محددات مسار العلاقات الإسرائيلية–الأمريكية بعد عودة ترامب
21-5-2025

سما مدحت عبدالرحيم
* باحثة فى العلوم السياسية

تشكل المصالح والقرارات الاستراتيجية فى الشرق الأوسط أحد أبرز أبعاد العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، ومع عودة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى البيت الأبيض فى عام2025، بدأت العلاقة تأخذ مسارًا جديدًا فى ظل مجموعة من التحديات الإقليمية والدولية المتزايدة. وعلى الرغم من استمرار ترامب فى تقديم الدعم لإسرائيل، إلا أن التوترات العسكرية المتصاعدة مع إيران، وتدهور الأوضاع فى قطاع غزة إلى جانب الضغوط المتزايدة من المجتمع الدولي، قد أثرت بشكل ما على استقرار هذا التحالف. كما تتداخل المصالح الإسرائيلية مع الضغوط الداخلية التى تواجهها الإدارة الأمريكية، ومن هنا تبرز أهمية الوقوف أمام هذه التحديات، وحول مدى قدرة الرئيس ترامب الحفاظ على مستوى الدعم غير المشروط لإسرائيل فى ظل المتغيرات الجديدة.

أولًا- ملامح العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة:

تعد العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل من أكثر التحالفات تأثيرًا فى السياسة الدولية. فمنذ تأسيس دولة "إسرائيل " فى عام 1948، كانت الولايات المتحدة الداعم الأكبر لها سياسيا وعسكريا، ولكن هذه العلاقات تطورت بشكل كبير، ومع تولى "دونالد ترامب" الرئاسة الأمريكية فى عام 2017، فقد شهدت هذه الفترة تقاربا سياسيا واستراتيجيا وتوافق الروىء بشأن القضايا المتعلقة بإسرائيل فى منطقة الشرق الأوسط.

فى بداية ولايته الأولى اتخذ الرئيس الأمريكى ترامب سلسلة من السياسات التى تدعم "إسرائيل"، كان أبرزها قرار نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وذلك ما اعتبر أنه تحول تاريخى فى الموقف الأمريكى الرسمي، كما انسحب ترامب من الاتفاق النووى الإيرانى فى استجابة مباشرة للمخاوف الإسرائيلية بشأن برنامج طهران النووي، وذلك كان متوافقا مع آمال "نتنياهو"، وقد تواصل الدعم الأمريكى لإسرائيل من خلال تأييد تحركاتها فى الشرق الأوسط، لا سيما الضغط على إيران ووكلائها فى المنطقة.

برز التقارب الشخصى بين ترامب ونتنياهو فى دعم المبادرات الإسرائيلية، لا سيما "صفقة القرن" لحل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، والتى كان جوهرها هو تحقيق الرؤية الإسرائيلية التى كانت ترى أنها"فرصة تاريخية" لترسيخ السيطرة الإسرائيلية على فلسطين و تعزيز السيادة, و تقليص الطموحات الفلسطينية ,و لكن قوبلت الخطة برفض شامل من الجانب الفلسطيني، واعتبرتها القيادة الفلسطينية محاولة لتصفية القضية. شكلت هذه الصفقة امتدادا لانحياز أمريكا للجانب الإسرائيلى وتحويل تل أبيب من وسيط إلى شريك استراتيجي، مستندة إلى واقع إقليمى يتجه نحو التطبيع، ومعززة مكانة نتنياهو داخليا. وقد شهدت العلاقات الأمريكية - الإسرائيلية بعضا من التوتر والفتور فى نهاية فترة ولاية ترامب الأولى، عقب تهنئة "نتنياهو" الرئيس الأمريكى السابق "جو بايدن " بعد نجاحه على ترامب فى انتخابات 2020.

اختلفت طبيعة العلاقة بين الرئيس الأمريكى "جو بايدن" ورئيس الوزراء الإسرائيلى "بنيامين نتنياهو" بشكل كبير عن علاقته بالرئيس "دونالد ترامب". فقد اتسمت علاقة بايدن بنتنياهو بالتوتر والاختلاف حول عدد من القضايا الرئيسية، مثل الملف النووى الإيرانى وسياسات الاستيطان فى الأراضى الفلسطينية المحتلة،رغم استمرار التعاون فى بعض الملفات الأخرى، ويرجع هذا التباين إلى اختلاف الرؤى السياسية بين الطرفين إزاء قضايا الشرق الأوسط. لا سيما فيما يتعلق بالنهج الذى تبنته إدارة بايدن فى التعامل مع الملف الإيراني. حيث سعت هذه الإدارة إلى إحياء الاتفاق النووى مع إيران مرة أخري، وهو ما واجه عدم قبول من جانب إسرائيل، فقد اعتبر نتنياهو أن هذا الاتفاق يشكل "تهديدا وجوديا لإسرائيل". وتعمقت التوترات بين بايدن ونتنياهو خلال الحرب على غزة فى أكتوبر 2023، حين رفض الأخير مطالب واشنطن بالتوصل إلى وقف لإطلاق النار ووضع خطة لليوم التالى فى غزة، ما دفع بايدن إلى اتخاذ خطوات غير معتادة، منها: لأول مرة تجميد إرسال شحنات أسلحة محددة إلى إسرائيل.

بدأ "نتنياهو" فى إصلاح وإعادة العلاقات إلى مسارها الطبيعى مع "ترامب" بعد إعلان الأخير تأييده المطلق لإسرائيل فى حقها الدفاع عن نفسها عقب هجمات السابع من أكتوبر 2023، ومع عودته لتصدر المشهد السياسى الأمريكى وترشحه مجددًا للرئاسة، ثم فوزه وبدء ولايته الثانية، بدأت إسرائيل ولا سيما حكومة نتنياهو تترقب ملامح المرحلة الجديدة فى ظل عودة ترامب للبيت الأبيض، لا سيما بعد الدعم غير المسبوق الذى حظيت به خلال ولايته الأولى.وتعد هذه العودة بالنسبة لنتنياهو فرصة سانحة لإعادة تشكيل العلاقات مع واشنطن، بعد فترة اتسمت بالتوتر والبرود خلال إدارة عهد بايدن، ومع مرور مئة يوم على بداية ولاية ترامب الجديدة، تتصاعد التساؤلات حول مستقبل هذه العلاقة، هل ستعود إلى سابق عهدها، أم إن التغيرات الداخلية فى الولايات المتحدة، إلى جانب التحولات الإقليمية والدولية، ستفرض سياقا مختلفا لهذا التحالف؟

ثانيًا- تحديات العلاقة فى ظل التحولات الإقليمية:

منذ عودة الرئيس الأمريكى "دونالد ترامب" إلى البيت الأبيض فى عام 2025، أظهرت العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية تغيرات ملحوظة نتيجة لتحديات متعددة ظهرت على الساحة الدولية والمحلية، ورغم استمرار الدعم القوى الذى قدمه ترامب لإسرائيل فى فترته الأولى، إلا أن التحولات التى فرضتها التطورات الإقليمية والدولية أدت إلى نشوء سلسلة من التحديات التى تهدد استقرار هذا التحالف الاستراتيجي.

تدخل العلاقات الأمريكية–الإسرائيلية مرحلة دقيقة تتسم بتوترات استراتيجية متصاعدة، تعكس تباينًا جوهريًا فى الرؤى بين إدارة ترامب وحكومة نتنياهو بشأن إدارة الملفات الإقليمية الأكثر حساسية، وعلى رأسها قطاع غزة والتهديد الإيرانى فى الخليج.

فلم تكن زيارة ترامب الأخيرة إلى دول الخليج مجرد تحرك دبلوماسى تقليدي، بل جاءت كرد فعل على تطور أمنى خطير تمثل فى هجوم صاروخى على منشأة حيوية، ما استدعى خطابًا أمريكيًا صارمًا أكد أن أمن الحلفاء بات معيارًا لمصداقية الدور الأمريكى فى المنطقة.

فى المقابل، كشفت صفقة الإفراج عن الأسير الفلسطينى عن فجوة متزايدة فى مقاربة الطرفين لأزمة غزة؛ فبينما رأت واشنطن فى الصفقة خطوة لفتح نافذة للحوار وتخفيف التصعيد، تمسكت تل أبيب برؤيتها الأمنية التقليدية القائمة على الحسم العسكري. هذا الخلاف لا يعكس مجرد تباين فى التكتيك، بل صدام بين فلسفتين: إحداهما ترى فى الردع القوة الفاصلة، والأخرى تحذر من تداعيات التصعيد على معادلات الاستقرار الإقليمي.

فى خلفية هذا المشهد، تحاول واشنطن إعادة هيكلة تحالفاتها الإقليمية على أسس جديدة، تجمع بين تعزيز الردع تجاه إيران، وتكريس مقاربة أكثر مرونة مع أطراف النزاع، إلا أن هذا التوجه يلقى مقاومة واضحة من حكومة نتنياهو التى ترى أن أمن إسرائيل لا يُضمن إلا بمنطق القوة. وبين هذه الرؤى المتضادة، تتشكل ملامح مرحلة جديدة من العلاقة الأمريكية–الإسرائيلية، تتأرجح بين التنسيق الاستراتيجى والاختلاف فى الأولويات.

أولًا، التحديات العسكرية والأمنية المرتبطة بإيران، والتى كانت دائما محورا أساسيا فى السياسات الأمريكية-الإسرائيلية، فى فترة ولاية ترامب الأولى، كان هناك دعم غير محدود لإسرائيل فى مواجهتها مع إيران، سواء على مستوى العقوبات أو التهديدات المباشرة، ولكن مع عودته، بدأت تظهر إشكاليات تتعلق بحدود الدعم العسكرى لإسرائيل فى مواجهة إيران. على الرغم من استمرار السياسة الأمريكية المتشددة تجاه طهران، إلا أن هناك تصاعدا فى الانتقادات داخل الولايات المتحدة نفسها بشأن تصعيد التوترات فى المنطقة، والذى يعرض المصالح الأمريكية للخطر.

ثانيًا، ملف غزة. من المعروف أن إسرائيل كانت تستفيد من دعم قوى فى عملياتها العسكرية فى غزة، إلا أن العواقب الإنسانية للمواجهات المتكررة والضغوط الدولية وكذلك الضغوط الداخلية الأمريكية من منظمات حقوق الإنسان، دفعت إلى تعقيد الموقف. كما أن الدعم المالى والعسكرى الذى قدمته إدارة ترامب لإسرائيل لم يلق تأييدا عالميا واسعا، وظهرت أصوات فى الكونجرس الأمريكى تطالب بتقديم تنازلات ووقف التصعيد فى القطاع. وهذا يضع ترامب فى مواجهة مع مراكز القوى داخل بلاده، التى تطالب بمراجعة سياسة دعم إسرائيل دون التطرق بشكل جدى إلى التحديات الإنسانية فى غزة

ثالثًا، تواجه إسرائيل ضغوطا متزايدة من جيرانها فى المنطقة, حيث تتزايد الضغط على الدول العربية التى كانت تتمتع بعلاقات شبه توافقية مع تل أبيب, مثل مصر، والأردن، وبعض دول الخليج. على الرغم من وجود تطورات دبلوماسية أظهرت تقاربا فى العلاقات بين إسرائيل وبعض الدول العربية فى السنوات الأخيرة، فإن مواقف هذه الدول بدأت تتغير بشكل ملحوظ نتيجة للضغوط الداخلية والشعبية. فى الوقت الذى كانت إدارة ترامب تسعى إلى تعزيز السياسات الإسرائيلية التوسعية فى الضفة الغربية وقطاع غزة, بدأت الدول العربية فى مراجعة مواقفها فى ضوء الأوضاع الإنسانية المتدهورة فى غزة, مما جعل دعمهم غير المشروط لإسرائيل محل تساؤل. هذه التحولات تمثل تحديات جديدة فى علاقات إسرائيل مع جيرانها العرب, وتشير إلى تغيرات فى الاستراتيجيات الإقليمية التى قد تؤثر على مصالح إسرائيل فى المستقبل.

رابعًا وأخيرًا، التحدى الداخلى فى الولايات المتحدة، الذى يمثل مأزقا حقيقيا فى استمرارية الدعم غير المشروط لإسرائيل، مع وجود قوى معارضة تتزايد فى الكونجرس الأمريكى وخاصة من اليسار الأمريكي، أصبحت العلاقة مع إسرائيل أكثر عرضة للمراجعة. منظمات حقوق الإنسان والنشطاء السياسيون فى الولايات المتحدة أصبحوا يشككون فى مشروعية الدعم غير المشروط الذى تقدمه الإدارة الأمريكية لإسرائيل فى ظل انتهاكات حقوق الإنسان المستمرة فى غزة والضفة الغربية. هذه الضغوط الشعبية أصبحت تؤثر بشكل كبير على مواقف بعض أعضاء الكونجرس، مما قد يؤدى إلى تحول فى السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل فى المستقبل القريب.

بالإضافة إلى مواجهة ترامب لتحديات متزايدة فى إدارة هذه العلاقة، خاصة عندما يتعلق الأمر بموازنة الدعم العسكرى لإسرائيل، مع الحفاظ على استقرار الوضع الداخلى فى الولايات المتحدة والتعامل مع الضغوط الشعبية العالمية والإقليمية التى تتزايد بشكل ملحوظ. وبالتالي، فإن العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل قد تكون على مفترق طرق، حيث قد يتعين على إدارة ترامب اتخاذ قرارات استراتيجية قد تؤثر على مستقبله السياسى والعلاقات الأمريكية - الإسرائيلية فى المستقبل.

ثالثًا- عودة العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل:

منذ إعلان "دونالد ترامب" ترشحه للانتخابات الرئاسة لعام 2024، بدأت الدوائر السياسية فى إسرائيل وخاصة حكومة "نتنياهو" تتابع المشهد الأمريكى عن كثب، على أمل أن يشكل فوز ترامب المرتقب فرصة استراتيجية لإعادة ضبط العلاقة مع واشنطن وفق الرؤية الإسرائيلية، حيث أثبتت ولايته الأولى أنها تأخذ خطوات استراتيجية لصالح إسرائيل, بالإضافة إلى الدعم غير المشروط الذى حظى به "نتنياهو" من واشنطن.

وبالرغم أن خطاب الحملة الانتخابية للرئيس "ترامب" كان مشبعا بالتعهدات القوية ضد إيران والدعوات لتعزيز السيادة الإسرائيلية على الأراضى الفلسطينية, فإن سياساته العملية بعد عودته إلى البيت الأبيض تميزت بتوجهات أكثر تطرفا إلا أن اختيار ترامب لمايك هاكابي, الحاكم السابق لولاية أركنساس, كسفير أمريكى لدى إسرائيل, يعد أبرز تجسيد لالتزامه الثابت بدعم إسرائيل دون قيد أو شرط. هاكابي, الذى يعتبر من أبرز المدافعين الإنجيليين عن إسرائيل, لا يقتصر دعمه على الاعتراف بحق إسرائيل فى ضم الضفة الغربية فحسب, بل يذهب إلى أبعد من ذلك بتأكيده أن "فكرة الفلسطينيين ليست قائمة". وفى تصريحات له, أشاد هاكابى بالرئيس ترامب باعتباره الرئيس الذى جعل من إسرائيل قوة إقليمية لا يمكن تجاهلها, مما يعكس عمق التحول فى العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية التى أصبحت أكثر قوة ووضوحا فى ظل إدارة ترامب.

عقب فوز "ترامب" بولاية رئاسية ثانية، كان "نتنياهو" من أوائل القادة الذين سارعوا إلى تهنئة "ترامب" على فوزه فى الانتخابات، معبرا عن سعادته برجوعه إلى الساحة السياسية، وصف ذلك بأنها "أعظم عودة فى التاريخ" وبداية جديدة للتحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل، هذا الترحيب لا يعكس فقط عمق العلاقة الشخصية التى تجمع بينهما، بل يعكس أيضا حجم الرهانات التى يضعها نتنياهو على عودة ترامب إلى البيت الأبيض.

منذ تولي" ترامب" رئاسة الولايات المتحدة, كانت حكومة بنيامين نتنياهو هى الأكثر تفاؤلا مقارنة بالحكومة السابقة بقيادة "بايدن". خصوصا فى ظل الدعم الواسع الذى قدمته إدارة ترامب لإسرائيل فى قضايا حيوية، مثل الملف النووى الإيرانى وقطاع غزة. فى هذا السياق, اتخذت الولايات المتحدة سلسلة من القرارات الحاسمة التى أسهمت بشكل كبير فى تعزيز التحالف الاستراتيجى بين البلدين,بداية من تشديد العقوبات على إيران, وصولا إلى تقديم دعم غير مشروط لإسرائيل فى سياق مواجهاتها مع قطاع غزة. وهو ما يعكس تحولا جذريا فى السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية. هذا التحول الذى يراعى مصالح إسرائيل الأمنية بشكل كبير. يعكس فى الوقت ذاته موقفا سياسيا استراتيجيا يعزز من عمق التحالف الأمريكي-الإسرائيلى فى مواجهة التحديات الإقليمية والدولية.

شهدت السياسة الأمريكية تجاه إيران تحولا ملحوظا، انعكس بشكل مباشر على العلاقات مع إسرائيل والشرق الأوسط، فمنذ الأيام الأولى لتولى الرئيس دونالد ترامب منصبه، أصبح واضحا أنه يعتزم التصعيد مع طهران، وهو ما ينسجم مع مواقفه المتشددة فى ولايته الأولى، حيث تمثل سياسة "الضغوط القصوى" المبدأ الرئيسى فى استراتيجيته تجاه إيران. وفى هذا السياق، أعلن ستيف ويتكوف المبعوث الخاص للرئيس ترامب، أن أى اتفاق مع إيران يجب أن يتضمن إلغاءً كاملا لبرنامجها النووي، وفى الوقت نفسه، سمح لإيران بتخصيب اليورانيوم بنسبة 3.67% للاستخدام المدني.

تلك التصريحات المتناقضة تعكس الارتباك داخل الإدارة الأمريكية فى تعاملها مع إيران، مما قد يعقّد أى مفاوضات مستقبلية معها. فقد كان لهذا التناقض تأثير كبير على العلاقات مع إسرائيل التى ترى فى أى مرونة أمريكية تجاه إيران، ولذلك فهى تدعم سياسة ترامب المتشددة التى ينتهجها منذ انسحابه من الاتفاق النووى فى عام 2018. وعليه، كان دعم ترامب لإسرائيل يُنظر إليه على أنه تأكيد على الالتزام الكامل بحماية مصالحها الأمنية.

كانت إيران تمثل الخطر الاستراتيجى بعيد المدى على أمن إسرائيل، فقطاع غزة يمثل التهديد التكتيكى المتكرر، الذى يتطلب من واشنطن وتل أبيب استجابة دائمة وسريعة، ومن ذلك المنطلق، تعاملت إدارة ترامب مع غزة بوصفها جزءًا من مشهد إقليمى أوسع، تحركه طهران وتغذيه حركات المقاومة المدعومة منها، وعلى رأسها حماس. لذا، لم يكن الموقف من غزة معزولا عن السياسات الأمريكية تجاه إيران، بل جاء مكمِّلا لها. حيث لم يظهر الرئيس دونالد ترامب أى تحول فى نهجه الصارم تجاه القضية الفلسطينية، بل حدث غير ذلك، بدا وكأنه يستأنف نهجا أكثر تشددا ودعما لإسرائيل من أى وقت مضى. لا سيما فى سياق الصراع الدامى فى غزة.

فعلى مدار المئة يوم الأولى من ولايته الثانية، التزمت إدارة ترامب الصمت إزاء الدعوات الدولية لوقف إطلاق النار، وبدت غير مكترثة للتصعيد الميدانى الذى أسفر عن آلاف القتلى والجرحى من المدنيين الفلسطينيين. وغابت الجهود الإنسانية من قاموس الإدارة الأمريكية، ما شكل انقطاعا تاما عن مقاربة بايدن، التى وإن كانت منحازة لإسرائيل، فقد اتسمت ببعض التوازن الظاهرى ومحاولات لاحتواء التصعيد. عاد ترامب تأكيد رؤيته الأحادية للصراع، عبر سلسلة تصريحات عدائية تجاه الفلسطينيين، مبررا الهجوم الإسرائيلى باعتباره "دفاعا عن النفس ضد الإرهاب"، بل زادت التصريحات من حدة الانحياز، خاصة مع صعود رموز إنجيلية متشددة فى الإدارة، مثل مايك هاكابي.

كانت أول خطوة واضحة فى هذا الإطار هى تعزيز المساعدات العسكرية لإسرائيل لمواجهة تهديدات الفصائل الفلسطينية، وفى الوقت ذاته خفضت الإدارة الأمريكية دعمها للأونروا، وهى الهيئة التى تدير المساعدات الإنسانية للاجئين الفلسطينيين، بما فى ذلك سكان غزة. كانت هذه الخطوة تهدف إلى الضغط على السلطة الفلسطينية والحركات المسلحة فى القطاع والتأثير على الأوضاع المعيشية داخل غزة، على أمل أن يؤدى ذلك إلى تغيير فى المواقف السياسية داخل القطاع.

كان ترامب أيضًا يشجع محاولات إسرائيل ضم أراضٍ فى الضفة الغربية، وهو الأمر الذى كان له تأثير غير مباشر على قطاع غزة. بينما كانت إسرائيل تعزز مواقعها فى الضفة، كانت غزة تعانى من الحصار الذى تقوده إسرائيل، وهو ما زاد من تعقيد الوضع الإنسانى والسياسى فى القطاع.

على مستوى الدبلوماسية، استمر ترامب فى دعم خطط السلام التى كانت تتجاهل بشكل كامل مصالح الفلسطينيين فى غزة. كانت "صفقة القرن" هى المبادرة الرئيسية فى هذا السياق، وهى الخطة التى ربطت تحسين الوضع الاقتصادى فى غزة بشروط سياسية تتعلق بالقبول الإسرائيلى ورفض الفلسطينيين.

فى أحد المؤتمرات التى عقدها الرئيس "ترامب" طرح فكرة ما سموه "تطهير غزة", لم تكن هذه التصريحات مجرد تعبير عن فكرة عامة, بل كانت تشير إلى استراتيجية محتملة تهدف إلى إضعاف حماس فى غزة بشكل كامل، عبر الضغط على القطاع لتغيير موازين القوى لصالح الفصائل الأكثر اعتدالا, مع دعوات نقل الفلسطينيين من غزة إلى دول مجاورة، مثل مصر أو الأردن. هذه التصريحات لم تتحول إلى سياسة عملية مباشرة، ولكن كان لها تأثير على الصورة العامة للسياسة الأمريكية تجاه غزة، وبالطبع إن هذه الفكرة نالت تأييدا من بعض الأوساط الإسرائيلية، حيث كان رئيس الوزراء الإسرائيلى "بنيامين نتنياهو" من أبرز من أيدوا تلك الفكرة، وهو ما يعكس التفاهم العميق بين إسرائيل وإدارة ترامب فى محاربة حماس، حيث اعتبر نتنياهو هذه السياسة خطوة مهمة لتأمين حدود إسرائيل واستمرار بقاء حماس فى مكانته الحالية كتهديد مباشر.

وفيما يتعلق بالمساعدات الإنسانية لغزة، رغم التقارير المتناقضة حولها كان ترامب يدير علاقاته مع الدول العربية المجاورة، لكى يحاول ضمان ألا تكون غزة هى محور الحلول السياسية إلا تحت إطار الشروط الإسرائيلية. كما كانت هناك محاولات لتمويل مشاريع اقتصادية فى غزة، ولكنها كانت مشروطة بموافقة إسرائيل على بعض الشروط.

الأمر الذى يلفت الانتباه فى سياسة ترامب هو تركيزه على تفكيك العلاقات الفلسطينية التقليدية مع الدول المجاورة ودعمه لسياسات تهدف إلى عزل غزة عن باقى الأراضى الفلسطينية. حيث كان يعمل على تقوية الجبهة الإسرائيلية من خلال دعم خططها الأمنية والسياسية، وكان يتجاهل معظم الجهود الدولية التى كانت تدعو لحل الدولتين.

إضافةً إلى ذلك، كانت هناك محاولات لاستمرار الضغط الاقتصادى على غزة، حيث عملت الولايات المتحدة على تشجيع حلفائها فى المنطقة على تقليص المساعدات الموجهة للقطاع وأحيانا كانت تسعى لتحويل المساعدات الإنسانية إلى مشاريع مشروطة بأن تكون تحت مراقبة إسرائيل.

كما قامت الولايات المتحدة أيضا بمساعدات عسكرية لإسرائيل بقيمة ثلاثة ملايين دولار، وتشمل أكثر من 35 قنبلة، حيث قام "ترامب" بالتراجع عن قرار الحكومة السابقة بتعليق هذه الأسلحة، حيث ارتفع إجمالى المساعدات العسكرية التى قدمتها إدارة ترامب لإسرائيل حتى الآن إلى ما يقرب من 12 مليار دولار.

وعلى الرغم مما بدا من تقارب وثيق ودعم غير مشروط من إدارة ترامب لإسرائيل، فإن الواقع الإقليمى والدولى لا يخلو من تحديات كبرى قد تعوق تعاظم هذا التحالف. فعودة ترامب، وإن مثلت لحظة انتشاء سياسى فى تل أبيب، إلا أنها تفتح الباب على مصراعيه أمام إشكاليات معقدة تهدد استقرار العلاقة وتوازن المصالح.

ختامًا، يتضح من مجمل التطورات أن العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وإن كانت راسخة تاريخيا، لم تعد بمنأى عن التحولات السياسية والضغوط المتزايدة على المستويين الداخلى والخارجي،كما أضفت عودة ترامب طابعًا اندفاعيًا على الدعم الأمريكي، لكنها لم تلغ التعقيدات المفروضة على كلا الجانبين. وبين تحديات غزة، وهواجس إيران، وتقلب الرأى العام داخل أمريكا وخارجها، تبدو واشنطن وتل أبيب فى اختبار صعب لقدرة هذا التحالف على الصمود ليس فقط أمام الخصوم بل أمام أسئلة المرحلة المقبل. وفى ظل هذا التقلب، تظل السياسات الأمريكية المقبلة، لا سيما فى ولاية ترامب الثانية، عاملا حاسمًا فى رسم ملامح العلاقة بين البلدين ومستقبل الاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط.

المصادر: 

Times of Israel. (2017). Full text of Netanyahu-Trump remarks in Jerusalem

https://www.timesofisrael.com/full-text-of-netanyahu-trump-remarks-in-jerusalem/

trantos, A. (2024). Trump’s return to the White House: Implications for the Israel-Hamas war and Middle East stability.

https://theowp.org/trumps-return-to-the-white-house-implications-for-the-israel-hamas-war-and-middle-east-stability/

https://www.bbc.com/news/articles/cgkjxlml42voBowen, J. (2025, April 17).jeremy bowen report from Jerusalem BBC News

Landler, M. (2017, December 6). Trump recognizes Jerusalem as Israel’s capital and orders U.S. embassy to move. The New York Times. Retrieved from

https://www.nytimes.com/2017/12/06/world/middleeast/trump-jerusalem-israel-capital.ht

Shear, M. D., & Halbfinger, M. D. (2020, January 28). Trump unveils Middle East peace plan. The New York times retrieved from

https://www.nytimes.com/2020/01/28/world/middleeast/peace-plan.html

the white house. (2017, September 18). President Trump meets with Prime Minister Netanyahu of Israel

https://trumpwhitehouse.archives.gov/articles/president-trump-meets-prime-minister-netanyahu-israel-2 -

korecki N. (2023, October). Netanyahu-Biden relationship explained: U.S.-Israel diplomacy nbc news.

https://www.nbcnews.com/politics/joe-biden/netanyahu-biden-relationship-explained-us-israel-diplomacy-rcna119510

Bennett, B. (2023, March 29). How the Biden-Netanyahu relationship turnedicy.time Retrieved from

https://time.com/6267020/biden-netanyahu-relationship-turned-icy

Ross, D. (2017, February 16) the road to peace Retrieved from

https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/altryq-aly-alslam?

shavit, E. (2025, January 26). The trump administration—Policy recommendations for Israel. Retrieved from

https://www.inss.org.il/publication/trump-policy-paper/

cnn arabic. (2025, April 8). U.S.-Iran talks: New negotiations on Gaza, Tehran, and trump https://arabic.cnn.com/middle-east/article/2025/04/08/us-iran-talks-israel-gaza-trump

tol Staff. (2025, March 2). U.S. moves to expedite delivery of $4 billion in military aid to Israel. Retrieved from

https://www.timesofisrael.com/us-moves-to-expedite-delivery-of-4-billion-in-military-aid-to-israel/

Szuba, J. (2025, February 4). During meeting with Netanyahu, Trump calls for expelling Palestinians from Gaza. Retrieved from

https://www.al-monitor.com/ar/originals/2025/02/khlal-lqayh-ntnyahw-tramb-ydw-lakhraj-alflstynyyn-mn-ghzt

France 24. (2025, February 5). Trump announces plan for U.S. control of Gaza, Netanyahu hails it as ‘historic’. Retrieved from

https://www.france24.com/ar/%D8%A3%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%83%D

https://www.theguardian.com/world/2025/apr/15/trump-envoy-steve-witkoff-demands-iran-eliminate-nuclear-programme

CNN (2024, November 12). Mike Huckabee: Trump’s pick for Israel Ambassador. Retrieved from

https://edition.cnn.com/2024/11/12/politics/mike-huckabee-israel/index.html

Middle East Council. (2024, November 6). Trump’s return and implications for the Middle East. Retrieved from

https://mecouncil.org/blog_posts/trumps-return-and-implications-for-the- middle-east/

Jahshan, K. E. (2025, March 25). Does Trump still want to "clean out" the Gaza Strip? Arab Center Washington DC. Retrieved from https://arabcenterdc.org/resource/does-trump-still-want-to-clean-out-the-gaza-strip/

Zhang, S. (2025, March 4). Trump admin bypasses Congress to send Israel $4B as it blocks aid into Gaza. Truthout. Retrieved from https://truthout.org/articles/trump-admin-bypasses-congress-to-send-israel-4b-as-it-blocks-aid-into-gaza/

Samia Nakhoul and James Mackenzie, Trump's Gulf tour reshapes Middle East diplomatic map, Reuters, May 18, 2025, https://www.reuters.com/world/middle-east/trumps-gulf-tour-reshapes-middle-east-diplomatic-map-2025-05-18/

 الهيئة العامة للاستعلامات. (23 ديسمبر، 2017). نقل السفارة الأمريكية إلى القدس خطوة محفوفةبالمخاطر. تم الاسترجاع منhttps://www.sis.gov.eg/Story/154688/

لجزيرة نت. (28 مارس، 2024). هل يسعى بايدن لتفكيك تحالف نتنياهو؟ تم الاسترجاع منhttps://www.ajnet.me/politics/2024/3/28/هل-يسعى-بايدن-لتفكيك-تحالف-نتنياهو

سكاى نيوز عربية. (2024، 20 مارس). نتنياهو وبايدن.. من  الأحضان إلى "التحالف مع الخصوم". تم الاسترجاع منhttps://www.skynewsarabia.com/world/1701266

https://truthout.org/articles/trump-admin-bypasses-congress-to-send-israel-4b-as-it-blocks-aid-into-gaza

شمص، أ. (27 يوليو، 2024). لقاء ترامب ونتنياهو: تحالفات قديمة   وتوترات جديدة حول غزّة وهاريس. تم الاسترجاع منhttps://annasher.com/exclusive/14601/

سكاى نيوز عربية، (20 أبريل، 2025). عودة ترامب.. صفقات سياسية أم حسابات معقدة للشرق الأوسط؟ تم الاسترجاع منhttps://www.skynewsarabia.com/middle-east/1770400

ترامب ونتنياهو.. هل وصل الخلاف نقطة اللاعودة؟، القدس، 11 مايو، 2025،https://www.alquds.com/ar/posts/160483


رابط دائم: