبلوماسية والعسكرية. فى المقابل ستظل الولايات المتحدة تراقب بحذر، فهى من جهة ترحب بتقاسم الأعباء الأمنية، لكنها من جهة أخرى تتحفظ على أى مسار قد يقلل من اعتماد الرياض على واشنطن.
السيناريو الثالث يرتبط بانعكاسات الاتفاقية على توازن القوى الإقليمى، إذ قد تؤدى إلى تقليص النفوذ الإيرانى، وزيادة قدرة دول الخليج على التماسك أمام الضغوط الأمنية. كما قد تشجع قوى إقليمية أخرى على بناء شراكات مشابهة لمواجهة التحديات المشتركة، بما يعيد رسم خطوط الاصطفاف فى المنطقة.
أما على المستوى الدولى، فإن الاتفاقية تفتح الباب أمام سيناريو رابع يتعلق بمكانة الشرق الأوسط فى النظام الدولى متعدد الأقطاب. فوجود محور سعودي-باكستانى مدعوم باحتمالات انضمام قوى عربية وإسلامية أخرى يمنح المنطقة ثقلًا أكبر فى معادلة القوى العالمية، ويجعلها لاعبًا فاعلًا قادرًا على التفاوض مع الولايات المتحدة، والصين، وروسيا من موقع قوة وليس من موقع التبعية.
ختامًا:
فى ضوء ما سبق، يتضح أن الاتفاقية الدفاعية السعودية-الباكستانية ليست مجرد تفاهم ثنائى، بل هى خطوة تعكس تحوّلًا استراتيجيًا فى معادلات الأمن الإقليمى، جاء فى لحظة دقيقة يشهد فيها الشرق الأوسط تصعيدًا متزامنًا على جبهات عدة؛ من الصراع مع إيران، إلى العدوان الإسرائيلى على غزة، وصولًا إلى تراجع المظلة الأمنية الغربية التى طالما مثلت العمود الفقرى لأمن الخليج. الاتفاقية عززت الردع السعودى، وأعادت صياغة التوازنات مع إيران وإسرائيل، وألقت بظلالها على القضية الفلسطينية، كما فتحت الباب أمام نشوء محور أمنى إسلامى قد يغيّر فلسفة الأمن فى المنطقة نحو الاعتماد على الذات بدلًا من الخارج.
لكن هذا التحول لا يخلو من تحديات، إذ ستسعى إيران وإسرائيل لاحتواء أو عرقلة هذا المسار، فيما ستظل واشنطن تراقب عن كثب خشية أن يؤدى إلى تقليص نفوذها. ومن هنا فإن نجاح الاتفاقية مرهون بمدى قدرة الرياض وإسلام آباد على تعميق أطر التعاون، وتحويلها من مجرد وثيقة سياسية إلى آلية دفاعية عملية تُترجم على الأرض عبر التدريب المشترك، وتبادل المعلومات، وتطوير الصناعات الدفاعية.
وانطلاقًا من هذه المعطيات، يمكن صياغة عدة توصيات لصناع القرار:
1- توسيع نطاق الاتفاقية،ليشمل دولًا عربية وإسلامية أخرى، بما يحولها إلى نواة لتحالف دفاعى إقليمى متماسك.
2- تحصين الاتفاقية سياسيًا ودبلوماسيًا،عبر ربطها بمسار واضح لدعم الاستقرار الإقليمى، وبخاصة فى فلسطين، واليمن، والعراق، لتفويت الفرصة على محاولات التشويه أو التصعيد.
3- تعزيز البعد الاقتصادى والتقنى للشراكة الدفاعية، بما يضمن استدامتها بعيدًا عن الضغوط الخارجية أو تقلبات التمويل.
4- الانفتاح على القوى الكبرى(الولايات المتحدة، والصين، وروسيا) بمرونة، لضمان أن يُنظر إلى الاتفاقية باعتبارها خطوة لتعزيز الأمن الإقليمى لا كتهديد للتوازن الدولى.
5- إشراك المؤسسات العربية والإسلامية،مثل الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامى، لتوفير غطاء سياسى وإقليمى يحصّن هذه المبادرة ويجعلها أكثر قبولًا.
إن الاتفاقية السعودية-الباكستانية تُعدّ نقطة انطلاق نحو إعادة تعريف الأمن فى الشرق الأوسط، وإذا ما أُحسن استثمارها، فإنها يمكن أن تؤسس لمرحلة جديدة من التوازن الاستراتيجى القائم على الشراكة الإقليمية، بدلًا من الاعتماد الأحادى على القوى الخارجية، وهو ما يمثل خطوة تاريخية نحو أمن إقليمى أكثر استقلالية واستقرارًا.
الهوامش:
[1]Naseem, Muhammed Yaseen, and Sayyad Sadri Alibablu. "Saudi-Pak Defense Partnership: Past and Present." Journal of Middle Eastern Studies/Ortadoğu Etütleri 9, no. 2 (2017).