نحو تشكيل نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب
17-9-2023

كاترين فرج الله
* باحثة دكتوراه فى الاتصال السياسي

يشهد العالم الآن تحولا غير مسبوق نحو نظام عالمى جديد يغير قواعد اللعبة الدولية ومنطقها والفاعلين بها، بعد أن شهد عقودا من نظام أحادى القطبية بذلت فيه الولايات المتحدة الأمريكية جهودا لتظل منفردة، ولكى تكون القطب الأوحد فى قيادة العالم، ولكن لم يعد للعالم الآن مكان لهذا النظام المتمركز حول الولايات المتحدة فقط، متجاهلة العالم ومن عليه باتباعها سياسات تخدم مصالحها وأطماعها، غير مبالية باحتياجات المجتمعات والدول واستقرارها وأمنها وسلامتها، وتبنت نهج أمريكا أولا على حساب الأمم وتآكل الشعوب، وبذلت فى سبيل ذلك الغالى والنفيس لتخلق بؤرا ومناطق للصراعات والحروب والتدخل السافر فى شئون الدول لتصبح المهيمن الوحيد على هذا العالم، الأمر الذى ترتب عليه صحوة عالمية بلفظ الدول والشعوب لهذا النظام، لتتجه الدول الآن نحو نظام عالمى جديد بتكتلاته وتحالفاته وفاعلين جدد، ليصبح الملاذ الآمن للدول والشعوب. وبناء عليه، يتناول هذا التحليل التشكيل العالمى الجديد وأسسه ومحدداته واتجاهاته والفاعلين الجدد فيه، والتغيرات التى تلوح فى الأفق.

بداية، لا بد من الإشارة إلى وضع أمريكا الحالى، فقد فقدت أمريكا صفة القطب الأوحد على جميع الأصعدة اقتصاديا وسياسيا بصورة غير مسبوقة، ولم تعد لها السلطة والنفوذ فى الشئون الخارجية كما عهدها بل لم يعد بمقدورها القيام بالحرب المباشرة، وأصبحت سياستها الخوض فى الحروب بالوكالة، وترك الدول تواجه مصيرا مجهولا. وخروجها المخزى من أفغانستان بعد عشرين عاما؛ حيث لم تفعل شيئا لها ولشعبها بل تركتها تواجه مصيرا مجهولا، يتابعه العالم بكل أسى من دمار وعنف وإرهاب، ومن قبل كان العراق.

 والمؤسف بعد كل هذا، تعيش أمريكا على أمجاد الانتصار فى الحرب العالمية وقوتها العسكرية، وكأن العالم من حولها لم يتغير وعلى رأسه الصين التى تغلغلت فى كل دول العالم اقتصاديا وثقافيا وسياسيا بل عسكريا وتكنولوجيا، خاصة فى إفريقيا، وطريق الحزام خير دليل، وحتى فى الداخل الأمريكى نفسه مستحوذة على السوق الأمريكى، بل الأخطر تطارد الصين الداخل الأمريكى بمنطادات للتجسس على مسمع العالم ومرآه، وكل ما تفعله أمريكا هو محاربتها من خلال جزيرة تايوان، ومحاصرتها اقتصاديا عن طريق العقوبات، ومحاصرة حلفها الاستراتيجى المستقبلى مع روسيا والهند، وتجمع بيركس وآسيان خير شاهد بمولد أحلاف استراتيجية جديدة، فهذه التجمعات والتكتلات تدرك أمريكا جيدا أنها ستعمل على إزاحة عرشها وسحب البساط من تحت أقدامها سريعا بنظام عالمى جديد قادم من آسيا.

مؤشرات اتجاه العالم إلى النظام الجديد 

بدا التشكيل الجديد لهذا العالم الآن من خلال عدة مؤشرات:

المؤشر الأول - وهو المشهد الحالى من صعود دول على المسرح العالمى، وعلى رأسها روسيا والصين فى خضم التطورات العالمية الجديدة (الحرب الروسية الأوكرانية، والأزمات المالية العالمية، والتغير الجيوسياسى على الصعيدين الإقليمى والعالمى، والعقوبات الاقتصادية الأمريكية، والحصار الأمريكى للصين بعد تفوقها عالميا، وتراجع الدور الأمريكى، ولفظ القارة الإفريقية لاستعمار الغرب، والحروب والصراعات فى القارة السمراء، والإرهاب، والهجرة، والتغير المناخى، والصراع الروسى الغربى). فى مقابل تراجع دول وقوى غربية وهو ما يشير إلى قدوم نظام عالمى جديد لا محال، فهذه التطورات هى دلالات على البدء الفعلى فى تشكيل النظام العالمى الجديد، وإن النظام الحالى الذى تعمل عليه واشنطن وتحارب من أجل بقائه واستمراره لم يعد قائما من الأساس، فالخريطة السياسية للعالم شهدت تغيرا بظهور دول جديدة لم تكن قائمة، واختفاء دول كانت قائمة، وتغيير مراكز النفوذ والقوى العالمية، ومستقبل ينذر بغروب نظام عالمى بقواه العالمية، وشروق نظام جديد بقوى جديدة، الأمر الذى ترتب عليه تغيير فى العلاقات الدولية.

المؤشر الثانى - تغيير ديناميكية الجغرافيا السياسية (الجيوبولتيك) القائمة على  الموارد البشرية والطبيعية للدول وما ينتج عنه من توسع جغرافى على حساب الدول والأوطان إلى الاتجاه نحو التقارب فى العلاقات السياسية والاقتصادية وفق مصالح الدول. ومن ثم، تتجه علاقات الدول فيما بينها نحو التطور الاقتصادى وقوة الدول ونفوذها وما تمثله من دور مؤثر فى المنطقة وتوسعها سياسيا، وخير دليل على ذلك التطبيع غير المعهود الذى تشهده المنطقة بين القوى الإقليمية الرئيسية وهو ما يتجاوز الأطر التقليدية، وقيام الصين بدور الوساطة فى منطقة الشرق الأوسط، فالجيوبوليتك بمفهومها لم تعد مقبولة الآن؛ حيث إنها قائمة على توسع  الدول لحدودها حتى ولو على حساب دول الجوار، وهو ما تنتج عنه الحروب والخسائر الاقتصادية بل انهيار للدول.

المؤشر الثالث - وفق المشهد الدولى الحالى من صعود تحالفات وتكتلات وتجمعات لدول بعينها تحدد ملامح النظام العالمى الجديد فى مقابل تراجع التحالفات الحالية مثل حلف الناتو الذى اختزل دوره فى الصدام المباشر والحروب، والأمم المتحدة التى اختزلت دورها فى الشجب والإدانة فقط، ولم نسمع عن دور لها على أرض الواقع فى الحروب والصراعات والانهيار الاقتصادى.

المؤشر الرابع - التفاهم بين الفاعلين الجدد على خريطة العالم الجديدة بعد أن شهد العالم قطبا واحدا ظل منفردا بقيادة العالم يصدر القرارت ويملى الشروط فقط ويوقع العقوبات.

المؤشر الخامس - نظام اقتصادى جديد تجاوز العملة الواحدة (الدولار) والاتجاه للعملات المحلية وسلة عملات جديدة.

ملامح النظام العالمى الجديد المتعدد القطبية: 

- صعود القوى الدولية الجديدة، وتعظيم قدرتها على استخدام سياسة الوفاق، وعدم التدخل فى شئون الدول، والاستفادة من  أخطاء القطب الواحد، والعمل على تفاديها حتى لا تكون عائقا فى  النظام العالمى الجديد.

- قيام القوى الصاعدة بدرء سياسة الانفراد فى النظام العالمى الجديد والتكاتف والعمل معا هو سمة الفاعلين الجدد لإرساء نظام التعددية القطبية وهو ما يظهر جليا بالتعاون بين روسيا، والصين، والبرازيل، والهند.

- تعمل التعددية القطبية الجديدة على التغيير الجذرى للنظام الدولى الحالى الذى أسس عقب الحرب العالمية الثانية وهو ما تم فعليا وظهر جليا بالتجمعات والتحالفات ومخرجات مؤتمراتها.

- تعددية قطبية تعمل الآن فى الواقع الملموس على نظام اقتصادى جديد قائم على الاندماج بين الدول المتقدمة والنامية الذى من شأنه تضييق الفجوة الاقتصادية وهو نظام غير معهود بين الدول المتقدمة والنامية وهو ما زرعه القطب الأوحد بقيادته، الأمر الذى خلق دولا تهيمن وتستغل ثروات الدول النامية.

- حرص التعددية القطبية على تبنى سياسة الوفاق والتعاون لنهضة الدول ما نتج عنه نظام عالمى أكثر عدالة، الأمر الذى يترتب عليه نهوض الدول النامية.

- تعددية قطبية تعمل على مكافحة الإرهاب فى النظام الدولى الجديد وليس على زرعه الذى هو سياسة القطب الواحد ونهجه لتفتيت الدول والشعوب.

- تشكيل السياسية الخارجية الجديدة وفق التغيرات الجيوسياسية والاتجاه نحو الدول المؤثرة وذات الثقل.

- تغيير الفواعل، فبعد أن كانت أمريكا فقط أصبح الغرب الجماعى أمريكا والدول الأوروبية (نشهد ذلك الآن فى الحرب الروسية الأوكرانية، وتأييد الدول الأوروبية لأمريكا) جاءت الفواعل الآسيوية روسيا والصين والهند واتجاهها نحو الشرق والغرب.

لذا، فالقارئ للمشهد العالمى جيدا سيدرك أن الصين ستصبح هى الفاعل الأوحد دون روسيا مستقبلا، وذلك يرجع إلى استنزاف الغرب للاقتصاد الروسى من جراء حربها مع أوكرانيا إن لم تقف هذه الحرب.

   السيناريوهات الأمريكية للتعامل مع النظام العالمى الجديد وخريطته السياسية

لن تقف الولايات المتحدة مكتوفة الأيدى تجاه تشكيل النظام العالمى الجديد ومولد أقطاب متعددة بتكتلاتها ما يجعلها تتصرف كأنها فى جرح الموت تنافس وتصارع لتبقى وجودها، وتتمثل السيناريوهات الأمريكية فى الآتى:

- مهاجمة التجمعات والتكتلات الوليدة والناشئة من جهة، والاتجاه إلى تحالفات هى القائد لها للحفاظ على نظامها الحالى كقطب أوحد من جهة أخرى.

- تبنى أمريكا سياسة الحرب الباردة الجديدة مع الدول الصاعدة حتى لا تصبح قوى اقتصادية وتكنولوجية. 

- تعمل أمريكا على درء النفوذ الآسيوى فى القارة الإفريقية، خاصة فى دول غرب إفريقيا ما جعلها تتحالف مع جميع الدول الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا.

- تأجيج انقلابات الشعوب على أنظمتها الوطنية، خاصة على الجيوش الوطنية، والحال فى السودان خير دليل.

- جر الصين وروسيا لاستنزافهما عسكريا (إمداد أوكرانيا بكل أنواع الأسلحة والذخائر العنقودية التى تأخذ معها الأخضر واليابس- تايوان والصين).

- إلقاء التهم على الصين من جراء وباء كورونا، والتسبب فى أزمات مالية عالمية غير مسبوقة دفع فاتورتها العالم أجمع.

- حروب الطاقة والغذاء وهى حروب جديدة على العالم بأكمله نشهدها الآن.

- قيام الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى مع أمريكا ببذل الجهد حتى لا يختل النظام العالمى لمصلحة الدول الصاعدة.

- نقل مناطق الإرهاب إلى آسيا بخروجها المتعجل من أفغانستان لصرف نظر الدول الآسيوية عن طموحها.

الخصائص التى سيكون عليها النظام الدولى الجديد :

- نظام اقتصادى يسمح بتدخل الدولة لضبط الإيقاع مثل الصين، وروسيا، والهند، والبرازيل (مجموعة بيركس) يخدم مصالح الشعوب والدول جميعا.

- نظم سياسية تتبناها الاتحادات الجديدة لضبط التوازنات وإدارة الخلافات، ووضع ميثاق عالمى جديد ما يؤسس لسياسة خارجية وعلاقات دولية جديدة.

- نظام اجتماعى لمواجهة المخاطر المشتركة التى تهدد الشعوب وسلامتها، والعبث بالأوطان ومقدراتها، والارتقاء بالشعوب وإشباع الاحتياجات.

- نظام ثقافى جديد وهو ما نشاهده من الصين وروسيا وتغلغلهما ثقافيا فى كل دول العالم.

- نظام قانونى يحترم الاتفاقات والمواثيق والقوانين بين الدول.

- نظام يعمل على التوازنات بين القوى المتعددة من تكتلات ومراكز قوى.

الأسباب التى أدت إلى النظام الدولى الجديد:

- الاندماجات التى تشكلت بالقوة الصلبة (الحروب والسلاح، وسطوة الدول الكبرى على الصغرى، والتوسع الجغرافى بالحروب، والعقوبات الاقتصادية ) لم تعد لها مكان بعد أن لفظها العالم.

- تنامى الدور الشعبى، وأصبح للشعوب الوعى والتطلع للأفضل، والصوت الرافض للاستعمار والهيمنة أعطى زخما عالميا جديدا لا يقبل أن تتسلط عليه دول وتستعمره وتجحف حقه.

- التطلع إلى حقوق الإنسان والعدالة وحياة أفضل.

- عدم قبول المجتمعات باتحادات تفرض عليها لم تحقق آمالها وتطلعاتها.

- عالم يتطلع إلى الاندماج الطوعى والاختيارى بين كيانات وتحالفات فى نظام عالمى جديد وليس اندماجا قسريا.

- عالم يتطلع إلى استغلال ثرواته الطبيعية الطامع فيها الغرب.

- عالم يتطلع إلى نظام عالمى جديد يتغلب فيه على الهيمنة الاقتصادية وعملة القطب الواحد (الدولار).

- عالم جديد يطالب بإعادة النظر فى الشئون الداخلية للدول وأوضاعها السيئة كما الشئون الخارجية.

ختاما:

يتبقى خروج النظام العالمى الجديد للنور بأقطابه المتعددة وتحالفاته الجديدة رهن التكاتف الفعلى لإنهاء الصراعات والنزاعات على مستوى العالم بأكمله، فإن لم يكن هناك التحرك الجاد والفعلى (وهو ما بدأ بالفعل) لدرء الحروب والنزاعات التى يشهدها العالم الآن، يتبقى السؤال: هل تستعين أمريكا بحلفاء جدد لإبقائها قطبا واحدا؟ وهل تعمل أمريكا جاهدة لإبقاء النظام الدولى كما هو عليه؟ أو تسير بالتوازى مع القوى الصاعدة؟ أم تعمل جاهدة فى حال تغير النظام الدولى الحالى لكى تكون فاعلا ولاعبا مع الفاعلين واللاعبين الجدد على المسرح العالمى حتى تكون حاضرة فى إعادة توزيع مراكز القوى العالمية الجديدة؟ هل تتبنى أمريكا سياسيات جديدة وتطور استراتيجيات مستقبلية لمصلحة العالم والدول؟ هذا ما ستسفر عنه الأيام.


رابط دائم: