أعمال القتال الرئيسية للقوات المسلحة فى حربى الاستنزاف وأكتوبر
3-10-2023

لواء طيار أ. ح/ د. عماد عبد المحسن منسى
* مدير الكلية الجوية الأسبق، مستشار الأكاديمية العسكرية للدراسات العليا والاستراتيجية

تعد حرب أكتوبر من الحروب الحديثة، التى سيظل التاريخ يتحدث عنها لفترة طويلة، لأنها كانت ملحمة عسكرية متكاملة الأركان وانتصارا سيبقى فى ذاكرة كل مصرى على مدى الزمان. كما أن الأمة العربية لا تزال تشعر بفخر عظيم وامتنان عميق لجيش مصر الذى حقق للعرب أول انتصار فى العصر الحديث، ومحا هزيمة 1967، فكان النصر للأمة العربية كافة.
ترتبط عظمة تلك الحرب بأنها جاءت عبر ميلاد صعب نبع من هزيمة ألمَّت بمصر عام 1967. ولم يكن أكثر المتفائلين يتطلع لأى وجود للجيش المصرى قبل مُضى عقود وعقود، حيث دُمِّرت معظم أسلحة ومعدات الجيش، والطائرات والمطارات، واستشهد عدد كبير من أفراده، إضافة إلى أنه حارب فى اليمن لمدة ست سنوات(1). شنت إسرائيل هجومها ضد القوات المصرية فى سيناء وأهداف حيوية فى العمق، وقصفت المطارات المصرية لمنع أى طلعات جوية مصرية، أعقب ذلك اجتياح برى لسيناء من جانب الجيش الإسرائيلى، وترتب على ذلك تراجع القوات إلى الضفة الغربية لقناة السويس. تلك باختصار كانت الأوضاع على الجبهة المصرية فى يونيو 1967. إن توضيح الأوضاع التى سادت فى تلك الفترة، إنما يؤكد قوة المعدن المصرى الأصيل عبر التاريخ، الذى حَّول مكانه من قاع الهزيمة إلى قمة النصر. وخلال ست سنوات، استرد الجيش والشعب الروح المصرية الأبيّة، روح الانتصارات، فماذا حدث خلال تلك الفترة العصيبة منذ عام 1967 إلى عام 1973 (من حرب الاستنزاف حتى حرب أكتوبر)، ليتحول الجيش المصرى من الانكسار إلى الانتصار بمثل تلك القوة الجسور والكفاءة العالية؟

زخرت فترة حرب الاستنزاف بالعديد من أعمال القتال لمختلف الأسلحة والأفرع الرئيسية للقوات المسلحة، والبحرية والجوية، وقوات الدفاع الجوى، فكانت أعمالهم بطولات ملحمية، نفذوا خلالها العديد من المهام والعمليات لمصلحة الجيوش الميدانية بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وأثبتت زيف أسطورة الجيش الإسرائيلى الذى لا يقهر. وسوف نستعرض أهم هذه الأعمال بدءا من حرب الاستنزاف حتى نصر أكتوبر المجيد.

أولا- أعمال قتال القوات البحرية بدءا من حرب الاستنزاف حتى حرب أكتوبر:

القوات البحرية المصرية أحد الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة المصرية، وهى المسئولة عن حماية أكثر من 2000 كم من الشريط الساحلى المصرى بالبحرين المتوسط والأحمر، وتأمين الحدود البحرية والمجرى الملاحى لقناة السويس وجميع الموانئ المصرية، إضافة إلى الأهداف الساحلية على البحر، وتلك جزء من باقى مهام القوات البحرية.

       
شهدت حرب الاستنزاف، التى تلت حرب يونيو 1967، العديد من الأنشطة القتالية للبحرية للمصرية، لصد الهجمات والدفاع عن قاعدة بورسعيد البحرية فى الفترة من 2 يوليو 1967 إلى 19 أكتوبر 1967، والاشتراك فى صد الهجوم على منطقة «رأس العش» بواسطة الفرقاطة «بورسعيد» بمساندة المدفعية الساحلية يومى 1 و8 يوليو 1967، بالإضافة إلى العديد من العمليات الاستثنائية المنفصلة التى تعد علامات مضيئة فى تاريخ البحرية المصرية، نذكر منها:

1- إغراق المدمرة إيلات:  فى 11 يوليو 1967، وبعد شهر واحد من حرب 1967، صدرت تعليمات من القيادة العسكرية الإسرائيلية إلى المدمرة إيلات بالانتقال بمصاحبة اثنين من زوارق الطوربيد المسلحة من موقعها فى البحر المتوسط إلى شمال شرق بورسعيد، لتدخل بذلك نطاق المياه الإقليمية المصرية وتتمكن من تنفيذ كمين لأى وحدات بحرية مصرية تخرج من ميناء بورسعيد للقيام بدوريات استطلاع فى هذه المنطقة. صدرت التعليمات فى 21 أكتوبر إلى زورقى صواريخ من القاعدة البحرية ببورسعيد بالاشتباك والتدمير، فأطلق الزورق الأول صاروخ سطح/سطح على المدمرة إيلات، فأصابها إصابة مباشرة، وأتبعها بالصاروخ الثانى الذى أكمل إغراقها على مسافة تبعد 11 ميلا بحريا شمال شرق بورسعيد. وتم اختيار يوم 21 أكتوبر الذى أغرقت فيه المدمرة إيلات عيدا للقوات البحرية لما أبداه رجالها من استبسال وشجاعة وإتقان فى مواجهة العدو.

     
عقب انتهاء العملية، طلبت إسرائيل من القوات الدولية الإذن بدخول المياه الإقليمية المصرية من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه على متن المدمرة، ووافقت السلطات المصرية ولم تستغل الفرصة فى الإجهاز على باقى المصابين أو أسرهم.

2- تدمير السفينتين هيدروما وداليا (إيلات الأولى): هى أولى العمليات التى نفذها أفراد قوات الصاعقة البحرية «الضفادع البشرية» داخل ميناء إيلات الإسرائيلى، وتعد أيضا أول عملية تقوم بها الضفادع البشرية فى الشرق الأوسط بأكمله، وصلوا خلالها إلى الميناء التجارى فى إيلات وقاموا بتلغيم السفينتين «هيدروما» و«داليا» التجاريتين.

       
 نجحت العملية فى تحقيق أهدافها وتدمير السفينتين، وكان الشهيد الوحيد فى العملية الرقيب محمد فوزى البرقوقى الذى آثر استكمال الغطس وعدم الصعود للسطح ليستنشق الهواء، حتى لا تنكشف العملية وتفشل، فقام زميله نبيل محمود عبدالوهاب بسحب جثمانه والسباحة به لمسافة 14 كم، فى سابقة هى الأولى من نوعها فى تاريخ البحرية فى العالم، حرصا منه على عدم ترك جثمان رفيقه الشهيد.

3- إغراق الغواصة داكار:

      
فى يناير 1968، رصدت أجهزة الرادار بقاعدة الإسكندرية البحرية اختراق الغواصة الإسرائيلية «داكار» سواحل الإسكندرية فى أثناء قدومها من لندن متجهة إلى ميناء حيفا، فصدرت الأوامر إلى الفرقاطة المصرية «أسيوط» بمهاجمتها، ما اضطر الغواصة إلى الغطس السريع لتفادى الهجوم فارتطمت بالقاع وغرقت بكامل طاقمها. وقد أثر ذلك بشكل كبير فى الروح المعنوية للبحرية الإسرائيلية، خاصة أنها كانت الرحلة الأولى لهذه الغواصة بعد أن تسلمتها إسرائيل من بريطانيا. 

4- عملية رمانة وبالوظة:  فى يومى 8 و9 نوفمبر 1969، قصفت عناصر القوات البحرية تجمعات العدو الإسرائيلى فى مناطق رمانة وبالوظة، حيث قام تشكيل بحرى مكون من المدمرتين «الناصر» و«دمياط»، يرافقهما سرب زوارق طوربيد وسرب زوارق صواريخ، بالاشتراك مع المدفعية الساحلية المصرية بتدمير المنطقة الإدارية للعدو فى منطقة رمانة وبالوظة على الساحل الشمالى لسيناء، ونتج عن ذلك تدمير حشود ضخمة من قوات العدو ومدفعياته ومناطق شئونه الإدارية ومستودعاته.

     
5- تدمير السفينتين بات يام وبيت شيفع (إيلات الثانية): رصدت المخابرات المصرية السفينتين «بيت شيفع» و«بات يام»، وصدرت الأوامر لمجموعة من رجال القوات الخاصة البحرية «الضفادع البشرية» بتدمير السفينتين، فتوجهت المجموعة إلى العراق، ومنها إلى عُمان، ثم توجهت إلى العقبة، حتى وصلت إلى شاطئ ميناء العقبة فى 5 فبراير 1970، وقُسِّم رجال الضفادع البشرية الخاصة إلى مجموعتين.  استطاعت المجموعتان تفادى الدوريات الإسرائيلية التى تحرس السفينتين، وقامتا بوضع الألغام فى المكان المناسب. وبعد ابتعاد المجموعتين عن موقع التفجير، انفجر اللغم الأول ليحِّول «بات يام» إلى قطعة من اللهب. أما سفينة «بيت شيفع»، فقد حدثت بها تلفيات شديدة.

    
6- إعادة تدمير السفينة بيت شيفع (إيلات الثالثة): نتيجة لعدم إغراق «بيت شيفع، قامت قيادة البحرية بإسناد مهمة تدمير السفينة، فى ميناء إيلات للمرة الثالثة، إلى مجموعة من رجال الضفادع البشرية، فى مايو 1970، حيث هاجموا الميناء، وكبَّدوا الجانب الإسرائيلى خسائر بشرية شملت عددا من الضفادع البشرية التى كانت تحاول إزالة بقايا سفينة «بات يام» الغارقة فى أعماق المياه.

       
7- عملية الحفار: فى 8 مارس 1970، قامت مجموعة من عناصر الوحدات الخاصة البحرية «الضفادع البشرية» بتدمير الحفار «كيتينج» بميناء أبيدجان بساحل العاج، والذى تعاقدت عليه إسرائيل مع شركة كندية بغرض التنقيب عن البترول فى خليج السويس. جاء القرار بتدمير الحفار قبل وصوله خليج السويس، وتعقبت المخابرات العامة الحفار حتى وصل إلى مدينة أبيدجان، وهناك قامت عناصر البحرية المصرية بتدميره.

       
8- أعمال قتال القوات البحرية فى حرب أكتوبر: فى 27 سبتمبر 1973، انتشرت خمسون قطعة بحرية مصرية فوق مياه البحرين المتوسط والأحمر، كما وصلت مجموعة تشكيلات بحرية مكونة من مدمرات وفرقاطات وغواصات إلى مضيق باب المندب.  مع بدء العمليات فى السادس من أكتوبر، تم أُعلن البحر الأحمر عند خط عرض 21 شمالا منطقة عمليات، وتمكنت البحرية المصرية خلال الفترة من 6 أكتوبر إلى 21 أكتوبر 1973 من اعتراض 200 سفينة محايدة ومعادية. غير أن ناقلة بترول إسرائيلية لم تمتثل لتعليمات البحرية المصرية، فقامت الغواصات المصرية باعتراضها وإغراقها بالطوربيدات، فتوقفت الملاحة نهائيا منذ اليوم السابع من أكتوبر فى البحر الأحمر، وحتى اتفاق فض الاشتباك فى مارس 1974.  قامت وحدات بث الألغام البحرية بإغلاق مدخل خليج السويس، كما هاجمت الضفادع البشرية منطقة بلاعيم ودمرت حفارا ضخما، فيما تم قصف منطقة رأس سدر على خليج السويس بالصواريخ، لتصاب عمليات شحن البترول فى خليج السويس إلى ميناء إيلات بالشلل التام، ما ترتب عليه حرمان إسرائيل وقواتها المسلحة من البترول المسلوب من الآبار المصرية فى خليج السويس والبترول المستورد الذى كان يصل إلى 18 مليون برميل سنويا. لعبت القوات البحرية دورا محوريا فى تحقيق نصر أكتوبر، حيث كانت هناك مهام عديدة ملقاة على عاتقها واستطاعت تحقيقها بنجاح، إذ قدمت المعاونة لأعمال قتال الجيوش الميدانية فى سيناء، سواء بالنيران أو بحماية جانب القوات البرية المتقدمة بمحاذاة الساحل، كما قامت بتنفيذ المعاونة بالإبرار البحرى لعناصر القوات الخاصة على الساحل الشمالى لسيناء.

  ثانيا- أعمال قتال القوات الجوية فى حرب الاستنزاف حتى نهاية حرب أكتوبر:

بدأ فعليًا الإعداد لحرب أكتوبر المجيدة بعد انتهاء حرب يونيو 1967، من خلال محورين، الأول هو بناء القوة القتالية من الطائرات والطيارين، وتجهيز مسرح العمليات، حيث قامت القوات الجوية بإنشاء المطارات الجديدة وكذا غرف عمليات محصنة فى كل القواعد الجوية والمطارات، كما قامت بزيادة الممرات بكل قاعدة ومطار، وأنشأت العديد من الدشم المحصنة للطائرات.

     
 فيما اهتم المحور الآخر بزيادة أعداد الطيارين وتدريبهم على أعلى مستوى قتالى. وكانت فترة حرب الاستنزاف خير إعداد وتجهيز عملى للطيارين قبل الحرب، حيث «كان قائد السرب يأخذ سيارة «جيب» وعليها هيكل خشبى لــ (صاروخ)، فجرا، وينطلق بالعربة إلى مكان مجهول (تقاطع طريق - مدخل مدينة) ويحدد إحداثيات المكان على الخريطة ويبلغ إحداثيات الهدف، ويطلب من قائد التشكيل تنفيذ قذف هجوم هيكلى (دون استخدام قنابل) على تلك النقطة، ويحدد زمن الهجوم بدقة، ويراقب تنفيذ هجوم التشكيلات المتتالى، ومدى دقة تنفيذ الهجمة ودقة الوصول للهدف»(2). كانت تلك كلمات رائد طيار/ حسن راشد، أحد أبطال حرب أكتوبر عن التدريب العملى للطيارين، علما بأن الطائرة المستخدمة هى ميج-17 مقاتلة (قاذفه خفيفة)، من إنتاج عام 1947 ومخصصة لتقديم المعاونة القريبة للقوات البرية، ولم يتم تطويرها إطلاقا، ومجهزة فقط ببوصلة مائية لتحديد الاتجاهات. يُذكر أيضا أن الرائد طيار حسن راشد أسقط بهذه الطائرة -وهى غير مخصصة للقتال جو/جو- طائرة ميراج معادية بمدفع الطائرة(3)، كانت تعد من أحدث الطائرات فى ذلك الوقت، وكان ذلك خير مثال على قوة وفعالية تدريب للطيارين.

    
خلال هذه الفترة، نفذت القوات الجوية عملية فى 11 سبتمبر 1969 ضد القوات الإسرائيلية، وكانت وفق التسلسل التالى:  • الساعة 9:00 صباحا، شن الطيران المصرى (الموجة الأولى) هجوما كبيرا على قوات الجيش الإسرائيلى فى سيناء، حيث انطلقت قوة كبيرة مؤلفة من 16 طائرة سوخوى-7 على ارتفاع منخفض فوق مواقع إسرائيلية فى شمال سيناء، ترافقها طائرات ميج-21 لحمايتها من الطيران الإسرائيلى الذى دفع - فى المقابل- بأربع طائرات ميراج لاعتراضها وجرى إشتباك جوى أصيبت فيه طائرة مصرية.

   
• فى الساعة 12:00، نفذ الطيران المصرى الموجة الهجومية الثانية. وفى هذه المرة، هاجمت الطائرات المصرية القاعدة البحرية الإسرائيلية وبطاريات صواريخ هوك فى أبو رديس ورأس مسلة. • حوالى الساعة 4:00 مساءً، قام الطيران المصرى بالموجة الهجومية الثالثة والأخيرة ضد الأهداف الإسرائيلية، بما فى ذلك استهداف بطاريات صواريخ هوك فى شمال سيناء. فى 10 ديسمبر 1969، كانت أول مواجهة للطيارين المصريين مع أحدث الطائرات الأمريكية فى إسرائيل (الطائرة فانتوم) وجرت معركة جوية فوق منطقة العين السخنة فى خليج السويس عندما هاجمت ثمانى طائرات فانتوم المنطقة لضرب محطة رادار مصرية فتصدت لها على الفور ثمانى طائرات مصرية طراز ميج -21، وتم إسقاط أول طائرة فانتوم فى منطقة رأس المسلة على الساحل الشرقى لخليج السويس. وصل معدل تنفيذ الطلعات الجوية للقوات الجوية المصرية، خلال الفترة من 20 يوليو إلى 31 ديسمبر عام 1969، إلى 3200 طلعة جوية، لأغراض قذف الأهداف الأرضية والتأمين والاستطلاع، فيما بلغ عدد الطلعات الجوية طوال حرب الاستنزاف إلى 7200 طلعة جوية(4).

   
خلال حرب أكتوبر المجيدة، سطرت قواتنا المسلحة ملحمة بطولية شهد لها العالم، حيث قامت بالعديد من البطولات، منها الضربة الجوية التى أفقدت العدو توازنه فى بداية الحرب. كان من المهم جدا أن يتم تعطيل مطارات العدو ومراكز قيادته ومراكز التشويش والإعاقة وبعض بطاريات المدفعية بعيدة المدى ومراكز تجمع مدرعات، حتى يمكن لقوات المشاة أن تقاتل فى تلك الساعات الأولى بحرية وتكون فرص نجاحها أكبر فى تنفيذ مهامها. وفى الساعة الثانية ظهرا, بدأت الضربة الجوية الرئيسية، مكونة مما يزيد على 200 طائرة مقاتلة، فى ضرب الأهداف المعادية الإسرائيلية المحددة لها داخل سيناء المحتلة، وقد تمت الضربة الجوية فى صمت لاسلكى تام لتجنب أى عمليات تنصت معادية يمكن أن تكشف الهجوم المصرى.

    
عبرت الطائرات كلها فى وقت واحد خط القناة، حيث تم ضرب مركز القيادة الرئيسى للعدو فى منطقة «أم مرجم» لإفقاده سيطرته وعزله عن قواته، ثم تتابع بعد ذلك ضرب الأهداف المخطط التعامل معها بنسبة نجاح تزيد على 90%. وصلت المقاتلات المصرية إلى أهدافها، طبقا لكل طائرة ومكان انطلاقها والهدف المتجهه له، لتحقيق وجود كل الطائرات فوق أهدافها فى وقت واحد(5). وتم شل ثلاثة ممرات رئيسية فى ثلاثة مطارات هى «المليز - بيرتمادا - رأس نصرانى»، بالإضافة إلى ثلاثة ممرات فرعية فى المطارات نفسها، وكذلك تدمير 10 مواقع بطاريات للدفاع الجوى من طراز هوك، وموقعى مدفعية، ومركز حرب إلكترونية، والعديد من مواقع الشئون الإدارية.  استمرت هذه الضربة نحو 30 دقيقة. ونظرًا لنجاحها فى تنفيذ أكثر من 90% من المهام المكلفة بها، تم إلغاء الضربة الجوية الثانية لعدم الحاجة إليها(6). كان أول هدف ضُرب ودمِّر بالصواريخ البعيدة المدى الموجهة الراكبة للإشعاع الرادارى هو مركز القيادة الرئيسى للعدو فى منطقة أم مرجم، حيث ضُرب بأول صاروخ افتتح الحرب من القاذفة طراز (TU-16) من فوق منطقة التل الكبير فى منطقة الإسماعيلية غرب القناة. وقبل أن تعبر الطائرات المصرية لأهدافها فى سيناء، كان مركز «أم مرجم» قد تمت إصابته .

     
وفى حوالى الساعة 4 بعد الظهر تقريبا، انطلقت تشكيلات من الهليكوبتر مى-8، نحو 70 طائرة هليكوبتر من الفرقة 119، حاملة معها عناصر من القوات الصاعقة المصرية (الكوماندوز المصرى) بكل معداتهم وأسلحتهم واحتياجاتهم. وقامت أسراب الهليكوبتر بنجاح بإنزال هذه القوات الخاصة خلف خطوط العدو فى مناطق «وادى سدر» و«قلعة الجندى» ومنطقة «الرويسات» و«سهل الطينه» و«أبو رديس» و«جبال بركة» جنوب العريش و«منطقة التمادا». استمرت تشكيلات القوات الجوية بتنفيذ جميع مهام القذف الجوى، وتقديم المعاونة للقوات البرية، وتنفيذ عمليات إبرار القوات الخاصة فى عمق سيناء، إضافة إلى أعمال الاستطلاع الجوى، وتوفير الحماية الجوية للقوات والأهداف الحيوية للدولة. ونظرا للنجاح المستمر لأعمال قتال القوات الجوية، ركز العدو هجماته على القواعد الجوية، وجرى التصدى له من خلال معركة المنصورة الجوية فى 14 أكتوبر التى تعد من أكبر المعارك الجوية وأطولها، ولذا اتخذت القوات الجوية هذا اليوم عيدا لها. خاضت القوات الجوية المصرية معاركها فى حرب أكتوبر المجيدة بكل كفاءة واقتدار من البداية إلى النهاية وتألقت فى يوم 14 أكتوبر «معركة المنصورة» فى أداء مهامها بكفاءة عالية شهد بها العدو قبل الصديق.

   
فى هذا اليوم، قام العدو بتنفيذ هجمة جوية على مطارات الدلتا بغرض التأثير فى كفاءتها القتالية ومنع طائراتنا من التدخل ضد قواته بعد الخسائر الهائلة التى تكبدها فتصدت له مقاتلاتنا من قاعدتى المنصورة وأنشاص، ودارت اشتباكات متواصلة شارك فيها أكثر من 150 طائرة من الطرفين أظهر خلالها طيارونا مهارات عالية فى القتال الجوى. استمرت المعركة أكثر من 50 دقيقة، وتعد أطول معركة جوية، حيث تم إسقاط 18 طائرة للعدو، رغم التفوق النوعى والعددى لطائراته. ولم يكن أمام باقى طائرات العدو إلا أن تلقى بحمولتها فى البحر وتلوذ بالفرار، كما فعلت ذلك فى باقى أيام الحرب. من هنا، تم اختيار هذا اليوم عيدًا للقوات الجوية بعدِّه من أهم المعارك الجوية خلال حرب أكتوبر 73.

ثالثا- أعمال قتال قوات الدفاع الجوى حتى نهاية حرب أكتوبر:

قوات الدفاع الجوى المصرية أحد الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة المصرية، وهى المسئولة عن حماية المجال الجوى المصرى ضد أى هجمات جوية معادية، وأنشئت طبقا للقرار الجمهورى الصادر فى أول فبراير 1968 الذى نص على «إنشاء قوات الدفاع الجوى كفرع رئيسى ثالث للقوات المسلحة بجانب القوات الجوية والقوات البحرية، وكقوة رابعة بعد القوات البرية والبحرية والجوية»، وعين الفريق محمد على فهمى كأول قائد للقوات حديثة النشأة.


أُعيد تنظيم القوات وتدبير الكوادر وتدريب الأفراد ورقع مستوياتهم التعبوية والتكتيكية والفنية، مع تكوين قاعدة تكنولوجية عريضة قادرة على استيعاب أسلحة الدفاع الجوى الحديثة فى أسرع وقت ممكن بهدف حرمان إسرائيل من تفوقها الجوى.
بدأ تطوير قوات الدفاع الجوى بإنشاء شبكة الكشف والإنذار، وتم توفير أعدادا كبيرة ومتعددة من وسائل الكشف والإنذار الرادارى واستخدامها فى تنسيق وتعاون متكاملين وتعزيزها بشبكة من نقاط المراقبة بالنظر وتجهيزها بشبكة اتصالات مرنة وحمايتها ضد الهجمات الإسرائيلية الإلكترونية.

إنشاء حائط الصواريخ: 

دعمت القيادة العامة للقوات المسلحة الدفاع الجوى بأنواع حديثة من الأسلحة والمعدات الإلكترونية والصواريخ المضادة للطائرات التى تحلِّق على ارتفاعات منخفضة، وإقامة شبكة الاتصالات السلكية واللاسلكية. فى أثناء حرب الاستنزاف، ركزت القيادة الإسرائيلية ضرباتها الجوية على خط القناة لتدمير المواقع العسكرية المصرية، خاصة مرابض مدفعية الميدان، ومنع إقامة قواعد جديدة للصواريخ المضادة للطائرات فى منطقة القناة، وعزل المناطق والأهداف الحيوية على الجبهة المصرية، وشل أى تحركات تهدف إلى إدخال قوات أو حشدها فى المنطقة(7). لمواجهة تلك الضربات الجوية المركزة، قامت قوات الدفاع الجوى بالتحرك لإدخال الصواريخ المضادة للطائرات إلى منطقة القناة، وإنشاء حائط الصواريخ المضادة للطائرات باستخدام أسلوب الزحف البطىء على وثبات بالتتالى، وذلك بإنشاء تحصينات كل نطاق واحتلاله تحت حماية النطاق الخلفى له. أنشئت مواقع النطاق الأول شرق القاهرة، كما أنشئت ثلاثة نطاقات أخرى تمتد إلى منتصف المسافة بين القاهرة وجبهة القناة، ولذلك شُيدت التحصينات الميدانية اللازمة بعدد كبير من المواقع الرئيسية والتبادلية، وجُهزت مراكز القيادة والسيطرة والمواقع بوسائل الاتصال اللازمة، ومُهدت الطرق والمدقات، وتم تحريك قواعد الصواريخ واحتلالها لمواقعها ومعها وسائل الدفاع المباشرة المضادة للطائرات ووسائل الإنذار اللازمة. عقب إنشاء حائط الصواريخ، وبدءا من 30 وبدءا يونيو 1970، وخلال الأسبوع الأول من يوليو، تمكنت صواريخ الدفاع الجوى المصرى من إسقاط العديد من الطائرات طراز فانتوم، وسكاى هوك، وأسر العديد من الطيارين الإسرائيليين. كانت هذه المرة الأولى التى تُسقط فيها طائرة فانتوم من خلال قوات الدفاع الجوى، فأطلقت وسائل الإعلام المصرية على ذلك الأسبوع «أسبوع تساقط الفانتوم»، واتخذت قوات الدفاع ذلك اليوم عيدا لها.

معركة الدفاع الجوى فى عبور القناة:

  تمثل الدور الرئيسى للدفاع الجوى المصرى فى خطة معركة العبور فى توفير الحماية للقوات البرية فى أثناء العبور ومنع دفاع العدو الجوى من مهاجمة القوات والمعابر، ولتأمين تدفق هجوم القوات المصرية على طول خط القناة، وعلى امتداد الساحل الشرقى لخليج السويس ودفعه فى عمق سيناء حتى مسافة 50 كم شرقا، بما يُضعف تأثير هجمات طيران إسرائيل، ويضمن الوقاية لجميع القواعد الجوية والمطارات والأهداف الحيوية فى عمق الدولة. فى يوم السبت، الموافق السادس من أكتوبر 1973، وعقب تنفيذ الضربة الجوية وتدفق القوات إلى شرق القناة، كانت قوات الدفاع الجوى فى انتظار الهجوم الإسرائيلى المضاد الذى ظهرت بوادره على شاشات الرادار اعتبارا من الساعة الثانية وأربعين دقيقة. قامت الصواريخ المضادة للطائرات بإسقاط الطائرات الإسرائيلية الواحدة تلو الأخرى، واستمرت الحال خلال الساعات التالية، حيث كانت إسرائيل تدفع بطائراتها على طول الجبهة لتحاول ضرب وإعاقة تقدم القوات المصرية وتدمير جسورها ومعابرها. وفى تمام الساعة الخامسة مساءً، أصدر قائد القوات الجوية الإسرائيلية أوامره لطياريه بتفادى الاقتراب من القناة لمسافة تقل عن 15 كم شرقا(8).

   
فى اليوم الثانى للمعركة، صباح السابع من أكتوبر 1973، خططت القيادة الإسرائيلية لتفادى حائط الصواريخ المصرى على جبهة القناة، وتوجيه ضربة جوية للطائرات والقواعد الجوية المصرية البعيدة عن هذا الخط الدفاعى الحصين. واقتربت الطائرات الإسرائيلية على ارتفاعات منخفضة فوق البحر المتوسط لتهاجم المطارات المصرية بشمال الدلتا، فوجدت الطائرات المعادية المقاتلات الاعتراضية المصرية فى انتظارها. ومن نجح من طيارى العدو وحاول التسلل على ارتفاع منخفض، واجهته نيران المدفعية المضادة للطائرات والصواريخ المحمولة كتفا، فآثر من تبقى من الطيارين الإسرائيليين الانسحاب وألقوا بحمولاتهم من القنابل وعادوا القهقرى إلى قواعدهم. إن الدور العظيم الذى قامت به قوات الدفاع الجوى فى الدفاع عن سماء مصر شهد به العدو قبل الصديق، حيث أعلنت إسرائيل أنها خسرت 102 طائرة. ولكن بعد يومين، أعلن وزير دفاعها أن الخسائر بلغت 50 طائرة فقط، فيما قدرت بعض المصادر الغربية أن الدفاع الجوى المصرى دمر ما يتراوح بين 180 و200 طائرة، كما أعلن الاتحاد السوفيتى أن الخسائر بلغت 280 طائرة. وسواء أكانت تلك الارقام صحيحة أم لا، فيكفى أن قوات الدفاع الجوى استطاعت تحييد القوات الجوية الإسرائيلية ومنعها من تنفيذ مهامها القتالية على طول الجبهة. 

الخلاصة:
 يمكن القول إن لكل دولة وشعب سطورا مضيئة يكتبها الأبناء بدمائهم، ولم يبخلوا بأرواحهم، فطالوا العلا فى سبيل المجد لهم ولأمتهم المصرية العظيمة. ولذا، فإنه حق أصيل لكل مصرى أن يفخر بمجد بلاده وعزتها ومجدها. ولا يسعنا إلا أن نترحم على أرواح شهدائنا الأبرار، وأن نرسل تحية فخر وإعزاز إلى كل من شارك فى صنع النصر فى حرب أكتوبر المجيدة.

الهوامش:

1- الشبكة العنكبوتية: https://www.wikiwand.com/ar/ حرب_أكتوبر.

2- من حديث رائد طيار حسن راشد (اللواء طيار أ ح/ حسن راشد رئيس أركان القوات الجوية الأسبق), ص33، عن أسلوب التدريب والإعداد للطيارين خلال حرب الاستنزاف, كتاب الضربة الجوية «النسور يتكلمون», رقم الإيداع 2002/ 11818, ترقيم دولى ISBN977-236- 376- 3) ).

3-المصدر السابق , ص39.

4- الشبكة العنكبوتية:http://www.moqatel.com/Mokatel/data/Behoth/siasia-askria4/Istenzaf/Mokatel3_9-2.htm.

5- الشبكة العنكبوتية: https://group73historians.com/ /حرب-أكتوبر/167-حقيقه-الضربه-الجويه.

6- من كلمات الرئيس الراحل محمد أنور السادات: «عندما يتم ضرب كل هذه الأهداف فى وقت واحد، فلا بد أن يصاب الجيش الإسرائيلى كله بالشلل التام. ولذلك، صرحت بعد أربع ساعات من بدء المعركة بـ «أن إسرائيل قد فقدت توازنها تماما. ولكى تستعيد كل مراكز القيادة هذه وتبنيها من جديد، يكون الوقت قد مر فى غير صالحها، ونكون قد انتهينا من مهمتنا الأساسية الأولى، والفضل فى هذا كله يرجع إلى ضربة الطيران المحكمة الموفقة التى أذاقت إسرائيل لفحات الجحيم المستعر» أكتوبر 73.

7- الشبكة العنكبوتية: حائط الصواريخ (تقدير للمخابرات المركزية الأمريكية عن مواقع صواريخ سام السوفيتية فى مصر اعتبارا من مايو 1970)، https://www.wikiwand.com/ar/ قوات_الدفاع_الجوى_(مصر).

8- الشبكة العنكبوتية: https://www.wikiwand.com/ar/ قوات_الدفاع_الجوى_(مصر). 


رابط دائم: