تأثير اغتيال غنيوة على الاستقرار وتوازن القوى في غرب ليبيا
21-5-2025

عبدالله فارس القزاز
* باحث فى الشئون الإفريقية

 يشهد غرب ليبيا، منذ سنوات، حالة من السيولة الأمنية والسياسية بفعل تعدد مراكز القوى وتداخل الأدوار بين الفاعلين الرسميين وغير الرسميين، وهو ما انعكس على استقرار العاصمة طرابلس، التي تحوّلت إلى ساحة صراع مفتوح بين الميليشيات المسلحة. ومع غياب سلطة مركزية قادرة على احتواء تلك الفصائل أو دمجها ضمن أجهزة الدولة، تكرّست حالة من الانقسام والازدواجية في الحكم، أسفرت عن اضطرابات متكررة تهدد الأمن الوطني وتعيق أي مسار انتقالي حقيقي.

وفي هذا السياق، مثّل عبد الغني الككلي، المعروف بـ"غنيوة"، أحد أبرز الفاعلين غير الرسميين الذين استطاعوا فرض نفوذهم عبر جهاز دعم الاستقرار، الذي تمتع بصلاحيات أمنية واقتصادية واسعة في قلب العاصمة. وقد شكّل الككلي تحالفات سياسية وعسكرية أتاحت له دورًا مركزيًا في المعادلة الليبية، لا سيّما في دعم حكومة عبد الحميد الدبيبة لمواجهة خصومها المسلحين. إلا أن مقتله المفاجئ في مايو 2025 أعاد خلط الأوراق، وأدى إلى إعادة رسم توازن القوى في طرابلس، وسط تصعيد ميداني وتوتر سياسي واسع النطاق.

يهدف هذا التقرير  إلى تحليل تداعيات مقتل الككلي على توازن القوى في غرب ليبيا، واستكشاف أبعاد التحولات التي طرأت على المشهد الأمني والسياسي، فضلًا عن استشراف السيناريوهات المحتملة لمستقبل الاستقرار في العاصمة، في ظل هشاشة المؤسسات الرسمية، وتنامي أدوار الفصائل المسلحة، وتعدد المبادرات الداخلية والدولية لإعادة هيكلة الوضع الأمني.   

                                              
   أولا - ملامح الوضع في غرب ليبيا: 

مرت ليبيا في السنوات الأخيرة بتحولات ديناميكية متسارعة في سياساتها الداخلية، وذلك بعد سقوط نظام معمر القذافي في عام 2011. شهدت العاصمة طرابلس مجموعة من الصراعات الداخلية التي أسفرت عن وجود سلطة مزدوجة وظهور العديد من الميليشيات المتصارعة. تلعب هذه الميليشيات دورا بارزا في تعقيد المشهد السياسي في غرب ليبيا، في ظل وجود حكومتين تتنازعان السلطة.

تتزايد الصراعات بين الميليشيات في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة المنتهية ولايتها، مما يجعل السيطرة عليها قضية صعبة في هذا السياق السياسي المعقد. تتجلى هذه الصعوبة في الاشتباكات المستمرة بين جهاز دعم الاستقرار وجهاز الردع، بالإضافة إلى الهجمات على منزل رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، فضلاً عن الهجمات على بعض الشخصيات الحكومية، وجود هذه الميليشيات غير النظامية يعوق المسار السياسي في ليبيا، ويزيد من تعقيد الأوضاع الأمنية. كما تظهر هذه الديناميكيات اضطرابات سياسية وأمنية قد تؤثر سلبا على الاستقرار في البلاد.

ومن بين الميليشيات التي تلعب دورًا محوريًا في المشهد الغربي الليبي، تبرز ميليشيا دعم الاستقرار، وهي تشكيل غير نظامي يوجد في غرب ليبيا بقيادة عبد الغني الككلي المعروف بـ"غنيوة". وتُعد هذه الميليشيا من أبرز القوى الفاعلة في طرابلس، حيث تسيطر على مواقع استراتيجية متعددة داخل العاصمة، وتلعب دورًا مؤثرًا في المعادلة السياسية والأمنية.

وتتجلى أهمية ميليشيا دعم الاستقرار في مشاركتها ضمن طاولة رسمية جمعتها بالولايات المتحدة، في إطار مبادرات تهدف إلى تفكيك الميليشيات وإعادة دمجها. كما لعبت هذه الميليشيا أدوارًا عسكرية داعمة لرئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، سواء من خلال تأييد قراراته أو المساهمة في فرض السيطرة على مناطق حساسة.

أما ميليشيا لواء التوحسي – المعروفة سابقًا بالقوة الثامنة – فهي تشكيل غير نظامي يضم عناصر تصنف ضمن المجموعات المتشددة، وتتبع وزارة الداخلية في الحكومة المنتهية ولايتها. وقد عُرفت هذه الميليشيا بحماية مقر إقامتها، إضافة إلى حماية مقر فايز السراج حينما كان رئيسًا لحكومة الوفاق، ويقودها مصطفى قدور.

وتُعد الصراعات بين هذه الميليشيات أحد مظاهر هشاشة المشهد الأمني، وتعود أسبابها إلى عدة عوامل، من بينها حرص كل ميليشيا على الحفاظ على مصالحها الاقتصادية، فضلًا عن الخلافات القائمة بين الحكومة المنتهية ولايتها وبعض الميليشيات، إلى جانب التنافس بين الميليشيات الموالية للدبيبة وتلك التي تسعى إلى شرعنة تحركاتها بقوة السلاح.

وفي تطور لافت يعكس تصاعد التوتر  بين الميليشيات في غرب ليبيا في مايو 2025، اندلعت اشتباكات عنيفة بين قوات دعم الاستقرار في العاصمة الليبية طرابلس وميليشيات تابعة لحكومة الوحدة المنتهية ولايتها، مثل لواء 444 ولواء 111. وقد انتهت هذه الاشتباكات بمقتل قائد جهاز دعم الاستقرار  عبدالغني الككلي (غنيوة). هذا التطور كان له تأثير كبير على توازن القوى في غرب ليبيا، وأدى إلى تغييرات جوهرية في خريطة المشهد السياسي، مما قد يفتح الباب أمام تحولات جديدة في الصراع على السلطة في البلاد.

 ثانيا- تداعيات مقتل عبدالغني الككلي:

شكّل مقتل عبد الغني الككلي، المعروف بـ"غنيوة"، لحظة فارقة أعادت تفجير المشهد الليبي المعقد على أكثر من صعيد. فمن بين أبرز التداعيات التي برزت عقب اغتياله، تصاعد التوترات الأمنية، واحتدام السجال السياسي، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ما أعاد تسليط الضوء على هشاشة الوضع في طرابلس وإمكانية الانزلاق نحو مزيد من الفوضى.

على الصعيد الأمني: شكل مقتل غنيوة منعطفا خطيرا في المشهد الأمني  إذ شهدت العاصمة  طرابلس اشتباكات عنيفة وترددت أصداء إطلاق الرصاص في وسط المدينة وأجزاء أخرى منها،  وأظهرت مقاطع الفيديو التي تم تداولها سقوط قتلى وتضرر سيارات مسلحة كانت تتبع جهاز دعم الاستقرار إلى جانب فرار العديد من السجناء، كما أعلنت رئاسة جامعة طرابلس في وقت لاحق إيقاف الدراسة والامتحانات والعمل الإداري في كافة كليات وإدارات ومكاتب الجامعة حتى إشعار آخر ، كما تم إيقاف العمل في مطار "معيتيقة" وفور وقوع هذه الاشتباكات سارع كل من قوات اللواء ٤٤٤ واللواء ١١١ المواليتين لحكومة عبد الحميد الدبيبة للسيطرة على مقرات جهاز دعم الاستقرار الذي كان يترأسه الككلي فيما أعلنت وزارة الدفاع في وقت لاحق سيطرتها على منطقة أبو سليم بالكامل التي يقع فيها مقر قوات دعم الاستقرار وضمن مناطق نفوذها، من جانبه ثمن الدبيبة في حسابه على" منصة إكس" ما وصفه بجهود إعادة الأمن.

ويعتبر الككلي لاعبا أساسيا في المشهد الأمني في طرابلس، حيث أنشأ ميليشيا في حي أبو سليم عقب سقوط القذافي ثم وسع نفوذه لاحقا عبر دمج قواته ضمن هياكل الدولة الرسمية ليصبح قائدا لجهاز دعم الاستقرار مما سمح له التمتع بنفوذ إداري واقتصادي  واسع  داخل مؤسسات الدولة ، يأتي مقتل غنيوة الذي تم في ظروف غامضة ثم ما تلاه من تحركات أمنية وعسكرية كإشارة لكونه حادثا مدبرا لإعادة رسم خريطة النفوذ بين الفصائل المسلحة كما يشير إلى غياب دولة القانون مما يشكل تهديدا للأمن والاستقرار والعودة بنا إلي ما قبل عام ٢٠١٨.

على الصعيد السياسي: تلا هذه الأزمة موجة غضب سياسي، واجتماعي عارم حيث اندلعت احتجاجات واسعة في مناطق طرابلس، مثل أبو سليم ،وسوق الجمعة، وفشلوم مطالبين بكشف ملابسات مقتل غنيوة وإسقاط حكومة عبدالحميد الدبيبة والتي أتُهمت بالتقصير والتواطؤ،  كما أصدرت المجالس المحلية بيانات حملت فيها حكومة الوحدة الوطنية مسئولية تفجر الاشتباكات متهمين إياها بمحاولة فرض هيكلة أمنية جديدة دون توافق ميداني مما دفع المجلس الرئاسي بقيادة محمد المنفي إلى تجميد صلاحيات حكومة الوحدة  في الملفات الأمنية والعسكرية والمطالبة بعودة الفصائل المسلحة إلى مناطق نفوذها السابق مع تحمل المخالفين للمسئولية القانونية. مما يعكس رفض الشارع الليبي محاولات الإقصاء والاستبعاد  والانفراد بالسلطة.

على الصعيد الاقتصادي والمجتمعي: صاحب هذه الاشتباكات توقف لحركة الحياة وغلق المحال التجارية وإثارة الذعر والخوف في نفوس المواطنين، مما يشكل عبئا مضافا على كاهل المواطن الليبي في طرابلس في حال إصرار  الأطراف المتنازعة على التصعيد وعدم خفض التوتر.

مقتل غنيوة الككلي قد لا يُفضي بالضرورة إلى نهاية الفوضى الأمنية في طرابلس، لكنه يترك فراغا في شبكة المصالح المعقدة التي تشكّلت حوله. ومن المرجّح أن تشهد المدينة محاولات لإعادة توزيع مناطق النفوذ بين التشكيلات المسلحة، وربما تصاعدا في التوتر بين الأطراف التي ترى في غيابه فرصة لتوسيع نطاق تحرّكها.

ردود الفعل المحلية والدولية: تباينت ردود الفعل محلية ودولية على مقتل غنيوة، فعلى الصعيد المحلي سارع المجلس الرئاسي إلى إصدار  قرار يقضي بتجميد قرارات الدبيبة ذات الطابع الأمني والعسكري، كما دعا إلي وقف إطلاق نار فوري  وتشكيل لجنة لتقصي الحقائق، من جانب آخر أعلن مجلس النواب مسئولية حكومة الدبيبة كاملة عن تفجر الأزمة منددًا بتصرفاتها ومطالبا بسحب الاعتراف الدولي منها، كما دعا إلي ضرورة تشكيل حكومة وطنية موحدة تنهي  حالة الانقسام والنزاع كما  هاجم أسامة حماد رئيس الحكومة المؤقتة والتي يقع مقرها في بنغازي حكومة الدبيبة متهما إياها بالمسئولية المباشرة عن تأجيج الصراع ونشر الفوضى.

أما على الصعيد الدولي فقد أعربت مصر عن بالغ قلقها من تفاقم الأوضاع ودعت جميع الأطراف إلى التهدئة كما أعربت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا عن قلقها البالغ إزاء تفاقم الوضع الأمني في طرابلس، مع اشتداد القتال بالأسلحة الثقيلة في الأحياء المدنية ذات الكثافة السكانية العالية، ودعت جميع الأطراف إلى وقف الاقتتال فورا واستعادة الهدوء. وفي سياق متصل، كشفت تركيا عن استعدادها لإجلاء رعاياها الراغبين في مغادرة العاصمة الليبية كما دعت عدة دول أخري جميع الأطراف الفاعلة للتهدئة، كما نصحت هذه الدول رعاياها بالابتعاد عن مناطق الاشتباكات.

ثالثا- مستقبل الاستقرار في غرب ليبيا:

هناك عدة سيناريوهات محتملة عن مستقبل المسار السياسي في ليبيا:

السيناريو الأول: زيادة التصعيد وتفكك مؤسسات الدولة: وهو السيناريو الأكثر تشاؤمًا فرغم الوعود المتكررة بوقف إطلاق النار، تظل احتمالات تجدد الاشتباكات المسلحة بين الفصائل المختلفة عالية، خاصة مع استمرار التحشيد العسكري في طرابلس كما قد تؤدي محاولات حكومة الدبيبة لاستعادة السيطرة بالقوة على مناطق نفوذ الأجهزة المنافسة إلى موجات عنف جديدة وهذا السيناريو هو الأكثر ترجيحا.

السيناريو الثاني: هدنة ومسار سياسي بديل: في هذا السيناريو، قد يؤدي ضغط الشارع الليبي إلى تهدئة نسبية، خاصة إذا ما تدخلت قوى إقليمية ودولية فاعلة للوساطة، وعلى رأسها مصر، وتركيا، والولايات المتحدة، بهدف إعادة ضبط قواعد الاشتباك ومنع انزلاق الأوضاع إلى حرب مفتوحة في العاصمة. قد يتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، يعقبه طرح مبادرة سياسية جديدة ترتكز على إعادة هيكلة المشهد الأمني، دمج الفصائل المسلحة في مؤسسات الدولة بشكل تدريجي. إلا أن نجاح هذا المسار يتطلب توافقًا داخليًا حقيقيًا، وقدرة على فرض الالتزام الميداني، وهو ما يبدو صعبًا في ظل الانقسامات العميقة بين الأطراف الفاعلة.

السيناريو الثالث: حل سياسي شامل: وهو السيناريو الأكثر تفاؤلا ولكنه الأضعف ترجيحا حيث يبقى الحل السياسي الشامل هدفًا بعيد المدى، يتطلب توافقًا واسعًا بين الأطراف المسلحة والسياسية على إصلاحات أمنية جوهرية، تشمل دمج الكتائب المسلحة ضمن مؤسسات الدولة الأمنية وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، لتعزيز دور الدولة وتقليل التنافس المسلح، ويتطلب هذا السيناريو دعمًا دوليًا وإقليميًا مكثفًا، وتنازلات كبيرة من جميع الأطراف، إلا أن ضعف الثقة المتبادلة والتعقيدات الأمنية والضغوط الشعبية، تجعل تحقيقه في المدى القريب أمرًا شديد الصعوبة.

ختامًا: يمكن القول إن حادثة مقتل عبد الغني الككلي ليست مجرد تصفية حسابات بين فصائل مسلحة، بل تمثل مؤشرًا على خلل عميق في بنية السلطة غرب ليبيا، وتجسيدًا لحالة الفوضى الأمنية التي يعيشها البلد منذ سنوات. كما تعكس تآكل الشرعية الفعلية للمؤسسات الرسمية، مقابل تعاظم نفوذ الكيانات المسلحة وشبكات المصالح غير الرسمية.

المراجع:

1.      بلال عبدالله ،".." مركز السياسات الإماراتي،2025.  https://epc.ae/ar/details/featured/alazma-alliybia-fi-mutarak-alaam-2025-hudud-altghyur-almuhtamal

2.      عبير مجدي  "تداعيات أزمة 'رأس جدير' على المشهد الأمني في غرب ليبيا." مركز راع، 2024،  https://rcssegypt.com/21224

3.      تؤثر الاضطرابات في ليبيا على المسار السياسي المُرتقب؟" مركز راع، 2023.  https://rcssegypt.com/17133

4.      محمد فوزي. "معضلة مستعصية: ما أبعاد تجدد الاشتباكات الميليشياوية في الغرب الليبي؟" المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 2025. 

  https://ecss.com.eg/45257/

5.      عماد الدين بادي ،استكشاف الجماعات المسلحة في ليبيا: رؤى حول إصلاح القطاع الأمني في بيئة هجينة. جنيف: مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن (DCAF)، 2021.

6.      د.جيهان عبد السلام، ا.د.محمود أبو العينين، وآخرون. "طبيعة الصراع الليبي: أسبابه الداخلية والخارجية." مجلة دراسات المستقبل الإفريقي، كلية الدراسات الإفريقية العليا - جامعة القاهرة، العدد 42 (أكتوبر 2023).

7.       د.خالد خميس السحاتي ،"مستقبل الأزمة الليبية في ظل ازدواجية السلطة." آفاق مستقبلية، العدد 3 (يناير 2023).

8.      د.خالد خميس السحاتي ، "قراءة في تطور المشهد الليبي." آفاق استراتيجية، عدد 7 (يونيو 2023).

9.      مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، "مربع الصفر: لماذا يستمر التعثر المزمن للمسار السياسي الليبي؟"، 2025. https://futureuae.com/ar/Mainpage/Item/9291/


رابط دائم: