خريطة سياسية جديدة للسلطة والمعارضة
16-1-2012

محمود الريماوي
*

الإسلاميون يعيدون تشكيل مواقفهم بعدما تغيرت مواقعهم ووصلوا إلى السلطة . هذا ما تنبئ به تطورات متعددة تشهدها الحركات الإسلامية في غير بلد .

لنأخذ بعض الأمثلة: في مصر ينجح الإخوان المسلمون بالحصول على الأكثرية ولكن ليس الأغلبية، فيسعون إلى التحالف مع حزب الوفد لا مع التيار السلفي الأقرب إليهم أيديولوجياً (عقيدياً) . . الإخوان وذراعهم الحزبية “الحرية والعدالة”، يكادون يكونون على نقيض مع الوفد الليبرالي، ومع ذلك يبادرون بمد اليد إليه للتحالف تحت سقف البرلمان .

في المغرب يتم تشكيل حكومة برئاسة عبدالاله بنكيران زعيم حزب العدالة والتنمية، والحكومة لا تضم في صفوفها حزب  المعارضة التاريخي :القوى الاشتراكية، لكنها تجذب إليها حزب التقدم والاشتراكية، وهو الحزب الشيوعي سابقاً . هذه سابقة لا مثيل لها في تاريخ الحركات الإسلامية وتستحق النظر فيها والبناء عليها .

في تونس يتم التشديد على أن شيئاً لن يتغير، وأن اجتذاب المستثمرين الأجانب والاهتمام بقطاع السياحة الحيوي سيظل على حاله .  في سياق آخر تم استقبال رئيس الحكومة الفلسطينية المقالة إسماعيل هنية، وانطلقت بين جموع مستقبليه هتافات اعتبرها راشد الغنوشي مرشد النهضة “معادية للسامية”، فاعتذر عنها وحذّر من تكرارها، والمقصود أهمية التمييز دائماً بين الحركة الصهيونية المدانة، وبين اليهود كأتباع دين . علماً أن تونس، كما المغرب، مازالت تضم بين مواطنيها من يعتنقون الديانة اليهودية .

ربما مازال الوقت مبكراً للحكم على أداء الحركات الإسلامية، وثمة من يعتقد أن التصريحات والمواقف المطمئنة لزعمائها، يراد منها امتصاص النفور منهم، واجتذاب الأوساط التي لم تمنحهم أصواتها في الانتخابات . أياً كان الأمر، ففي حقل السياسة لا تقاس الأمور بالنوايا حتى يتم التشكيك مسبقاً بنواياهم، فالله عليم بالنيات (إنما الأعمال بالنيات)، لكن البشر يحكمون على بعضهم بعضاً بمعايير السلوك، إذ ليست لديهم القدرة الإلهية على سبر النوايا .

هناك بعدئذٍ من يرى أن التغيرات والمراجعات هي أكثر من المتوقع أو بخلاف المتوقع، كما في تصريحات متكررة منسوبة إلى زعماء الإخوان المسلمين في مصر بالإبقاء على كامب ديفيد وعلى العلاقة مع “تل أبيب” . كان الأوفق أن يتم التصريح بأن كامب ديفيد موضع نظر، وأن العلاقة مرهونة بتقيد تل أبيب بمقتضيات السلام وتلبية الحقوق الأساسية لشعب فلسطين، بدلاً من التكيف السلبي والانتقال من الرفض المطلق للتسوية، إلى الموافقة التامة عليها وعلى كل متعلقاتها .

وإذ يشير المرء إلى ذلك، فإنه ومن باب الشيء بالشيء يذكر، لا بد من التساؤل عمّا إذا كانت القوى اليسارية والليبرالية والقومية التي تراجعت حظوظها في الانتخابات، قد توقفت عند استخلاص الدروس مما جرى أم لا . في واقع الأمر، هي لم تفعل حتى الآن، إذ اكتفت بتشخيص ما تراه أسباب صعود الإسلاميين، من قبيل استخدام هؤلاء للدين وتقديمهم خدمات شتى للشرائح الفقيرة، واستعمال المال بسخاء في الحملات الانتخابية . وذلك من دون الحديث عن اسباب الإخفاق،  ووجوه القصور الذاتي في  خطاب وأداء القوى “العلمانية” مع درجة من التفاوت في ذلك بين هذه القوى، ثم التفاوت بين حال هذه القوى من  بلد إلى آخر .

واقع الحال يفيد أن الحركات اليسارية وهي الأكثر تشديداً على كونها تعبر عن مصالح الشعب والنطق باسمه، إلا ان وجودها يتركز في العواصم والمدن الكبرى،  بعيداً عن الأرياف والمناطق المهمشة والأحياء الفقيرة . وأغلبية أعضائها من المهنيين والتكنوقراط والمثقفين، مع وجود محدود داخل النقابات  العمالية والمهنية . وقد أدى غياب هذه الحركات عن البيئات الفقيرة والمهمشة، إلى نشوء فراغ سرعان ما ملأته الحركات الإسلامية، واجتذبتها اليها قطاعات واسعة في الريف كما في أطراف المدن وأحياناً في قلب المدن، وذلك عبر الوصول إلى الفئات والشرائح غير المسيّسة من صغار الموظفين والعمال والمتعطلين عن العمل .

هذا الانقطاع عن البيئات الشعبية هو في أساس الفشل الذي منيت به حركات يسارية في تونس والمغرب وبدرجة أقل في مصر، فقد بقيت هذه الحركات على العموم ذات طابع مديني تجذب إليها ميسورين متنورين، بأكثر مما تجذب مناضلين كادحين ينضوون في بيئات شعبية . وهو قصور يتطلب تجديد البنى التنظيمية والإفساح في المجال أمام تصعيد قيادات جديدة، تنبثق من مناطق الحرمان والهامش الاجتماعي .

أما خطاب الحركات اليسارية ومعها قوى ليبرالية وبعض التيارات القومية، فقد ظل يدور في اطار ثقافي، عن مزايا الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتداول السلطة، وحقوق المرأة، وحرية التعبير، وسيادة القانون، وسوى ذلك من مفاهيم صحيحة لكنها لا تجد لها صدى كبيراً في البيئات الشعبية التي تتركز أولوياتها على محاربة الفقر والبطالة، وتحقيق الضمان الصحي، وتوفير المساكن ووسائل المواصلات العامة، ومكافحة الغلاء، وسوى ذلك من قضايا حياتية .

لقد استفادت حركات إسلامية من بقائها طويلاً على الهامش وفي موقع المعارضة . الآن هي في السلطة أو في موقع التشريع، بينما تراجعت قوى اليسار إلى موقع الهامش وفي طليعة المعارضة . عسى أن تُحسن هذه القوى التصرف بالاقتراب أكثر من الرأي العام وتبنّي قضاياه وحُسن مخاطبته، ونقد أوجه القصور والإخفاق لدى من صعدت بهم  صناديق الاقتراع، وتقديم بدائل صالحة تجذب إليها أوسع فئات الناس .

-----------------
* نقلا عن دار الخليج الإثنين 16/1/2012.


رابط دائم: