تحولات السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط
21-5-2025

إسراء شوقي
* باحثة في الشأن الإقليمي

تعيد الولايات المتحدة الأمريكية ترتيب أولوياتها فى الشرق الأوسط، مستندة إلى معادلات جديدة فرضتها التغيرات الإقليمية والدولية، فبعد سنوات من التصعيد العسكرى والضغط على إيران، تعود واشنطن لطاولة المفاوضات مع طهران، فى محاولة لخلق تسوية سياسية معها، وللحد من تهديدات حلفاء طهران الإقليميين، وعلى رأسهم جماعة الحوثى فى اليمن.

التحول فى النهج الأمريكى ليس معزولا عن التطورات الميدانية والسياسية، بل يعكس قراءة واقعية لتعقيدات المشهد فى المنطقة، وإدراكا بأن الحلول العسكرية لم تعد قادرة على تحقيق الأهداف الاستراتيجية، لكن لماذا تعود واشنطن إلى الدبلوماسية؟ وما الذى تغير فى الحسابات الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بإيران والحوثيين؟ وهل لهذا التحول صلة بالسياق الأوسع المتعلق بإسرائيل والأمن الإقليمى؟

الإدارة الأمريكية برئاسة دونالد ترامب تدرك أن اللجوء إلى الخيار العسكرى ضد إيران يحمل مخاطر كبيرة، ويعد مقامرة غير مضمونة النتائج، فبينما تنتشر المنشآت النووية الإيرانية فى مواقع مختلفة ومعززة بأنظمة دفاع متطورة، يصعب تحقيق ضربة يمكن أن توقف البرنامج النووى بشكل كامل، وحتى إن تم تنفيذ ضربات نوعية، فإن الرد الإيرانى المحتمل على مصالح الولايات المتحدة وحلفائها فى الخليج، أو عبر أذرعها العسكرية فى لبنان (حزب الله) واليمن (الحوثيين)، قد يشعل موجة تصعيد إقليمى واسعة يصعب احتواؤها.

كما أن أى مغامرة عسكرية أمريكية ستجعل الولايات المتحدة أمام تحديات كبيرة فى الداخل، حيث تسود حالة من الرفض الشعبى لأى تدخل جديد فى الشرق الأوسط بعد تجارب العراق وأفغانستان، بالتالى فإن العودة إلى المسار الدبلوماسى يمثل خيارا أكثر واقعية فى الوقت الحالى.

واشنطن ومعها أطراف دولية مؤثرة، تسعى لخفض مستوى التوتر فى الشرق الأوسط، خاصة فى ظل الانشغال الأمريكى بملفات قد تبدو أكثر أهمية بالنسبة لها، مثل الصراع فى أوكرانيا والتحديات المتصاعدة مع الصين فى المحيطين الهندى والهادئ، واشنطن تسعى لتهدئة الموقف مع طهران، سواء عبر تخفيف أنشطة إيران الإقليمية، أو دعمها لـ "حزب الله" أو "الحوثيين".

ونتيجة العقوبات الاقتصادية، فإن إيران ليست قوية كما كانت، فلديها اضطرابات داخلية متكررة تضعف النظام السياسى الداخلى، وهو ما يجعل النظام الإيرانى أكثر استعدادًا للقبول بمفاوضات تضمن له تخفيف العقوبات دون تقديم تنازلات حقيقية فى القضايا الإقليمية.

وفى الوقت الذى ظهر فيه جمود فى المفاوضات الرسمية بين طهران وواشنطن، ظهرت أطراف إقليمية كوسطاء كون علاقتها مع الطرفين متوازنة، وساهمت بالفعل فى فتح قنوات تفاوض غير مباشرة، شملت تبادل رسائل، وترتيب لقاءات خلف الأبواب المغلقة.

وجود مثل هذه القنوات أسهم فى تليين المواقف المتصلبة، ووفر إطارًا آمنًا يسمح للطرفين بإعادة تقييم مواقفهما دون خسارة سياسية مباشرة، وتشير تقارير صحفية إلى أن طهران تفضل هذا النمط من التفاوض الذى يسمح لها بالحفاظ على خطابها المتشدد أمام الداخل، بينما تجرى حوارات فعلية مع واشنطن فى الخفاء.

وعلى خلفية هذه التطورات، برزت إشارات مهمة عن تخلى إيران جزئيًا عن دعم "الحوثيين"، أو بمعنى آخر تقليل مستوى الدعم فى الوقت الحالى، وتشير بعض التحليلات إلى أن طهران ربما تستخدم "ورقة الحوثيين" فى إطار تفاوضى أكبر مع الولايات المتحدة، وتسعى لتقديمها كبادرة حسن نية مقابل تقدم فى ملفات أخرى مثل العقوبات أو البرنامج النووى.

من جانبهم، أبدى الحوثيون "مرونة تكتيكية"، تمثلت فى قبولهم بمواءمات مع واشنطن مع استمرار خطابهم العدائى ضد إسرائيل، فى محاولة للفصل بين "العدوين" مع الاحتفاظ بقدر من التأثير فى الداخل اليمنى.

وعلى الرغم من أن التفاهمات بين واشنطن والحوثيين لم تشمل تل أبيب بشكل واضح ومباشر، إلا أن لها تأثيرات غير مباشرة على أمن الدولة العبرية، فخفض التوتر فى البحر الأحمر يقلص الضغوط على إسرائيل، التى تواجه تهديدات متزامنة من حزب الله فى الشمال، ومن فصائل مدعومة من إيران فى غزة والضفة.

واشنطن ترى فى ضبط السلوك الإيرانى الإقليمى جزءًا لا يتجزأ من حماية مصالحها وحلفائها، وفى مقدمتهم إسرائيل، وبالتالى، فإن أى اتفاق مع إيران لا بد أن يشمل -مباشرة أو ضمنيًا- رسائل تتعلق بتحجيم وكلائها فى الشرق الأوسط.

إدارة "ترامب" تسعى لتحقيق نوع من الربط بين الملف النووى الإيرانى، ودور طهران فى المنطقة، على الرغم من رفض إيران لهذا الطرح فى الأساس، ومع ذلك فإن الضغوط الاقتصادية والسياسية المتزايدة قد تدفع طهران لتقديم تنازلات تدريجية، تتضمن خفض دعمها لبعض الفصائل المسلحة، بما ينعكس إيجابا على الوضع الأمنى فى إسرائيل.

ومن اللافت أيضًا فى هذه الجولة أن الجانب الإيرانى حرص على توجيه تحذيرات واضحة للأمريكيين بشأن "تصريحاتهم المتناقضة"، وهو ما عكس رغبة طهران فى فرض قواعد خطابية جديدة تقلل من التصعيد الإعلامى الموازى، ويبدو أن هذه الرسالة كانت جزءًا من استراتيجية إيرانية أوسع لتحسين شروط التفاوض ومنع أى توظيف أمريكى للمسار التفاوضى فى مزايدات داخلية أو إقليمية.

التحذيرات الإيرانية، وإن جاءت بلهجة دبلوماسية، فإنها تعكس حجم التوتر، وتشير إلى أن التفاوض لا يزال يجرى على حافة الهاوية، فى ظل انعدام الثقة المتبادل، وهذا ما يجعل أى اختراق محتمل مرهونًا ليس فقط بالتفاهمات التقنية، بل بقدرة الجانبين على الاحتواء فى الإعلام والميدان، خاصة مع استمرار التهديدات الإسرائيلية والتوتر فى مضيق هرمز.

وعلى الرغم من التباينات الجوهرية فى المواقف، فإن الجولة الرابعة من المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة كشفت عن مناخ تفاوضى أقل توترًا، وأكثر واقعية، وبينما يحاول كل طرف تثبيت خطوطه الحمراء، فإن القبول الضمنى بخيارات وسط، وعلى رأسها التدرج المؤقت فى التزامات الطرفين، يفتح الباب أمام بلورة اتفاق انتقالى، يخفف من التوتر النووى، ويمنح المسار الدبلوماسى فرصة جديدة، لكن الرهان الآن لم يعد فقط على مدى واقعية طهران وواشنطن، بل على قدرتهما على الصمود أمام الضغوط الداخلية والخارجية، وترجمة هذا التقدم النسبى إلى خطوات ملموسة.

من جهة أخرى، فإن وقف العمليات ضد "الحوثيين" يسمح لواشنطن بتكثيف جهودها تجاه جبهات أخرى أكثر أهمية بالنسبة لتل أبيب، مثل الجنوب اللبنانى أو البرنامج الصاروخى الإيرانى.

التهدئة الأمريكية-الإيرانية مؤقتة وقابلة للانفجار فى أى وقت، فالمشهد الإقليمى لا يزال مشبعًا بالتوترات، والملفات العالقة أكثر من أن تحل بجولة تفاوضية أو تفاهم محدود، ومع ذلك، فإن الرهان الأمريكى على الدبلوماسية يعكس تحوّلا فى استراتيجية إدارة الصراع، تقوم على ضبط التوتر بدلا من الحسم الكامل.

ويمكن القول إن التحول فى المقاربة الأمريكية تجاه إيران وحلفائها، وفى مقدمتهم الحوثيون، لا يعكس فقط تراجعًا فى فاعلية الخيار العسكرى، بل يمثل استجابة مرنة للوقائع المتغيرة فى الإقليم، ومحاولة لتقليل الخسائر وتعظيم المكاسب فى لحظة إقليمية ودولية معقدة، فعلى عكس المقاربات السابقة التى قامت على منطق "الردع الصلب"، تسعى واشنطن حاليًا إلى ممارسة "الردع الذكي"، الذى يجمع بين الضغوط الاقتصادية، والتحركات الدبلوماسية، وخلق توازنات جديدة تضمن مصالحها دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة.

لكن رغم هذا الميل الظاهر نحو التهدئة، فإن الطريق لا يزال محفوفًا بالمخاطر، فالدبلوماسية الأمريكية تواجه تحديات هيكلية، أبرزها انعدام الثقة المتبادل، وتعدد اللاعبين الإقليميين الذين قد يفشلون أى تفاهم لا يخدم مصالحهم المباشرة، كما أن الرهانات الداخلية، سواء فى طهران أو واشنطن، قد تعيد خلط الأوراق فى أى لحظة، خاصة مع اقتراب استحقاقات انتخابية فى الولايات المتحدة، وتزايد الضغوط الاقتصادية فى إيران.

ورغم أن التفاهمات الجزئية قد تحقق قدرًا من خفض التصعيد، فإنها لا ترقى بعد إلى مستوى "اتفاق شامل" يعالج جذور الأزمة، ومن هنا، فإن مستقبل المسار الدبلوماسى يظل مرهونًا بمدى قدرة الطرفين على تجاوز العقبات المرحلية، وبناء مساحات مشتركة تعيد تعريف خطوط الاشتباك فى المنطقة، فالمسألة ليست فقط فى العودة إلى طاولة المفاوضات، بل فى القدرة على البقاء فيها، وصياغة حلول واقعية تدرك طبيعة التحولات الجيوسياسية الراهنة.

 


رابط دائم: