" الفخ الصيني":|اتجاهات أمريكية بشأن نفوذ بكين المتصاعد
25-10-2011

أحمد أبو طالب
* باحث في العلوم السياسية

عرض : إيمان عبد العظيم

صحفية مصرية

ما بين اتجاه يرى ضرورة "الاستيعاب التعاوني" للصين ، وآخر يدعو إلى مواجهة قوية لنفوذ بكين المتصاعد، خاصة في آسيا ، عرضت مجلة الشئون الخارجية الأمريكية " foreign affairs"  في عدد أغسطس 2011 ، كتابين حول كيفية تعامل الولايات المتحدة مع الصين، أحدهما لهنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكية الأسبق، والآخر لأرون فريدبرج، مستشار السياسة الخارجية الأسبق لنائب الرئيس "ديك تشيني".

كتاب كيسينجر" الجديد "On China" ، ناقش فيه أن على الولايات المتحدة تقبل صعود الصين، ومدى أهمية خلق علاقات تعاونية بين البلدين، تجنبا للصراع التراجيدي للسيطرة علي آسيا.

في المقابل، يقول فريدبرج في كتابه A Contest for Supremacy: China, America, and the Struggle for Mastery in Asia  إنه حلل الاستراتيجيات التي تعاملت بها الصين والولايات المتحدة مع بعضهما منذ أوائل 1990 ، وحاول فك شفرة نوايا الصين في العقود القادمة، وخلص إلى أنه لمواجهة نمو الصين وطموحها المتزايد، يجب على الولايات المتحدة أن تقف بقوة في مناطق النفوذ الصيني. 

كتاب كيسنجر ليس بتاريخ ، ولا مذكرات ، وإنما يجمع بين الاثنين, حيث يتحدث فيه عن زيارته السرية للصين عام 1971 ، ومحادثاته مع القادة الصينيين, كما ناقش "كيسنجر" كيف أن الصين استخدمت الدبلوماسية النفسية، طيلة تاريخها في التعامل مع الخصوم.

ويشبه "كيسنجر" الدبلوماسية الصينية بلعبة "وي كي"، وهي لعبة صينية قديمة قريبة الشبه بلعبة "السيجا" الشهيرة عن العرب. ويتم لعبها على طاولة مقسمة إلى 19 مربعا في 19 مربعا، عليها أقراص باللونين الأسود والأبيض.

فكرة اللعبة تقوم على حصار الأقراص لبعضها بعضا ومنعها من الحركة ، وقد يمكن للقرص الواحد منع مجموعة من الأقراص ، وبالتالي فإن مفهوم النصر في هذه اللعبة مفهوم نسبي، كما يقول كيسنجر.

ويوضح كيسنجر ما يريد بتشبيه الاستراتيجية الصينية بأنها تقوم بمحاولة إحداث صدمة نفسية للخصم ثم الانسحاب، مثلما فعلت الصين مع الهند في عام 1962 ، عندما عمدت لوضع حد للغارات على طول حدودهما المتنازع عليها، وكما فعلت مع الاتحاد السوفيتي في عام 1969 لمحاولة ردع موسكو من عرقلة تقدمها على طول حدودهما.

 وفي حالات أخرى – كما يقول وزير الخارجية الأمريكي الأسبق - يمكن للمرء أن يخبئ بعض أوراقه ، ويظهر الأخرى في الوقت المناسب. ويتضح الأسلوب الصيني في هذا الإطار أكثر، عندما نصح الرئيس الصيني وقتها دينج شياو بنج بتأسيس علاقات قوية مع واشنطن ، وفي الوقت نفسه العمل على بناء الدولة الصينية القوية.

"فخ المتناقضات"

يحلل كيسنجر الأسلوب الدبلوماسي الأمريكي في التعامل مع الصينيين، معتبرا أن الأمريكيين سقطوا في فخ "المتناقضات" ، وسبب ذلك هو أن المفاوضين الأمريكيين عمدوا إلى تجزئة القضايا ، والبحث عن حلول ، بينما فضل نظراؤهم الصينيون دمج القضايا والسعي إلى تفاهمات مشتركة.

 

 واعتقد الأمريكيون أنه يمكن التوصل إلى اتفاقيات في قطاع ما، والإعراب عن الخلافات في قطاع آخر من القضايا محل المناقشة، ولكن الصينيين فضلوا أن يجعلوا مناخ المفاوضات بنفس الدفء أو البرودة، أي أجواء ودية أو متوترة ، وخلق حوافز للجانب الآخر لترك الخلافات. وبهذا الأسلوب النفسي، كان الصينيون أكثر فعالية في المفاوضات ، وكانوا يضعون خصمهم تحت الضغط.

وخلص كيسنجر من هذا إلى أن الدبلوماسية الأمريكية سقطت في الفخ الصيني، لأنها كانت دبلوماسية معاملات ، ولكن الدبلوماسية الصينية "نفسية".واقتبس كيسنجر، في هذا السياق ، نصيحة الاستراتيجي الصيني القديم "سون تزو" التي يقول فيها " إن المرء يمكنه الفوز بالمعركة قبل أن تبدأ بأن يجمع بين السياسة المهيمنة والموقف النفسي".

وأشار إلى القائد العسكري الصيني القديم في القرن الثالث "تشوج ليانج"، عندما هزم جيوش الأعداء عن طريق فتح بوابات المدينة التي كانت يتحصن بها ، وبدا الأمر وكأنه مصيدة ، فأبعد كل المعارضين والخصوم عن المدينة بدون قتال.

ومن الأمثلة على الدبلوماسية "النفسية" الصينية ، عندما قابل كيسنجر للمرة الأولى تشو إن لاي، أحد القادة الصينيين للمرة الأولى عام 1971، حيث رتب كيسنجر زيارة للتفاوض من أجل نقطتين فقط خلال مدة الزيارة لبكين ، والمقدرة بــ13 ساعة فقط. ولكن في النهاية، تم إجبار الوفد الأمريكي برئاسة كيسنجر على قبول زيارة رئاسية أمريكية إلى بكين ، ولم يتم التفاوض حول النقطتين.

ويعلق كيسنجر قائلا إن مثل هذه التكتيكات تجعل من "الضيافة" جانبا سياسيا" ، ولذلك يقول كيسنجر إن الصينيين بارعون في استخدام "الصداقة والتواضع"، وهذا ما يجعل الخلافات أكثر تعقيدا والمواجهات مؤلمة. فقد تنازل تشو خلال استقباله لكيسنجر عن فكرة الأقدمية ، حيث قال إن عمر الجمهورية الأمريكية 200 عام ، بينما عمر الجمهورية الصينية وقتها 22 عاما ، وذلك رغم أن الدولة الصينية ضاربة في أعماق التاريخ السحيق، ولكنها استراتيجية التواضع.

وبعيدا عن الدبلوماسية الصينية ، فإن المشكلة في كتاب كيسنجر ليست الحقائق، ولكن في الأدبيات العلمية للعلاقة الحالية بين الصين والولايات المتحدة. فأحدث الدراسات تدعو لإلقاء المزيد من الشكوك في تفرد ومركزية والصبر الاستراتيجي للصين.

ماذا تريد الصين؟

وفي هذا السياق ، يتفق فريد برج مع المنطق "الواقعي الكلاسيكي" بأن التغير في علاقات القوة حتما سيولد منافسة ، ولكنه يعتقد أنه من المهم أولا أن نعرف ماذا تريد الصين؟.

ويجيب بأنه لمعرفة ماذا تريد الصين، ينبغي تجميع آراء المفكرين الصينيين الذين يكتبون في المجلات السياسية الصينية التي تشبه تقريبا مجلة "فورن أفيرز" ، وكذلك في وسائل الإعلام الأخرى، وكذلك تحليل آراء الضباط العسكريين الذين يعملون في وظائف تسمح لهم بأن يكتبوا مقالات وكتبا للجمهور. وهذه المواد تعكس التيار الأساسي للرأي السائد بين النخبة الصينية.

 ومن خلال تحليل هذه المواد ، يرى فريد برج أن المسئولين الصينيين يريدون أن تصبح الصين الدولة رقم 1 في العالم، وهناك بعض الكتاب يرون أن التحالف بين الصين والولايات المتحدة هو تحالف كاذب.

ولكن وفق هذا المنظور، فإن التركيز على كتابات المسئولين الصينيين تشوبه ثغرات، لأن الكثير من الكتاب له آراء مختلفة، وبعضهم يكتب للفت الانتباه والشهرة، وبعضهم يكتب بشكل منفعل.

ولكن بعيدا عن وسائل الإعلام ومحاولة التركيز على النوايا ، فإن الصين تبدو متعثرة داخليا، ومضطربة آسيويا، فضلا عن أن بكين تكرس أغلب مواردها الهائلة للجانب العسكري لكي تضمن السيطرة على خمسي المنطقة التي تضم إقليم شينجيانج الذي يضم حركة الإيجور المسلمة والتبت الكبرى، وتسعى لعرقلة استقلال تايوان، وإرساء سيطرة النظام المدني في "مملكة هان"، (في إشارة لسيطرة عرق "هان" على بقية الأعراق الأخرى في الصين) غيرة المستقرة اجتماعيا، والمضطربة سياسيا.

فالصين محاطة بنوعين من الدول، الأول هي الدول غير المستقرة ، والتي إذا حدث بها أي تغيير، فسيجعل الحياة أكثر صعوبة على الأوضاع في الصين مثل كوريا الشمالية والدول الضعيفة بآسيا الوسطي، والطرف الآخر هو الدول التي تريد أن تصبح أقوى قوة في المستقبل ، وتنافس الصين، مثل الهند واليابان وفيتنام .كما تواجه الصين الوجود القوى للولايات المتحدة، فقيادة المحيط الهادي الأمريكية تعد أبرز مراكز القوة في قيادات الجيش الأمريكي الستة بعد القيادة المركزية.

ويرى فريدبرج أنه "لو استمرت الصين في نموها، فستصبح علاقاتها بالولايات المتحدة متوترة، ولكن العلاقة ستحكمها قواعد الخلافات والتنافس وليس الصراع.

ولكن الكاتب يرى أنه من غير المرجح أن تثبت صحة هذا الافتراض على المدى الطويل، لأن النموذج الاقتصادي والسياسي للصين يواجه العديد من نقاط الضعف. كما أن الهدف النهائي للاستراتيجية الأمريكية هو التعجيل بالثورة, ولو السلمية في الصين ، فمن شأنها أن تمحو الصين دولة الحزب الواحد السلطوي، وهذا يساعد علي تفسير لماذا يجعل الزعماء الصينيون الناس يعيشون في الصين، وكأنهم تحت الحصار؟.

 وحتى لو بقيت الصين على هذا المسار, فإنه لا يمكنها أن تأمل بأي شيء يمكن أن يسمي السيادة أو حتى السيادة الإقليمية, إلا إذا تراجعت الولايات المتحدة بشكل جذري.

ومن غير المعقول, كما تنبأ فريد برج، أن تختار دول آسيا في النهاية أن تحذو حذو الصين الصاعدة، وبالتالي فإن معظم  جيران الصين يسعون لتوازن مع الولايات المتحدة وليس ضدها.

وفي الوقت الذي ختم فيه كيسنجر كتابه بتوصية سياسية، مفادها ضرورة إنشاء جماعة المحيط الهادي "التي تخص  الولايات المتحدة والصين ودولا أخري وتشارك فما سماه التنمية السلمية" للمنطقة، فإن فريد برج يرى الأمر بمنظور مختلف .

ويدعو فريد برج واشنطن إلى أن تضع حدودا مناسبة لصعود الصين من خلال الحفاظ علي توازن موات للقوة في آسيا, وذلك يتطلب من واشنطن أن تتعهد بـ"تدابير مكلفة وصعبة" كالحفاظ علي تحالفها مع اليابان وكوريا الجنوبية، وعلاقاتها التعاونية مع معظم جيران الصين الآخرين، والاستمرار في تطوير الموقف العسكري لمطابقة التحديث العسكري الصيني, وموازنة علاقاتها التجارية عبر المحيط الهادي.


رابط دائم: