محددات رؤية ترامب في العودة للشرق الأوسط
3-6-2025

نهال ناصر
* باحثة فى العلوم السياسية

"أمريكا أولا" شعار الولاية الثانية للرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، ظن الجميع أن هذا الشعار سيعنى ضمنا انسحابه من قضايا الشرق الأوسط، ولكن تجلت رؤية ترامب تجاه الشرق الأوسط بوضوح، حيث لم تكن زيارة ترامب الأخيرة إلى الخليج مجرد جولة لرجل السياسة الأمريكي، بل كانت عرضًا مباشرًا لفلسفة جديدة في إدارة المصالح وهي: المال أولًا، ثم كل شيء آخر.

جاءت إدارة ترامب الثانية على خلاف الإدارة الأولى حيث تبنت في خطابها ملامح ما أسمته بـ"أمريكا الجديدة" ليست الولايات المتحدة التي تركز على القوة العسكرية، بل التي تحضر بهدوء، كمشروع اقتصادي ضخم تُعيد من خلاله رسم ملامح النفوذ العالمي متجاهلة ملفات الأمن والصراع، كما ركزت على لغة العقود والمليارات، في مشهد من الممكن أن يُلخص عودة أمريكية مدروسة ترتكز على المصلحة في بعض الملفات، ما قد يوضح ما ستصبح عليه السياسة الخارجية الأمريكية في السنوات القادمة: أقل كلامًا، أكثر صفقات وفى هذا الطرح الجديد لسياقتها الخارجية أفكار تتحدى القواعد التقليدية للدبلوماسية الأمريكية.

لذا، فسؤال رئيسي يطرح نفسه: هل عادت أمريكا إلى الشرق الأوسط حقًا في عهد ترامب؟ وإن كانت عادت، فما هي طبيعة هذه العودة؟ ومكاسبها؟

أولًا- رؤية ترامب للشرق الأوسط.. السوق أولًا، التحالفات لاحقًا:

خلافًا للرؤساء الأمريكيين الذين سبقوه، لا ينظر "دونالد ترامب" إلى الشرق الأوسط كمنطقة تحتاج إلى إدارة للأزمات، أو ضبط توازنات جيوسياسية، أو حتى نشر "القيم الأمريكية" التقليدية من ديمقراطية وحقوق إنسان. بالنسبة لترامب، الشرق الأوسط ليس أكثر من منصة استثمار ضخمة تنتظر من يستغلها، وتحديدًا من يملك الجرأة على تجاوز البروتوكولات الدبلوماسية القديمة لصالح صفقات ملموسة.

لذا، ما طرحته زيارة ترامب الأخيرة بوضوح هو أن نظرته للشرق الأوسط ليست مبنية على القيم أو الأيديولوجيا، ولا حتى على الأمن بالمعنى الكلاسيكي، بل على منطق السوق والمصلحة الاقتصادية المباشرة. المنطقة في عينيه ليست ساحة صراع بقدر ما هي سوق مفتوحة يمكن الدخول إليها، وبناء التحالفات فيها يتم عبر الأرقام، وليس عبر المبادئ. كما تصنف الدول بالنسبة له حسب إمكاناتها الاقتصادية والمالية، وليس حسب موقعها الاستراتيجي أو مواقفها السياسية، لذا يقيم كل دولة بحسب ما تستطيع أن تقدمه من استثمار، أو نفوذ، أو منفذ تكنولوجي، لذلك، لا يرى ترامب الشرق الأوسط ككتلة واحدة، بل كـ"فرص متفرقة"، من هنا، تبرز العلاقة مع دول الخليج بوصفها العلاقة النموذجية: مال، واستثمار، وطموح في الذكاء الاصطناعي، واستعداد للتعاون مع واشنطن دون شروط سياسية معقدة.

وهنا تتغير قواعد اللعبة تمامًا. فلم تعد الولايات المتحدة في سياسة ترامب، الطرف الذي يقدّم ضمانات أمنية ويطالب بالإصلاح السياسي، بل تحوّلت إلى شريك تجاري ضخم يطلب صفقات، ويقايض النفوذ بالاستثمار. هذا التحول يُعيد تعريف العلاقات الأمريكية - الخليجية خاصة. لا كحلفاء في "الحرب على الإرهاب" أو كدول وسط صراعات إقليمية، بل كـ"مراكز مالية" يمكن البناء معها على أسس استثمارية–تكنولوجية تتجاوز الاعتبارات السياسية المعتادة.

هذه الرؤية تُهمش الملفات الحساسة كالملف الإيراني، والملف السوري، أو حتى القضية الفلسطينية، لصالح ما أسماه ترامب بـ"الفرص القابلة للبناء الفوري"، وفى هذا تراجع لتلك الملفات التي كانت تتصدر الأجندة الأمريكية حيث أصبح يُنظر إليها على أنها ملفات مُكلفة سياسيًا، لا تُحقق أرباحًا مباشرة، وبالتالي لا تستحق الاستنزاف. إنه يُعيد ترتيب المنطقة حسب لغة السوق، فالسياسة بالنسبة له، لا تدور حول حل النزاعات، بل حول تسخيرها أحيانًا لخلق فرص تفاوضية تخدم المصالح الأمريكية.

من يدفع أكثر؟ من يوفر فرص التوسع لشركات التكنولوجيا الأمريكية؟ من يستطيع أن يصبح بوابة للذكاء الاصطناعي وسلاسل التوريد العالمية؟

ونستخلص من هذا الطرح الأهداف الرئيسية لزيارة ترامب وهى التأسيس لتحالف اقتصادي–تكنولوجي جديد يمكن من خلاله مضاعفة النفوذ الأمريكي دون الحاجة إلى تدخلات عسكرية أو إنفاق سياسي مكلف.

أمريكا لم تغب، ولكنها عادت بقواعد جديدة حيث جاء توقيت الزيارة بمثل هذه الرسالة السياسة لأن غياب أمريكا عن المنطقة من الممكن أن يملأه قوى إقليمية أخرى، مثل الصين أو روسيا. لذا، تعد أحد أهداف هذه الزيارة إعادة تموضع واشنطن في المنطقة. فهي لا تتعهد بضمان الأمن، لكنها تُقدم الشراكة الاقتصادية كأداة استقرار، وتُعطي الأولوية للدول القادرة على مواكبة التحول التكنولوجي والاقتصادي، لا تلك التي (تظل منخرطة في الحروب وغيرها من الأعمال دون الجدوى أو العائد الملموس).

1- سوريا.. نموذج "التدخل المحسوب":

الواقعية الانعزالية الذكية؛ حيث لا انسحاب كاملا، ولا تورطا مباشرا، بل توازنات مرنة تُدار بلغة السوق لا بلغة العقيدة السياسية، وظهرت هذه السياسة عقب التقاء "ترامب" بالرئيس السوري الجديد "أحمد الشرع"، حيث أعلن رفع العقوبات عن سوريا وعلى الرغم من الترحيب والحفاوة بتلك الخطوة التي لم تكن مجرد تحوّل تكتيكي في الملف السوري، بل تعكس رؤية ترامب الأوسع وهي: الانسحاب الذكي من الملفات المُكلفة، دون الانسحاب الكامل من المشهد،  حيث تعد خطوة رفع العقوبات عن سوريا، ليست دعمًا للنظام، بقدر ما هى وسيلة ضغط مرنة لإبقاء واشنطن على الطاولة دون أن تدفع الثمن الأكبر.

سوريا، بالنسبة لإدارة ترامب، لم تكن يومًا مسرحًا استراتيجيًا يستحق الاستنزاف. فهي ساحة مُنهكة، محاطة بأطراف إقليمية متنافسة، وأي محاولة لـ"إعادة الإعمار" أو "تغيير النظام" تتطلب موارد ضخمة دون ضمان عائد سياسي. وهنا يبرز جوهر "سياسة عدم التورط" التي تبناها ترامب. لا تدخلا عسكريا مباشرا. لا مشاريع ديمقراطية طويلة الأمد. ولكن انفتاح انتقائي يتيح النفاذ الاقتصادي والسياسي المشروط. الأهم أن هذه المقاربة تُرسل رسالة واضحة لباقي الفاعلين الدوليين في المنطقة تتلخص في: لسنا شرطة العالم، لكننا نؤمن مصالحنا بحد أدنى من التكاليف.

2- الملف الإيراني.. تحجيم بلا حرب:

تعكس زيارة ترامب للمنطقة استمرار استراتيجيته الثابتة تجاه إيران: الضغط الأقصى دون الانزلاق لحرب مفتوحة. فبدلاً من المواجهة العسكرية، يعتمد على أدوات اقتصادية وسياسية لعزل طهران وتحجيم نفوذها الإقليمي حيث يركز على العقوبات التي تخنق الاقتصاد الإيراني دون استفزاز الحلفاء، ويمثل تعزيز التحالفات الاقتصادية مع الخليج تطويقا للنفوذ الإيراني إقليميًا. رؤية ترامب واضحة بخصوص هذا الملف، لا تغيير نظام، بل تغيير سلوك، بشروط أمريكية، ودون دفع ثمن الحرب.

3- غزة.. ورقة معقدة في حسابات تبريد الجبهة لا إشعالها:

ربما كان الموقف من غزة هو الأكثر إثارة للجدل في جولة ترامب، لا لأنه جديد، بل لأنه خرج عن المسار التقليدي للدعم المطلق لإسرائيل. ففي لحظة تصعيد عسكري عنيف، دعا ترامب بشكل غير مباشر إلى "وقف الحرب"، وتحدث عن ضرورة "تجنب التورط في صراعات لا نهاية لها". هذا الموقف لا يعني انقلابًا على دعم إسرائيل، بل يعكس تحوّلاً في الأولويات الأمريكية. إدارة ترامب لا ترى في استمرار التصعيد فائدة استراتيجية، بل ترى فيه خطرًا على توازن تحالفاتها الأوسع في المنطقة. فالحرب على غزة تعقّد علاقات أمريكا مع حلفاء يفضلون الاستقرار وتطبيعًا محسوبًا على حروب مفتوحة.

4- ملامح الموقف الترامبي من غزة:

- تهدئة لا حلا دائما، ترامب لا يطرح حلولًا جذرية أو مسارًا سياسيًا، بل يفضل إدارة الصراع عبر تبريد المواجهة. هو يرى أن "اللااستقرار تحت السيطرة" أفضل من "عملية سلام بلا نهاية".

- إعادة ضبط العلاقة مع نتنياهو:توتر خفي بين الرجلين ظهر في التصريحات. ترامب يرى أن نتنياهو يستخدم الحرب كورقة داخلية، ما يتعارض مع مصلحة واشنطن في إبقاء المنطقة تحت سيطرة اقتصادية هادئة.

- توظيف غزة كورقة ضغط إقليمية:الهدوء في غزة قد يكون ثمنًا لاستمرار التعاون الاقتصادي مع الخليج، والضغط على إيران من دون فتح جبهات جديدة.

ثانيًا- عندما تُدار السياسة بلغة المال.. المكاسب الأمريكية من هذه الرؤية:

جاءت الصفقات والاستثمارات مع السعودية لتفوق قيمة الـ 400 مليار دولار، حيث تتوزع بين الصفقات الدفاعية وشراء معدات وخدمات عسكرية من أكثر من ١٢ شركة أمريكية لتكون من أضخم صفقات السلاح في التاريخ الأمريكي. هذه الصفقات بالتأكيد تخدم الاقتصاد الأمريكي، بل وتخدم أيضا ولكن بنسبة أقل السعودية كحليف عسكري استراتيجي.

بجانب الاستثمار فى مجال الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة بالتعاون مع كبرى الشركات الأمريكية فى تلك المجالات، علاوة على مشاريع أو صفقات البنية التحتية السعوديةمثل الاستثمار فى مطار سلمان الدولي ومجمع القدية الترفيهي.

لم تكن السعودية وحدها محور الصفقات الأمريكية، بل لعبت قطر والإمارات أدوارًا محورية في استراتيجية ترامب القائمة على تعدد مراكز النفوذ وربط الجميع بالمصالح الأمريكية. حيث ورد عن صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية موافقة الخطوط الجوية القطرية على شراء عدد من الطائرات البالغ قيمتها 96 مليار دولار والتي تمثل أكبر صفقة ساقها ترامب في زيارته للشرق الأوسط، علاوة على الاتفاقيات الدفاعية حيث شراء تكنولوجيا الدفاع عن الطائرات بدون طيار، إلى جانب اتفاقات تعاون في التدريب والمشتريات الدفاعية.

وبالنسبة للإمارات محطة ترامب الأخيرة في تلك الجولة، قبل أيام من الزيارة، أعلنت الإدارة الأمريكية، عن صفقة أسلحة جديدة تزيد قيمتها على 1.4 مليار دولار، وتضمنت الصفقة مروحيات شينوك، بالإضافة إلى قطع غيار ودعم لطائرات "إف-16" المقاتلة. وتعهدت بإنفاق 1.4 تريليون دولار على استثمارات على مدى 10سنوات.

ثالثًا- حصاد الزيارة من منظور أمريكي:

لم تكن جولة ترامب في الشرق الأوسط مجرد زيارة بروتوكولية لرئيس أمريكي جديد، بل كانت إعادة ضبط حقيقية لعقارب النفوذ الأمريكي في المنطقة، ولكن هذه المرة بلغة مختلفة تمامًا عن الإدارات السابقة. فبدلاً من وعود الإصلاح الديمقراطي أو الشعارات الحقوقية، جاءت أجندة ترامب محملة بالصفقات، والرسائل الرمزية، وخيارات القوة الذكية. من زاوية أمريكية، حققت هذه الجولة أربعة مستويات من المكاسب:

1- استراتيجية بلا تورط عسكري مباشر:تمكّنت إدارة ترامب من إعادة تشكيل ميزان القوى –خصوصًا في مواجهة إيران– دون أن تزج بقوات إضافية على الأرض. عُزز الوجود الأمريكي من خلال الحلفاء المحليين، وصفقات التسليح، والدبلوماسية الضاغطة.

2- مكاسب اقتصادية ضخمة:عقود استثمار وتسلّح بالمليارات ، ضخّت أموالاً مباشرة في الاقتصاد الأمريكي، وعززت مكانة شركاته، خاصة في مجالي الدفاع والطاقة. فقد كانت الزيارة في جوهرها صفقة استراتيجية ضخمة، لا تقل أهمية عن أي اتفاق أمني.

3- توسيع نفوذ غير مباشر عبر التطبيع: إن الاتفاقات الإبراهيمية، التي بدأت من رؤية ترامب، لم تكن مجرد إنجاز دبلوماسي لإسرائيل، بل كانت أيضًا إعادة ترتيب لتحالفات المنطقة، تُقلّص الحاجة الأمريكية للتدخل المباشر، وتخلق جبهة عربية–إسرائيلية ضد إيران تحت مظلة أمريكية.

4- تحجيم الأعداء واحتواء الأزمات: هذه المقاربة -القائمة على "الربح مقابل الالتزام المحدود"- تعكس نموذج ترامب في الحكم العالمي: نفوذ بلا احتلال، صفقات بلا التزامات أخلاقية، وتحالفات مرنة يمكن تعديلها متى تطلّبت المصالح.

ختامًا،كانت رسالة زيارة ترامب لدول الخليج هي: أن أمريكا لم تعد مضطرة لحمل عبء المنطقة وحدها. بل يكفيها أن تعيد توزيع الأدوار، وتبيع السلاح، وتحرك التوازنات من بعيد، لتبقى هي الطرف الأقوى دون أن تطأ قدمها الميدان. وهنا يكمن جوهر اللحظة الترامبية، تحقيق أقصى قدر من التأثير بأقل قدر من التدخل.

المصادر:

1-Montgomery, B. (2025, May 17). How”Donald Trump’s ‘historic” Gulf state deals benefit a handful of powerful men. The Guardian https://www.theguardian.com/us-news/2025/may/17/donald-trump-gulf-states-ai

2- Brookings Institution – Article: Trump’s visit to Saudi Arabia:’More than optic

https://www.brookings.edu/blog/markaz/2017/05/23/trumps-visit-to-saudi-arabia-more-than-optics

3- Council on Foreign Relations (CFR) – Topic: U.S. Policy Toward Iran Under Trump

https://www.cfr.org

4- The Washington Post – Article archive on Trump's Middle East policy

https://www.washingtonpost.com

5- Reuters – News reports on Trump's arms deals and ’ulf crisis

https://www.reuters.com

6- Foreign Affairs Magazine – Analysis: Trump and the Art of Middle East Deals

https://www.foreignaffairs.com


رابط دائم: