قراءات فى المشهد المصرى
25-9-2023

عميد/ د. هيثم الطواجنى
* متخصص فى الشئون الاستراتيجية والسياسية

استوقفتنى فى الآونة الأخيرة، مشاهد متكررة على مستوى المجتمع المصرى وتفاعلاته الداخلية والخارجية. وهو ما استدعى محاولة قراءتها بدقة وتمعن، ومنها:

 - انخراط أكثر من شخص على الرغم من تباين المراكز الاجتماعية والمستويات الثقافية فى موقف متكرر وهو: تراشق لفظى على إحدى منصات التواصل الاجتماعى بين مجموعة من المصريين وإخوانهم من جنسيات شقيقة، مع الاتهام المتكرر من جانب الأشقاء بأن بلادهم أولى بأموالهم، وأننا أخذنا الكثير والكثير دون وجه حق، وهذا التراشق اللفظى متكرر ودائم الحدوث مع كل تغير فى الموقف السياسى أو الاقتصادى أو حتى الرياضى، وهذا طبيعى ومفهوم من الجانبين، فأنا أتفهم العصبية والقبلية للآخر، وأدرك الحمية والغيرة المصرية للرد والتفنيد، لكن ما لا أتفهمه أن هناك قطاعا ليس بالكبير من مثقفى مصر لا يبذل مجهودا يسيرا وزمنا أقل مما يعتقدون للوصول إلى دور مصر الكبير مع أشقاءها عبر الماضى البعيد والقريب، وذلك بدلا عن إنكار تلك الحقيقة والقفز عليها.

- مجموعة من الشعب المصرى ما زالت ترى حتى هذه اللحظة أن الكثير مما أنجز على أرض الواقع مع إقرارهم بأنه مهم وحيوى إلا أنه كان من المحتم تأجيل تلك المشروعات، وأن هناك ما هو أهم وأولى بالتنفيذ من مشروع قناة السويس (الجديدة) متناسيا ومتجاهلا المعلومات والوقائع حول هذا المشروع بكل جوانبه بما فيها الجانب الاستراتيجى غير المعلن الذى يدور حول إجهاض أو تعطيل المشروعات الإسرائيلية ومجموعة من الأهداف الأخرى لا مجال لذكرها هنا.      

- تغير حال مجموعة من الأصدقاء من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار من التأييد المطلق إلى الرفض الكامل،والسبب غير المعلن هو انتفاء المصلحة الشخصية،فيما المعلن هو ارتفاع الأسعار، ولهم أقول: إن الأمور لا يمكن أن تستقيم مع تغيير أحد أطراف المعادلة،أو بمعنى آخر لا يمكن مع ثبات الدخل ألا نتخذ إجراءات أكثر تقشفية للوصول إلى الاتزان المطلوب بدلا من المغالاة فى كره النظام السياسى والتنظير على صانعى القرار.

 - مشروع الربط بين آسيا وأوروبا عبر الجزيرة العربية الذى يتضمن أغلب أنواع النقل (بحرى – برى - سككى) والذى سارع أغلبنا إلى المقارنة بينه وبين قناة السويس مع الجزم بأن المشروع لن يستهدفنا أو يضر بنا، والواقع أن المشروع يستهدف منافسة مبادرة الحزام والطريق الصينية، وأنه لن يؤثر فى القناة لأن القيادة السياسية اتخذت من التدابير والإجراءات المسبقة بما يكفل أن تكون لها الأفضلية فى هذا الميدان والأمثلة للدلالة على هذا كثيرة جدا، ولعل أبرزها مشروع القطار السريع (العين السخنة – مطروح) وأنا لست برجل اقتصاد، ولكن أتفهم أن باقى الدول والشعوب المحيطة بنا فى دوائر الاهتمام القريبة والمتوسطة لها كل الحق فى أن تعمل وتتطور، وليس بالضرورة أن يكون العمل موجها إلى مصر، وهذا ليس صحيحا، فأى متابع يرى أن مصر قطعت أشواطا سريعة جدا فى تلك المشروعات بل أنجزت إلى حد كبير بعضها وانتهت تماما من بعضها الآخر، ومازال الآخرون يدرسون ويعلنون ويتبادلون التهنئة بالاتفاق.     

- هناك تحركات ليست بالغريبة على الحكومة الأكثر تطرفا فى تاريخ إسرائيل التى تتميز بوجود الصقور،وبشكل أكثر مما سبق خارج إطار منتدى شرق غاز المتوسط بدأت بمناقشة مشروع إنشاء خط أنابيب غاز بين إسرائيل وقبرص، ثم تبين ارتفاع تكلفته وانتهى الأمر بقيام قبرص بتوقيع عقود لإنشاء محطة إسالة للغاز على الأراضى القبرصية مع ارتفاع الأصوات الإسرائيلية (غير الرسمية) فى الداخل بالتضرر من اتفاقية تصدير الغاز الإسرائيلى إلى مصر، وأنا أتفهم بل أثمن جيدا الرد المصرى الرصين وغير المباشر والمتمثل فى زيادة الاستثمارات المخصصة لاكتشافات النفط والغاز إلى 9 مليارات دولار، بالإضافة إلى لقاءات وزير الخارجية مع نظيريه اليونانى والقبرصى.

- إن الانتخابات الرئاسية المصرية على الأبواب، وهذا يعنى وبمنتهى البساطة تسارع وتيرة اختلاق الأزمات والمشكلات داخليا وخارجيا، وذلك، من وجهة نظرى، راجع إلى سببين رئيسيين أولهما هو أننا نسابق الزمن من أجل بناء الجمهورية الجديدة ذلك الحلم المصرى الذى تم وأده مرتين خلال العصر الحديث: الأولى فى عهد محمد على باشا عام 1840، والثانية فى عهد الرئيس جمال عبد الناصر عام 1967، وفى كليهما تعطل الحلم المصرى، وإنى أجزم بأنه ما أشبه الليلة بالبارحة. والسبب الثانى مرتبط كليا بمرحلة انتقال العالم من مرحلة القطب الواحد إلى عالم متعدد الأقطاب، وإن كلا من المعسكرين يستخدم أوراق الضغط الخاصة به لاستقطاب مصر، وإن كانت الإدارة الأمريكية الحالية تستخدم أوراقها المتمثلة فى اعتزامها حجب 85 مليون دولار من المساعدات العسكرية، والسبب طبعا حقوق الإنسان! وهنا أجدنى مضطرا لأن أقول إن القيادة السياسية المصرية تعى دروس الماضى جيدا، وأنها ماضية نحو تبوء المكانة المناسبة فى العالم الجديد، وأن على الشعب المصرى أن يعى جيدا ما يدبر ضده، وأن فزاعة الديون الخارجية والنقص الحاد للعملة الصعبة والأزمات المفتعلة داخليا (احتكار السلع وغلاء الأسعار) ومحاولات نقل مركز الثقل الاستراتيجى من القاهرة إلى عواصم أخرى لن تنال من العزيمة الراسخة والإرادة الصامدة والإيمان الثابت بما نمتلكه من قدرات وإمكانات لا توجد لغيرنا من الأمم.    

- ختاما، أود أن أقول: إننا لا بد لنا من أن ندرك أنه لا سبيل لنا فى أى تقدم أو إصلاح أو حتى انفراجة إلا إذا تغير موقفنا السلبى وتحول للإيجابية، وألا نرهن كل تصرفاتنا بما ستتخذه الحكومة من إجراءات والعودة إلى ما كانت أمهاتنا تجيد فعله بحسن تدبر الأمور ومحاربة الغلاء بالاستغناء والبحث عن البدائل الأقل تكلفة، وأن تطبق جهات الاختصاص القانون على كل مهمل أو متسيب أو محتكر مع إعلان العقوبات لإحكام السيطرة على السوق وإعادة الانضباط للشارع المصرى.      


رابط دائم: