"هبسورا".. منظومات الذكاء الاصطناعى فى الحروب (الحرب على غزة نموذجًا)
21-12-2023

د. محمد منير غازى
* باحث فى الدراسات السياسية والاتصال السياسى

يعد الذكاء الاصطناعى مصطلحا واسعا يشير إلى قدرة الآلات أو البرامج على أداء المهام التى تتطلب عادة الذكاء البشرى مثل الإدراك والاستدلال والتعلم واتخاذ القرار وحل المشكلات، ويمتلك الذكاء الاصطناعى العديد من التطبيقات والآثار المترتبة على الحرب الحديثة، سواء داخل ساحة المعركة أو خارجها.

هبسورا: قصف بالخوارزميات!

وفقا لعدد من التقارير المنشورة فى صحيفة الجارديان، تستخدم إسرائيل نظامًا قائمًا على الذكاء الاصطناعى يسمى "هبسورا" הבשורה الإسرائيلى –يقابله باللغة العربية "البشرى أو البشارة أو الإنجيل" –  لتحديد أهداف ضرباتها الجوية على "غزة"، وتحديد أولوياتها الدفاعية، وتعد "هبسورا" منصة جمع وتحليل للبيانات من مصادر مختلفة، بما فى ذلك صور الأقمار الصناعية، ولقطات الطائرات بدون طيار، والذكاء البشرى، ووسائل التواصل الاجتماعى المختلفة.

يضع نظام "هبسورا" درجة لتحديد كل هدف، كما أنه يحدد أهمية الهدف والمخاطر والأضرار التى يمكن أن تحدث إذا قررت إسرائيل ضرب هذا الهدف، ويرسل القائمة إلى القادة الإسرائيليين للموافقة عليها وتنفيذها؛ حيث يقوم النظام بتوليد وإنشاء الأهداف باستخدام طريقة تسمى "الاستدلال الاحتمالى"، وهى سمة أساسية لخوارزميات التعلم الآلى فى الأساس، تقوم على تحليل كميات كبيرة من البيانات لتحديد الأنماط، وتعتمد فعالية هذه الخوارزميات إلى حد كبير على جودة وكمية البيانات التى تعالجها، وتستخدم لتقديم تنبؤات أو اقتراحات بناءً على الاحتمالية المولدة.

فإذا كان الفرد يشترك فى عدد من الخصائص التى يحددها النظام مع آخرين سبق تصنيفهم كمقاتلين وأعداء محتملين، فقد يصنف النظام هذا الفرد أيضا على أنه مقاتل، ويدرجه ضمن الأهداف المحتملة، ولذلك يعتمد النظام على الاحتمالات المشتركة وفق المعلومات المتاحة وليس على اليقين.

تداعيات وتحديات استخدام الذكاء الاصطناعى فى الحرب:

يؤثر استخدام الذكاء الاصطناعى فى الحرب أيضا على العلاقات الدولية والدبلوماسية، من حيث إنه يضيف موضوعات جديدة على جدول أعمال الأجندة الدولية مثل الآثار الأخلاقية والقانونية والاجتماعية للذكاء الاصطناعى، وتطوير معايير وقواعد الذكاء الاصطناعى، وحوكمة وتنظيم استخدامات الذكاء الاصطناعى فى الحرب والصراعات الدولية بشكل عام. وتتطلب هذه المواضيع تعاونا وحوارا متعدد الأطراف بين مختلف أصحاب المصلحة مثل الحكومات، والمنظمات الدولية، والمجتمع المدنى، والقطاع الخاص.

كما تعد منظومات الذكاء الاصطناعى بمنزلة أداة جديدة للدبلوماسيين والمفاوضين؛ حيث يمكن أن يساعد على جمع البيانات وتحليلها، وتوفير دعم القرار، وصياغة الوثائق وترجمتها، وتسهيل التواصل والتعاون. كما يمكنها أيضًا المشاركة فى عمليات مراقبة التنفيذ والالتزام الاتفاقيات والمعاهدات الدولية وتقييم التقدم المحرز مثل اتفاق باريس بشأن تغير المناخ، أو الاتفاق النووى الإيرانى.

وفيما يتعلق بتداعيات المنظومة الإسرائيلية، فقد واجهت إسرائيل انتقادات وتشككا ومخاوف واسعة بشأن استخدامها منظومة الذكاء الاصطناعى، على الرغم مما قدمته إسرائيل من تبريرات أهمها أن المنظومة تستهدف تقليل الخسائر فى صفوف المدنيين، ويمكن عرض أبرز الانتقادات والمخاوف فى النقاط التالية:

- غياب الشفافية والمساءلة عن منظومة "هبسورا" وخوارزمياته بالكامل وما يترتب على استخدامها من نتائج، فليس هناك تحديد واضح لكيفية جمع المنظومة للبيانات والتحقق منها ومعالجتها، وكيفية ترتيب الأهداف وتحديد النتيجة النهائية للاستهداف، كما لا توجد رقابة أو مراجعة مستقلة على قرارات منظومة "هبسورا" وأفعالها.

- احتمالية كبيرة لوجود أخطاء وتحيزات فى البيانات والخوارزميات، فقد تكون مصادر البيانات التى يستخدمها "هبسورا" غير كاملة أو غير دقيقة أو قديمة، وقد يكون للخوارزميات تحيزات متأصلة أو مكتسبة تؤثر فى أحكامها، على سبيل المثال، قد تعتمد "هبسورا" على منشورات خاطئة أو مضللة على وسائل التواصل الاجتماعى، أو قد تفضل أنواعا معينة من الأهداف على أخرى بناء على البيانات التى تتلقاها.

- الآثار الأخلاقية والقانونية لتفويض القرارات البشرية إلى الآلات، فاستخدام الذكاء الاصطناعى فى الحرب يثير تساؤلات حول المسئولية الأخلاقية والقانونية للمشغلين والقادة البشر، ومدى احترام مبادئ القانون الدولى الإنسانى، مثل التمييز والتناسب، والاحتياط. على سبيل المثال، من المسئول إذا أخطأ منظومة "هبسورا" أو تسبب فى ضرر مفرط؟ كيف يمكن لإسرائيل أن تضمن احترم حقوق وكرامة المدنيين فى غزة؟ كيف يمكن التحقق من أن الأهداف مشروعة ومتناسبة مع التهديد؟

مصنع للاغتيالات الجماعية:

أتاحت الحرب الأخيرة على غزة، فرصة غير مسبوقة أمام إسرائيل لاستخدام وتطوير مثل هذه الأدوات فى مسرح عمليات أوسع بكثير، فوفقا لما أعلنه جيش الدفاع الإسرائيلى فى أوائل نوفمبر الماضي، خلال الأيام الـ 35 الأولى من الحرب، فقد هاجمت المنظومة 15 ألف هدف فى غزة، وهو رقم أعلى بكثير من العمليات العسكرية السابقة فى المنطقة الساحلية المكتظة بالسكان مقارنة مع حرب عام 2014، التى استمرت 51 يوما، التى استهدفت فيها إسرائيل بين 5000 إلى 6000 هدف، وهذا يظهر ما قدمته المنظومة الجديدة من تسريع لوتيرة ومعدل وحجم الاستهداف من 50 هدفا سنويا إلى ما يقارب 100 هدف فى اليوم الواحد.

وقد واجهت المنظومة فى الحرب أيضا بعض المعارضة والمقاومة، مثل:

–  منظمات حقوق الإنسان والناشطين مثل منظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، الذين وثقوا وأدانوا انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولى التى ارتكبها جيش الدفاع الإسرائيلى فى غزة، ودعوا إلى إجراء تحقيق ومحاسبة المسئولين عن هذه الانتهاكات واستخدام الذكاء الاصطناعى فى الحرب.

– عدد من الهيئات الدولية والحكومات، مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى وبعض الدول العربية والإسلامية، التى أعربت عن قلقها وإدانتها لهجمات جيش الدفاع الإسرائيلى على غزة، وحثت على وقف إطلاق النار والحل السلمى للصراع.

-  بعض المواطنين والجماعات الإسرائيلية، مثل دعاة يقظة الضمير الإنسانى، ونشطاء السلام، وبعض الصحفيين الذين عارضوا واحتجوا على العمليات العسكرية لجيش الدفاع الإسرائيلى فى غزة، وشككوا فى أخلاقية ومشروعية استخدام الذكاء الاصطناعى فى الحرب.

اتصالا بما سبق، فقد عبر الباحث "ريتشارد مويس"، عضو "منظمة المادة 36"، وهى مجموعة تقوم بحملات للحد من الأضرار الناجمة عن أسلحة المنظومة "هبسورا" الإسرائيلية، عن معارضته للمنظومة، قائلا: "انظر إلى المشهد المادى فى غزة، إننا نشهد تسوية واسعة النطاق لمنطقة حضرية بالأسلحة المتفجرة الثقيلة، لذا فإن الادعاء بوجود دقة وضيق فى استخدام القوة لا تدعمه أى حقائق واقعية".

ختاما، يشكك الخبراء المتخصصون فى مجالات الذكاء الاصطناعى والنزاعات المسلحة فى التأكيدات المستمرة التى تصدرها بعض الحكومات على أن الأنظمة القائمة على الذكاء الاصطناعى قد تقلل من الضرر الذى يلحق بالمدنيين عبر تشجيع الاستهداف الأكثر دقة. ونظرا لأن الذكاء الاصطناعى يعد تقنية جديدة لها آثار كبيرة فى سير العمليات الحربية ونتائجها، فإن استخدام الذكاء الاصطناعى فى الحروب قضية مُعقدة وحساسة تنطوى على العديد من التحديات على رأسها خلق تهديدات جديدة للأمن القومى والاستقرار الإقليمى والدولى.


رابط دائم: