الفنان الفلسطيني وثقافة الحياة
22-2-2024

مدحت بشاي
* كاتب صحفى

" مرّ الشعب الفلسطينيّ بحرب شُنّت عليه منذ بداية القرن العشرين مصحوبة بآلة إعلاميّة خطيرة وأساطير وقصص توراتيّة ضاربة في القِدَم، بالإضافة إلى القدرات الماليّة والعسكريّة الكبيرة التي وضعت تحت تصرف القائمين على هذه الحرب، الأمر الذي أدى إلى مرور الشعب الفلسطينيّ بتجارب وأهوال قد لا تتكرر في التاريخ المعاصر..".

هي وجهة نظر الفنان الفلسطيني الوطني الريادي " سليمان منصور " والذي يؤكد في كل مقابلاته الإعلامية على بعض توجهات رموز فناني المقاومة وكيف كان الوصول بفنونهم وقضيتهم التاريخية لكل الدنيا، ورأيت أن يكون استهلال مقالي بما عرضه فناننا الرائع في تلك الفقرة، والمواطن الفلسطيني ينزف المزيد من الدماء، ويسطر الملحمة الأصعب في تاريخ بلاده.

لا ريب، أن المتابع لمسيرة الفنون التشكيلية الفلسطينية بشكل عام وفنون المقاومة بشكل خاص سوف يلحظ أن لتلك الفنون أكثر من دور، منها  التأريخ والتوثيق لمراحل النضال الوطني، كما يُعد استلهام  الفن التشكيلي لقضايا المواطن الفلسطيني والعربي في مجال الحقوق المغتصبة وأوجاع الفقد واليتم وعذابات أزمنة البغي والقهر الإسرائيلي في النهاية مساهمة هامة في تشكيل الوجدان العربي والفلسطيني، إضافة إلى اضطلاع القوى الناعمة بشكل عام  بدور قيمي وإنساني وتعبوي.

ولا تكاد تخلو لوحات أي من التشكيليين الفلسطينيين من اللون الأحمر إشارة إلى دماء الشهداء أو الكوفية إشارة إلى الهوية الفلسطينية، وكذا القيد وشجر الصبار وغيرها مما له صلة مباشرة بمعاناة ذلك الشعب.

ولعل من بشاعات المحتل الغادر، يُعاني الفنانون الفلسطينيون أن لوحاتهم وكل أنشطتهم الإبداعية باتت هدفًا للاحتلال، فتعرضوا للاعتقال وصودرت لوحاتهم ومُنعوا من السفر لنقل الواقع الأليم للمجتمع العربي والدولي، ولكن ذلك لم يمنع ريشة الفنان الفلسطيني من استلهام ملامح ذلك الواقع المؤلم بتوثيق العديد من ألوان المعاناة والعذاب للتاريخ.

"سليمان منصور" المولود في بلدة بيرزيت شمالي مدينة رام الله قبل النكبة بعام واحد، سنة 1947، المصور ورسام الكاريكاتير، وأحد أهم أبناء ذلك الشعب المتقد عشقًا لفلسطين الوطن والأرض والإنسان وأشجار الحب والانتماء للقرية والمدينة وعموم المشهد الفلسطيني، بكل الملامح التراثية والإنسانية، رسم المقاتل، والمرأة الأم، والمرأة المقاتلة، رسم الانتفاضات ومواسم القطاف والساحل الفلسطيني، وعقب أحداث الانتفاضة الأولى، إنضم " سليمان " لجموع الفنانين في مقاطعتهم لكل المنتجات الإسرائيلية، والاستعاضة عن مواد الرسم (من ألوان وأقمشة وغيرها) التي لم تكن متوفرة إلاّ في الأسواق الإسرائيلية بمواد من الطبيعة الفلسطينية، كالفخار والطين وجلود الحيوانات، وحتى الشاي.

ومعلوم أنه يتردد بين الفنانين ورموز الفن التشكيلي الفلسطيني والعربي أنه إذا كانت " الجورنيكا "، وهي لوحة بيكاسو الشهيرة التي خلدت آلام الشعب الإسباني خلال الحرب الأهلية الإسبانية، قد تحولت الى أيقونة فنية محفوظة في الذاكرة الجمعية للشعب الإسباني، وعمل متحفي يستقطب الملايين حول العالم سنويًا، فإن لوحة "جمل المحامل" للتشكيلي الفلسطيني سليمان منصور، التي تجسد صورة عجوز فلسطيني يحمل القدس على ظهره ارتقت كذلك الى منزلة وجدانية كبيرة، وعبرت برمزية لافتة وعاطفة شفيفة عن المأساة الفلسطينية، ما أهلها لتبؤ منزلة الصدارة في المشهد التشكيلي الفلسطيني المعاصر جنبًا الى جنب مع أعمال اسماعيل شموط وتمام الأكحل وغيرهم من الفنانين الذين جالت لوحاتهم في عواصم العالم معلنةً عن ابداع نهض من الألم والدمار وانحاز الى الحق والكرامة والحرية.

وفي وصفه للرحلة الشخصية التي قام بها من الرمزية السياسية إلى الفن يذكر "سليمان": "...كما تعلمون نحن في الأراضي المحتلة منذ 25 عامًا أو أكثر... طوال هذا الوقت كنا نرسم القضبان والقبضات والسجناء والأراضي المصادرة والأسلاك الشائكة التي طورنا من خلالها موسوعة الرموز .. وبعد عشرين عامًا أو نحو ذلك بدأنا نشعر أن شيئًا ما كان مفقودًا لدينا.. والانتفاضة في العام 1980 جعلتني شخصيًا أشعر بأنني صغير وبلا الأهمية التي كنت أتخيلها كفنان يقود الجماهير إلى الثورة.. لم يكن لعملي أي معنى في ظل الانتفاضة.. وقد منحني ذلك شعورًا بالحرية، يمكنني من خلاله تطوير عملي الخاص وكذلك الفن الفلسطيني ".

ورغم حرص " سليمان " على دعم الذهاب بالمتلقي لإعلاء ثقافة الحياة، إلا أنه يحكي عن معاناته في مطلع ثمانينات القرن الماضي، عندما أقام معرضًا خاصًا في " جاليري 79"، فاقتحمت قوات الاحتلال المعرض، وصادرت لوحاته وأغلقته.

ويروي " سليمان " حول ما كان يعانيه الفنان الفلسطيني في زمن استعمار محتل غبي غاشم، فيقول:  " تم استدعاؤنا من قبل سلطات الاحتلال، أنا، ونبيل عناني، وعصام بدر، وقرأوا علينا أوامر تتعلق بالممنوعات الإسرائيلية المتعلقة باللوحات والأعمال الفنية الفلسطينية، ومن بينها حظر رسم ألوان العلم الفلسطيني (الأبيض، والأسود، والأحمر، والأخضر)، وأكدوا لعصام بدر، الذي عقب على قراراتهم، أن أي لوحة تتضمن هذه الألوان حتى لو كانت تعرض بطيخًا، سوف تجري مصادرتها لتضمنها ألوانا ممنوعة، كما مُنعنا من إقامة أي معارض دون تصريح من رقابة الاحتلال، التي تذرّعت بقانون يعود لحقبة الانتداب البريطاني على فلسطين، ما عقد عملنا كفنانين، لكننا تحايلنا على الأمر من خلال العرض في البلديات، التي كانت ذراعًا لمنظمة التحرير الفلسطينية في معظمها "، وأضاف منصور: " ساهمت هذه القرارات التعسفية في استقطاب الكثير من الفنانين العالميين الذين عبروا عن تضامنهم معنا، وأقمنا معارض مشتركة تحت عنوان (فليسقط الاحتلال)، واستمرت هذه الحالة حتى الانتفاضة الأولى عام 1987".

في العام 1998، حصل منصور على جائزة الفنون البصرية في بينالي القاهرة وجائزة فلسطين الوطنية للفنون البصرية، كما حصل على جائزة اليونسكو للثقافة العربية في العام 2019، يصف القيم عمر خليف أعمال منصور في كتاب  "تسلسل زمني ناقص: الفن العربي من الحديث إلى المعاصر – أعمال من مؤسسة بارجيل للفنون"، أعمال منصور بأنها "أيقونية" و"رمز للمقاومة والطموح الفلسطيني على مدى السنوات الأربعين الماضية "


رابط دائم: