عام 2012:|‬التحولات الانتقالية‮ ‬المؤثرة في تشكيل مستقبل النظام العالمي (ملف)
17-3-2012

د. أبو بكر الدسوقي
* مستشار تحرير مجلة السياسة الدولية، مؤسسة الأهرام

بدأ العقد الأول من القرن‮  ‬الحادي والعشرين بداية درامية بوقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001،‮ ‬التي وجهت ضربة مباشرة للولايات المتحدة في عقر دراها، وهو الهجوم الأول من نوعه منذ الهجوم الياباني على‮ "‬بيرل هاربور‮" ‬إبان الحرب العالمية الثانية‮.‬ وقد جاءت هذه الضربة أيضا في وقت كانت الولايات المتحدة تبدو فيه القوة العظمي المتفردة على قمة النظام الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي،‮ ‬وتفرق معسكره الاشتراكي بانهيار حلف وارسو، وغياب أي قوة منافسة حقيقية على المسرح العالمي‮.‬

ومنذ ذلك الحين،‮ ‬توالت التدخلات الأمريكية العسكرية، في مختلف أنحاء العالم،‮ ‬في إطار الحرب على الإرهاب، ودخلت في حربين طويلتين في كل من العراق وأفغانستان‮.‬ وبعد مرور عشر سنوات من أحداث سبتمبر، وفي إطار من الجهد المستمر في محاربة الإرهاب، وملاحقة‮  ‬تنظيم القاعدة، نجحت الولايات المتحدة في اغتيال‮  ‬الزعيم الروحي للقاعدة وفروعها في مختلف أنحاء العالم،‮ ‬أسامة بن لادن،‮ ‬في مايو ‮١١٠٢.لكن هيمنتها على مؤسسات النظام الدولي كانت قد تراجعت، وقدرتها على التأثير في مجريات النظام الدولي قد وهنت، وظهر جليا أن النظام الدولي ينتقل من حال إلى حال، وأن هناك أدوارا عديدة على خريطة النظام الدولي قد أصبح لها تأثير ملموس في تفاعلاته وعلاقاته.

"السياسة الدولية" ترصد من خلال نخبة من الباحثين والخبراء والمتخصصين طبيعة التحولات التي يشهدها العالم، ومدي تأثيرها في القضايا المختلفة، في محاولة لاستشراف الحقائق الجديدة، التي ربما تسفر عن واقع عالمي جديد‮.‬

قوى صاعدة

فقد تصاعد دور الاقتصادات الصاعدة،‮ ‬بالإضافة إلى التكتلات الدولية والإقليمية، بعد أن أخذ هامش التفوق الغربي في التراجع والتقلص‮.‬ فالمشروع الأوروبي يواجه عدة أزمات سياسية‮  ‬واجتماعية‮.‬ أما اليابان، فرغم كونها الضلع الثالث في مثلث الصعود الآسيوي،‮ ‬فإنها بدأت في الأفول تحت وطأة تراجع معدلات نموها، وتراجع مكانتها الاقتصادية العالمية،‮ ‬كثاني أكبر اقتصاد عالمي، بعد ما حققته من تقدم ونمو اقتصادي في الثمانينيات وصف بالمعجزة، وهو ما كان مصدر ثقلها العالمي، حيث فاق ناتجها المحلي الإجمالي آنذاك نظيره الأمريكي‮.‬

وقد أدى ما تعرضت له في مارس‮ ‬2011‮ ‬من زلزال وتسونامي مدمرين، وتسرب إشعاعي لمحطة فوكوشيما النووية، وما أحدثه كل ذلك من خسائر جسيمة في الأرواح والأموال،‮ ‬إلى تقويض فرص تقدمها‮.‬وقد تواصل الصعود الصيني بشكل لافت للنظر ومثير للإعجاب،  حيث نجحت الصين في أن تحتل موقع ثاني أكبر اقتصاد على المستوي العالمي‮.‬ وتشير التحليلات إلى أن اقتصاد الصين قد يتفوق على الاقتصاد الأمريكي في مدي زمني أقصاه عام ‮ ‬2039،‮ ‬وأدناه‮  ‬خلال عشر سنوات، كما أنها حققت أعلى معدل للنمو في العالم رغم تراجعه‮.‬

كما جاء إعلان الصين عن استعدادها لمساعدة دول منطقة‮ "‬اليورو‮" ‬على مجابهة أزمة الديون السيادية بمثابة رسالة،‮ ‬مفادها أن استقرار الغرب،‮ ‬وربما استمرار النظام الرأسمالي العالمي،‮ ‬مرهون بالدعم الصيني، بما يعنيه ذلك من إضافة لدور الصين ووزنها العالمي‮.‬ كما أن روسيا قد استعادت عافيتها،‮ ‬إلا أنها لم تستطع العودة إلى ممارسة دور القوة العظمي الموازنة للولايات المتحدة،‮ ‬باعتبارها وريثة للاتحاد السوفيتي‮.‬

كما أن هناك صعودا ملحوظا لكل من الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا،‮ ‬وهي دول طامحة في‮  ‬الحصول على عضوية مجلس الأمن، وهي تسعي لتعزيز موقعها التفاوضي على ساحة صنع القرار السياسي والاقتصادي العالمي‮. ‬فالهند ثالث أكبر اقتصاد في آسيا، وهي ذات معدلات نمو اقتصادي وسكاني مرتفع، ولديها تجربة ديمقراطية عريقة‮.‬ أما البرازيل، ذات النظام اليساري، فقد أصبحت قوة إقليمية صاعدة، لا يضاهيها أحد في القوة والنفوذ في دول الجوار اللاتيني، وبلغ‮ ‬إنفاقها العسكري‮ ‬33‭.‬1‮ ‬مليار دولار عام ‮ ‬2010،‮ ‬وهو ما يعادل الإنفاق العسكري لكل دول أمريكا الجنوبية مجتمعة‮.‬

واقتصاديا، لم يعد النظام الليبرالي الغربي هو النموذج الاقتصادي الأوحد،‮ ‬بعد أن أثبتت التجربة نجاح نماذج دولية مغايرة، مزجت ما بين ديناميكية اقتصاد السوق،‮ ‬ونظمها السياسية والثقافية الخاصة، ونجحت في تبوؤ مكانة متميزة على خريطة الاقتصاد العالمي شرقا وغربا، بعيدا عن النموذج الليبرالي الغربي‮.‬ وليس أدل على ذلك من الصعود الآسيوي في الشرق الأقصي، والتقدم البرازيلي في أمريكا اللاتينية، وتجربة جنوب إفريقيا الناهضة في أقصي الجنوب الإفريقي‮.

ونتيجة لذلك،‮ ‬دخل الاقتصاد العالمي في إطار أزمة هي الأسوأ منذ الكساد الاقتصادي العظيم الذي ساد في ثلاثينيات القرن الماضي، نتيجة الأزمة المالية المعروفة بالرهن العقاري في الولايات المتحدة في عام ‮ ‬2008،‮ ‬وعمقته أزمة الديون السيادية الأوروبية والأمريكية، حيث تراكمت الديون الحكومية لنسب تجاوزت الحد الأعلى المقرر من الاتحاد الأوروبي،‮ ‬وهو‮ ‬60٪‮ ‬من الناتج المحلي الإجمالي‮.‬

وتسارع ارتفاع هامش العائد على السندات والأوراق المالية الحكومية، في حين بلغ‮ ‬الدين الأمريكي‮ ‬200٪،‮ ‬مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي‮.‬ وقد تبع هذه الأزمة تداعيات طالت أسواق المال العالمية ذات الارتباط الوثيق بها، حيث تراجعت معدلات النمو في الناتج المحلي العالمي للدول المتقدمة، وتراجعت التجارة العالمية‮.‬ وقد أصبح الاقتصاد العالمي الغربي مهدد،‮ ‬بالركود والكساد‮  ‬والتراجع،‮ ‬كنتيجة لاضطراب أكبر كيانين اقتصاديين في العالم،‮ ‬الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي،‮ ‬مقابل تقدم الاقتصادات الصاعدة في دول الجنوب‮.‬

وقد أسهمت الأزمة الاقتصادية والمالية في تعميق الأزمة التي يواجهها القطاع المالي العالمي، الأمر الذي يؤكد أن إصلاح النظام المالي العالمي يستلزم إعادة إصلاح نمط النمو الرأسمالي المعولم المعتمد على الاستدانة من العالم الخارجي، وبخاصة من الدول النامية، ومراجعة الفكرة السائدة بتكريس التحرير المالي،‮ ‬وبأن الأسواق تصحح نفسها، و حتمية إصلاح نظام المدفوعات الدولية‮.‬ لكن محاولات إصلاح القطاع المالي العالمي لا تزال تجابه بالعديد من العقبات بسبب الاحتكارات المالية الدولية، وقوة المؤسسات المالية الدولية،‮ ‬وصعوبة إخضاعها للرقابة،‮ ‬وإلزامها بالإصلاحات المطلوبة‮.‬

كما يشهد العالم تغلغل تكنولوجيا الواقع الافتراضي والتشبيك، بعد أن صارت شبكة الإنترنت جزءا لا يتجزأ من الحياة اليومية،‮ ‬وبعد أن تجاوز عدد مستخدميها المليار من البشر، وأصبح لها دورها المتقدم في جميع القطاعات الحيوية في العالم، محدثة ثورة في عالم الاتصالات، ونقلة نوعية لدور الإعلام، وتقدما لدور المجتمع المدني العالمي‮.‬ وهي بمثابة العمود الفقري للتنسيق بين كافة المجالات الاقتصاية، ولعبت دورا مؤثرا في ترجيح كفة الاقتصاد المعتمد على التكنولوجيا الرقمية على نظيره المؤسس على الصناعة الثقيلة، وهي تلعب دورا هادئا في تغيير العالم،‮ ‬فضلا عن دورها الفعال في عملية التعبئة‮  ‬والحشد السياسي‮.‬ وهذا ما بدا جليا في ثورات الربيع العربي، وهو الأمر الذي تنبهت إليه النظم القمعية، وعمدت إلى الاستفادة من التكنولوجيا ذاتها لقمع المعارضين لها‮.‬

تغيير المسارات

كما شهد عام‮ ‬2011‮ ‬بزوغ‮ ‬ثورات الربيع العربي، التي أسقطت نظما تسلطية عتيدة في المنطقة العربية، وما أحدثته هذه الثورات من تنام لظاهرة‮ "‬المد الاحتجاجي‮"‬، التي تجاوز تأثيرها‮  ‬الحدود الإقليمية لتنتقل إلى آفاق عالمية، بعد أن امتدت لمدن عالمية عديدة حول العالم، احتجاجا على‮ ‬غياب العدالة الاجتماعية،‮ ‬والحرية السياسية، وتوحش الرأسمالية‮.‬ ولا تزال الثورات العربية تحدث تأثيرها في العالم وفي الإقليم‮. ‬ولا يستطيع أحد أن يتنبأ بما ستفضي إليه هذه الثورات من تداعيات،‮ ‬وما ستفرزه من نتائج، وإن كانت‮ -‬ودون أدني شك‮- ‬ستعيد تشكيل الحياة السياسية في المنطقة العربية‮.‬

والمثير في ثورات الربيع العربي أنها كسرت الصورة الذهنية الغربية عن العالم العربي، والتي كانت تصمه بالسلبية،‮ ‬والركون،‮ ‬والانهزامية، ونقلته من موقعه خارج التاريخ إلى موقع الصدارة والطليعة، ومن موقع المتلقي إلى موقع المبادر، فيما عرف بظاهرة‮ "‬تغيير المسارات‮".‬ حيث كان المعتاد أن تنشأ الظواهر السياسية في العالم الغربي،‮ ‬ثم تنتشر في العالم العربي،‮ ‬لكن ما حدث كان العكس‮.‬ كما كشفت ثورات الربيع العربي عن تواطؤ الديمقراطيات الغربية مع الديكتاتوريات العربية، بابتعادها عن القيم الديمقراطية،‮ ‬طمعا في مصالحها‮.‬

ومن ناحية أخري، كشفت ثورات الربيع العربي عن أزمة عميقة في هيكل النظام الديمقراطي على المستوي العالمي في دول أوروبا وأمريكا الشمالية، بعد أن زعم الليبراليون الجدد أن النموذج الديمقراطي الغربي هو الوحيد الصالح للتطبيق سياسيا، وأن مبادئ الليبرالية الجديدة،‮ ‬بما تحتويه من تقديس الحرية المطلقة للسوق،‮ ‬هي الطريق الأفضل،‮ ‬رغم تجاهلها لاعتبارات العدالة الاقتصادية والاجتماعية‮.‬ ومن ثم،‮ ‬فهناك آثار محتملة للأزمة على النظام العالمي،‮ ‬تتمثل في ضرورة فك الارتباط بين الديمقراطية والليبرالية الجديدة، وإعادة الاعتبار لدور الدولة الإرشادية التي توجه وترشد،‮ ‬ولكنها لا تملك‮.‬ ومن المحتم‮  ‬أن يؤدي ذلك إلى توسيع رقعة الديمقراطية في العلاقات الدولية، بحيث تمكن القوي الصاعدة من المشاركة في صنع القرار الدولي.

وقد طالت عدوي التحولات‮ "‬المؤسسية الدولية‮". ‬فبعد أن كانت تتسم بالتقليدية،‮ ‬وتميل نحو الانغلاق،‮ ‬وعدم المرونة الهيكلية، باتت تجنح نحو مزيد من الاعتماد المتبادل والتشابك، نظرا للتداخل الشديد بين هذه الأطر المؤسسية من حيث العضوية‮.‬ فمنتدي الآسيان بالكامل جزء من التجمع الأوروبي‮ - ‬الآسيوي، وكذلك الانفتاح الواضح بين الأطر التقليدية ذات الطابع المؤسسي القانوني‮- ‬الاتحاد الأوروبي نموذجا‮ -‬والأطر عبر الإقليمية ذات المؤسسية المرنة‮- ‬الآبك نموذجا‮- ‬فلكل هذه الأطر أجندتها، وأهدافها الخاصة، لكنها تكمل بعضها بعضا، على نحو يكرس من ظاهرة التشبيك في العلاقات الدولية‮ ‬Networking‮ ‬والاعتماد المتبادلInterdependency ‮ ‬بين الأقاليم على المستويات الاقتصادية والأمنية‮.‬

وفي خضم هذه التحولات،‮ ‬تخطي عدد السكان في العالم عتبة المليارات السبعة من البشر في آخر أكتوبر‮ ‬2011،‮ ‬في ظل خلل سكاني مشهود بين دول العجز السكاني، ودول الوفرة السكانية، الأمر الذي قد يؤثر في توزيع القوة الاقتصادية والاستراتيجية في العالم، ويلقي بمزيد من‮  ‬الأعباء على الحكومات في المجالات الاقتصادية والخدمية‮.‬ فهل ستغير تلك المليارات السبعة خريطة العالم الجيوبوليتيكية؟ أو تغير من مراكز القوي في العالم؟ وهل ستكون هذه القوة البشرية قوة مضافة اقتصاديا؟ أم قوة ضاغطة ومستهلكة لموارد العالم؟.

وفي التحليل الأخير، فإننا إزاء عالم يتحول،‮ ‬ستسفر عنه حقائق جديدة تسود واقعا مختلفا، لا تملك أطرافه إلا التكيف معه‮.‬ فهناك مؤشرات على تغير الأطراف الفاعلة في النظام الدولي، وتبدل لموازين القوي، وانقلاب في نمط التفاعلات والعلاقات‮.‬ كما أننا نشهد انتهاء للحقبة الأمريكية الغربية التي سادت العالم طويلا، وقد تحل محلها حقبة آسيوية‮ - ‬شرقية، أو‮ ‬غير ذلك، وهذا ما ستكشف عنه السنوات القادمة‮.‬

موضوعات الملف :

 
(*) تقديم ملف مجلة السياسة الدولية ، العدد 187 ، يناير 2012

رابط دائم: