خطاب الأسد: الحرب مستمرة
12-1-2012

فوّاز طرابلسى
*

أطلق الرئيس الأسد فى خطابه بجامعة دمشق يوم أمس رصاصة الرحمة على المبادرة العربية فى الوقت الذى كانت فيه قوى الأمن التابعة له تطلق الرصاص فى أنحاء مختلفة من البلاد فتردى ٢٧ مواطنا سوريا وتجرح ١١ مراقبا من المراقبين العرب نجوا بإصابات طفيفة. كان يكفى أن يدلى رئيس وفد المراقبين بتقرير شفوى عن مهمته لا يلتزم منطق «يا اسود ويا ابيض بس مش رمادى» الذى لا يدين الرئيس الأسد إلا به، لتنطلق ضد الجامعة أيضا المدفعية الثقيلة تنفى عنها القومية والحضارة معا.

كل مستجد جاء استثناء فى خلال ساعة من التكرار والتطويل والتمادى فى التذاكى والمكابرة والتعالى والإنكار. فما ورد عن الحوار (مع معارضين «وطنيين») والإصلاح والقوانين والحكومة المطعّمة (بشخصيات لا أحزاب وقوى ) هو تقريبا حكى لاكته الصحف من قبل. وربما كان الخبر الوحيد هنا هو تعيين آذار موعدا للاستفتاء على الدستور.

هى «المؤامرة» إياها ــ سايكس بيكو ــ لتفكيك سوريا من ضمن تفكيك المنطقة، تتوالى فصول منذ الحرب العالمية الأولى. و«المخطط» ليس ابن ساعته. هو قديم من عشرات السنين. المهم أن هذه وذلك يرميان إلى تفكيك الهوية والثقافة والتراث. وضرب المقاومة. وإلى ما لم يكن معروفا تماما إلى الآن: فرض الانزواء على سوريا بديلا على أن تتمدد ضمن «حدودها الطبيعية والتاريخية». لم نكن ندرى أن حدود سوريا الحالية ليست هى حدودها «الطبيعية والتاريخية». اعتراف يستحق التأمل الطويل.

وطالما أن التحديات تقوم على هذا المستوى التاريخى والشعورى والرمزى، لا بد للردود أن تكون على المستوى إياه. من التاريخ: المفاخرة بالأمجاد الوطنية والقومية ــ السابقة ــ من حرب اكتوبر ١٩٧٣، إلى «تحرير» لبنان العام ٢٠٠٠، وانتصارات المقاومة اللبنانية فى العام ٢٠٠٦، إلخ. أما المستوى الثانى فهو تكرار كل ما يؤمل منه استثارة غرائز ومشاعر العزة الوطنية، والشعور القومى، وتقديس الماضى، والانتفاض للكرامة والشرف المثلوميِن.

يقال إن المؤامرة تعريفا ليست بحاجة إلى اثبات، لأنها... مؤامرة. ومع ذلك لعلنا نتخذ طرف الجدّ ونقف أمام ما ورد من قبيل التدليل عليها فى الخطاب. فرض «تنازلات مجانية» فى أراضينا المحتلة بالجولان؟ لكنه الرئيس الأسد ذاته أعلن غير مرة، بما فى ذلك خلال الأزمة الحالية بالذات، أن المفاوضات السورية ــ الإسرائيلية توصلت إلى الاتفاق على ٩٥٪ من الأمور حول الجولان. فهل أن غرض المؤامرة فرض الـ٥٪ الباقية؟ وما هى تلك الباقية وما درجة «مصيريتها»؟

وتنوى المؤامرة ــ المخطط فرض تخلى سوريا عن مواقفها القومية فى فلسطين بما فيها التخلى عن القدس؟ وما هى مواقف النظام السورى القومية المتطرفة فى فلسطين؟ تفككت «جبهة الرفض»، أو فُكّكت، وغادرت حركة «حماس» ــ أبرز تنطيماتها ــ الأراضى السورية نحو المصالحة الوطنية الفلسطينية وما يسمّى «حل الدولتين»، والحكومة السورية كررت دعمها قيام الدولة الفلسطينية على الاراضى الفلسطينية المحتلة العام ١٩٦٧. فلا عجب ان شعار الممانعة لم يرد كثيرا فى هذا الخطاب.

والملفت أن القضاء على المؤامرة يكون بحلّ وسواسى لم تتمخض عنه كل هذه المقدمات: فرض الأمن والقضاء على الفوضى والإرهاب.

وهنا موقع الفصل بين الأزمة والإصلاح. وهى نغمة مألوفة من المكابرة والاستعلاء ترد فى الخطاب الرسمى منذ البداية. إلا أنها ترقى الآن إلى مستويات من الفصاحة مستبعدة التصديق. حيث يُعرض علينا مبحث منطقى شبه فلسفى، يجرى فيه البيان على أن لا صلة بين المؤامرة والمخطط والإرهاب من جهة وبين الإصلاح من جهة أخرى. سمعنا قبلا أن الإصلاحات ليست بجديدة من حيث وجودها فى عالم الممكن منذ تولى الرئيس الأسد السلطة العام ٢٠٠٠ وقد تكرّست فى المؤتمر القطرى الشهير للعام ٢٠٠٥. لماذا تأخرنا؟ يتساءل الرئيس ليجيب: «هذا موضوع آخر». السؤال ليس هنا. السؤال هو هل يتوقف أى من هذا الثلاثى الرهيب عن أفعاله الشريرة فيما لو تحققت الإصلاحات؟ كلا وألف كلا. فيحق للمرء أن يتساءل لماذا كل هذا العناء الذى تتجشمه السلطات السورية على امتداد إحدى عشرة سنة من أجل إخراج كل هذه الدساتير والقوانين والمراسيم الإصلاحية التى لا دور لها لا فى وأد المؤامرة ولا ضرب المخطط ولا القضاء على الإرهاب.

لا جديد فى جدل الأخطاء والقتل. لم يصدر أحد أوامر باطلاق الرصاص. هناك أخطاء فردية توازى أحد عشر شهرًا من إطلاق الرصاص فى أكثر من ٤٠٠ موقع سورى قضى خلالها لا أقل من ستة آلاف مواطن سورى، مدنى بالأكثرية الساحقة وعسكرى أيضا. هذا على لسان رئيس دولة مطلق الصلاحيات لا ينفك يعتز بجيشه وقوى الأمن الخاضعة له ويوجه لها تحيات الإعجاب بالانضباط والقوة والواجب. اهو «جيش تشرين» يطلق النار بلا أوامر؟ وسحب الدبابات من المدن، الوارد فى فى البروتوكول الموقع عليه مع الجامعة العربية؟ هل ينسحب هو أيضا بلا أوامر من أحد؟ فلا حاجة، والحالة على ما هى عليه من التسيّب، استكمال البحث فى اعتقال المسئولين عن إطلاق النار وفى الصعوبات التى تعانيها أعتى دولة أمنية فى المنطقة فى العثور على أفراد يطلقون النار بلا أوامر أو تقديمهم للمحاكمة العلنية فى حال وجود هذا «البعض»! وهى الدولة ذاتها التى تلقى القبض عشوائيا على لا اقل من عشرين الف معتقل بتهم أو دون تهم.

ويا ليت الرئيس الأسد لم يتحدث فى الاقتصاد. أكد نهجه القائم على تبرئة الحاكم والقاء المسئولية على الغير فى السياسة وعلى الشعب فى الاقتصاد. يحمّل الرئيس الانفتاح الاقتصادى المسئولية عن توسيع الاستهلاك. كأن قوانين الانفتاح الاقتصادى اتخذت فى المريّخ وليس فى القصر الجمهورى وفى شركة سيرياتل. وكأن ما يثور من اجله السوريون هو الكماليات الفاخرة وليس ابسط ضروريات الحياة من عمل وحرية وخبز. ولا عجب ان يتلعثم الخطاب فى الحديث عن الزراعة فيعترف الحاكم بأن الامور فيها كان يمكن ان تكون افضل. مع انه، فى رده على العقوبات الاقتصادية يتباهى ــ بحكمة تعود إلى عهد «على قدّ بساطك مدّ رجليك» ــ بوفرة القمح السورى، بل بفيضه، حيث «أكلت» اربعة بلدان مجاورة منه. كأن التبادل التجارى صدقة! ولمن يظن ان نقد الاستهلاك يتم من موقع نقد النيوليبرالية، عليه ان يخيب امله. فالرئيس المعاصر يكرر ترسيمة النيوليرالية عن تشجيع المنشآت المتوسطة والصغيرة ويضيف اليها الحِرَف ــ ويشدد على الحرف ويلقى التشديد التصفيق الذى يليق. وتأتى اهمية تنمية الحرف بما هى حلّ لأزمة التشغيل (٣٠٠ الف يد عاملة جديدة فى وسق العمل كل سنة لسوق عمل لا توفر اكثر من خمسين الف فرصة عمل).

على ان ميزة القسم الاقتصادى الاضافية انه يعلمنا ان ثمة قانونا لمكافحة الفساد، وانه قد تأخر صدوره. ليس المهم سبب التأخر. ولا المهم التأخر ذاته. المهم ان الرئيس يلقى عمليا المسئولية عن الفساد على المواطنين إذ يعلن أن «الدولة» تتكفل بمكافحة الفساد فى الفئات العليا والوسطى من المجتمع، تبقى الفئات التى ما دون هذه وتلك، ومكافحة الفساد هنا تقعل على عاتق المواطنين! طبعا، مشهود لـ«الدولة» نجاحات باهرة فى مجال مكافحة الفساد لدى الفئات العليا والمتوسطة ما يسمح للرئيس بأن ينتقل للحاضر محذراً من خطر نشوء «طبقة محتكِرة » تستغل الاحداث الحالية. الحالية؟!

لا تعليق.

---------------------
* نقلا عن الشروق المصرية، الخميس 12 يناير 2012.


رابط دائم: