حول الموقف الروسي من الأزمة السورية
6-2-2012

د. غسان العزي
*

غداة انهيار الاتحاد السوفييتي تحولت روسيا من دولة عظمى ذات تاريخ حافل يليق بإمبراطورية عريقة إلى بلد ضعيف مفكك يحكمه الفساد والمافيات، وتتدخل في شؤونه الداخلية الولايات المتحدة كما تفعل في أي دولة “فاشلة” في العالم الثالث . وعندما وصل فلاديمير بوتين إلى الكرملين في عام 2000 وعد شعبه بالعمل على إعادة بلاده إلى موقعها كقوة عظمى دولية . وبالفعل ساعدته الظروف  وارتفاع أسعار الطاقة على تصحيح الوضع الاقتصادي بعد أن أخضع  الطبقة الأوليغارشية التي كانت تمسك بالقطاعات الاقتصادية الأساسية، ونجح في غضون سنوات قليلة في إحكام سيطرته  بعد أن سحق التمرد الشيشاني بأكثر الطرق وحشيةً خلف دخان الحرب الأمريكية على الإرهاب غداة تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول 2001 .

في فبراير/شباط 2007 خلال مؤتمر الأمن في ميونيخ أطلق صرخته الشهيرة ضد الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي، واعداً بالوقوف في وجهها، الأمر الذي أعاد تعبير “الحرب الباردة” إلى الأدبيات السياسية العالمية . ومن خلال ملفات دولية عديدة مثل النووي الإيراني ورفض الحرب الأمريكية على العراق، على سبيل المثال لا الحصر، وقفت موسكو في وجه واشنطن في الساحة الدولية رغم تعاونها معها في غير ملف .

في ما يتعلق  بالملف السوري يمكن القول باختصار شديد إن ما تريده روسيا هو أن يتعامل الغرب معها كقوة عظمى، فلا يحاصرها بقواته الأطلسية ويتدخل في أوضاعها الداخلية  .صحيح أن ثمة مصالح روسية في سوريا مثل مبيعات الأسلحة ومرفأ طرطوس وعدم سقوط آخر معقل لها في البحر المتوسط والشرق الأوسط، لكن المسألة رغم ذلك أبعد من ذلك وأهم .

لقد شعرت روسيا بأنها خُدعت في الملف الليبي بعد أن وافقت على القرارين 1970 و1973 ولم يكلف حلف الأطلسي نفسه عناء البحث معها  في مستقبل هذا البلد الذي تستعد الشركات الغربية لتقاسم المغانم فيه، وذلك بعد أن تمخضت الثورات التونسية والمصرية واليمنية عن أوضاع جديدة لا تحسب أي حساب للمصالح الروسية في غمرة التدافع الغربي على المواقع في الخريطة الجديدة . وهكذا فإن الملف السوري يوفر لروسيا الفرصة كي تثبت للجميع أنه لا يمكن الاستغناء عنها في رسم مستقبل المشرق كما حصل في المغرب العربي . بوتين ليس يلتسين وسوريا ليست كوسوفو ولا العراق .

مرفأ طرطوس تفصيل بسيط إذ يمكن الحصول على ضمانات بعدم مطالبة موسكو بتفكيكه بعد تغير النظام السوري . كذلك مبيعات الأسلحة الروسية لسوريا(وهي بلد فقير بالمناسبة اضطرت موسكو لإعفائه من ديون كثيرة مؤخراً) والتي تقدر ببضعة مئات من ملايين الدولارات (وإن كانت تمثل بين 7و10 في المئة من مجمل مبيعات روسيا من السلاح) .

المسألة ليست في بعض المكاسب ولا في حماية حليف تقليدي مهم، إذ إن وزير الخارجية لافروف أعلن من أستراليا أن” بشار الأسد ليس حليفاً ولا صديقاً لروسيا” وهو تصريح لافت فسره البعض بأنه انعطافة مفاجئة في الموقف الروسي، لكنه لا يعدو كونه تذكيراً بإمكانية البيع والشراء واستدراج العروض في هذا الملف .

عدا ذلك ينبغي ألا ننسى أن الغموض الذي يحيط بمستقبل  سوريا في حال سقط النظام البعثي يخيف كثيرين في الشرق وفي الغرب، ومنهم روسيا التي تخشى من سيطرة الإسلاميين على الحكم  كما فعلوا في تونس ومصر وليبيا والمغرب . وبالتالي فإن مناطق عديدة في القوقاز وآسيا الوسطى حيث غالبية الشعوب إسلامية وتركمانية قد تتحرك بفعل الانتصار التركي والإسلامي، وملفات كثيرة نائمة قد تستفيق، وربما يعود الملف الشيشاني نفسه إلى الواجهة، وهو ما يقض مضاجع الفدرالية الروسية التي تضم عشرين في المئة من المسلمين، إضافة إلى أقليات أخرى ترغب في الانفصال . روسيا تريد أن تطمئن في هذه المضامير، ولا شيء يطمئنها سوى انتقال سلمي للسلطة في سوريا تدريجياً وتحت رعايتها أو بمشاركتها على الأقل .

من جهتها لا تشعر الولايات المتحدة بأنها مضطرة لتدفع أي مقابل لروسيا في الملف السوري كون الثورة سوف تتكفل بإسقاط النظام ولو بثمن باهظ (سيدفعه الشعب السوري وليس الأمريكي) وبعد نزاع طويل وعنيف . الأمريكيون مقتنعون بأن الوقت لا يلعب لمصلحة النظام السوري، وبالتالي فإن مواصلة الضغوط عليه سوف تدفعه، ولو آجلاً، إلى الانهيار الحتمي من دون الاضطرار لإجراء مقايضة مع روسيا . لكن هذه الأخيرة لم تعد تقبل بأن تجد الأزمة السورية حلاً لها إلا في موسكو نفسها .

وعلى الأرجح أن زيارة قطع البحرية الروسية إلى مرفأ طرطوس مؤخراً كانت تهدف إلى تعطيل مبادرة تركية-إيرانية للحل في سوريا .

الملف السوري يوفر لبوتين الفرصة ليقول لناخبيه في الرابع من مارس/آذار المقبل كما للغرب والعالم إن روسيا عادت إلى موقعها كقوة عظمى وينبغي من الآن فصاعداً التعامل معها على هذا الأساس . عندها، وبعد الانتخابات المقبلة سيكون من الممكن عقد جلسات بيع وشراء(كما كان يقول ريمون آرون عن العلاقات بين الدول) والبحث عن صفقات في الشأن السوري، وربما الإيراني لاحقاً، وإلا فإن سوريا تتجه بخطوات ثابتة نحو حرب أهلية حقيقية نعرف كيف تبدأ ولا ندري كيف ومتى تنتهي .

-----------------
* نقلا عن دار الخليج الاثنين ,06/02/2012


رابط دائم: