القارة السمراء تلفظ الاستعمار الجديد .. والانعكاسات تظل قائمة
5-9-2023

كاترين فرج الله
* باحثة دكتوراه فى الاتصال السياسي

صفعة قوية يتلقاها الغرب بلفظ إفريقيا لاستعماره دولة تلو أخرى، فبعد أن انضمت النيجر إلى سلسلة الدول الرافضة لاستعماره بعد أن سبقتها بوركينا فاسو ومالى؛ حيث إنه لم تمض أسابيع على انقلاب النيجر على النظام الموالى للغرب حتى يأتى علينا انقلاب الجابون بالطريقة نفسها، فالنيجر التى نددت برفضها استعمار فرنسا لها، وتقاوم بقوة حتى اللحظة لطرد سفيرها القائم بلا حصانة بعد رفع الحصانة عنه، وسحب الثقة، ومطالبته بمغادرة البلاد. ووصل الأمر فى الآونة الأخيرة إلى اعتصام  شعب النيجر، مطالبين بخروج القوات العسكرية الفرنسية وسفيرها من على أراضيها، بل تصاعد الأمر إلى خروج النساء فى مشهد هو الأول من نوعه؛ حيث كن يحملن أوانى المطبخ ويقرعن عليها، مطالبات فرنسا بالخروج من دولتهن، بل حملن المكانس اليدوية فى إشارة إلى أنهن وصلن إلى عدم القبول وفقدان الثقة والاحترام بكنسهن من على أراضيهم!!

 فأى مشهد هذا الذى يراه العالم من إهانة للغرب بهذه الدرجة؟ وكان عليهم حفظ ماء الوجه والخروج من أراضيهم بصورة تحقق لهم قدرا من الاحترام، لكن العجيب والمدهش أن يستمر التعنت الفرنسى فى البقاء رغم هذه الإهانة غير المسبوقة! ليطالعنا الجانب الفرنسى برفضه الخروج بل تهديدهم بالتدخل العسكرى المباشر إن تضررت مصالح فرنسا الاقتصادية والدبلوماسية، تهديد مباشر وعلنا للاستعمار بالقوة على مرأى ومسمع الدول المنددة بالديمقراطية. لم يكتف الأمر بالاستعمار بالقوة إلى هذا الحد حتى طالعنا السيد جوزيف بوريل ممثل الشئون الخارجية والسياسة الأمنية بالاتحاد الأوروبى ليعلن عن قلق الاتحاد تجاه ما يحدث فى دول غرب إفريقيا؛ لأنها تسبب مشكلة كبيرة لأوروبا، فالتعجب والدهشة أبسط ما يكون من هذا التصريح، بل وصل الأمر إلى قيام الاتحاد الأوروبى بعقد اجتماع الأسبوع الماضى لتباحث هذا الأمر خصوصا؟!

والسؤال للسيد بوريل: هل لم تر وتسمع صيحات الشعب النيجرى برفض الاستعمار ومحاصرة قواتكم وسفيركم الغربى؟ هل لم يصلك زلزال الرفض النيجرى لكم حتى أتى عليك تسونامى انقلاب الجابون؟ ألم يقلقك الوضع الكارثى لديكم (الحرب الروسية الأوكرانية) وهل لم يسبب لكم مشكلة فى أوروبا؟ وله أيضا أقول: عقدتم اجتماعا للاتحاد الأوروبى لبحث الوضع فى غرب إفريقيا بعد الرفض الشعبى لكم رغم أنها مشروعة لشعوب تئن من نهبكم لخيراتهم وسلبكم لحرياتهم، فأى ديمقراطية هذه التى تتشدقون بها؟! وكان عليك عقد الاجتماعات لإنهاء ما هو أخطر الذى سيسحق العالم بأكمله وهى حربكم الكارثية لروسيا بالوكالة، لتفيق بعدها لتتدخل فى شئون شعوب أنهكها استعمارك، فماذا يريد الغرب إذن من تسريع وتيرة الحرب فى دول العالم بأكمله هل إسقاط قطعة الدومينو لتأخذ أمامها كل دول العالم؟ أم يترك الأمور تتفاقم لتأخذ معها الأخضر واليابس لتظل إفريقيا الحديقة الخلفية لكم ولشعوبكم تمرعون فيها متمتعين بخيراتها وثرواتها الطبيعية على حساب أمن شعوب القارة الإفريقية وحريتهم واستقلالهم.

فهل كونكم تواجهون وضعا سيئا أمام العالم بعدم وضع حد لهذه الحرب وبلفظ القارة لكم وخسارتكم لأنظمتكم الحليفة هو ما جعلكم متأهبين هكذا بالخروج بالتصريحات وعقد الاجتماعات وبحث خطط التدخل فى القارة، بل المدهش معكم السيد "لويد استون" وزير الدفاع الأمريكى الذى يشارككم نفس رد الفعل، ويعلن تكاتفه معكم ومع باريس لحل ما يحدث فى غرب القارة، فهل وضعكم ووضع باريس المحرج والمتأزم لهذا الرفض المهين لكم من قبل إفريقيا جعلكم تتصرفون وكأنكم فى جرح الموت؟ هل تعلمون أن كل الاجتماعات والخطط والتصريحات لم تمنع القارة متمثلة فى شعوبها من أن تتحرر منكم بل تكنسكم بمكانسها؟!

ألم يدرك الغرب، الذى يعرف إفريقيا أكثر من الأفارقة أنفسهم، أن العالم لم يعد به الآن مكان للتكتل الواحد بل التكتلات بتنوعاتها والدول تختار منها ما يتماشى مع تطلعاتها ومستقبلها، ولكن للأسف يعرف الغرب جيدا أن القارة لم تستقل فعليا عنهم  منذ خمسينيات القرن الماضى بل تظل مستعمرة لهم اقتصاديا ولم تتحرر من تبعيتهم المالية. وللأسف إذا نظرنا إلى الدول الإفريقية نجد أن دساتير بعض دول القارة كتبها الاستعماريون وفقا لثقافتهم الأوروبية وليست وفقا لسكان الدول الإفريقية وهويتها، وهنا لابد من العمل الفعال والسريع لكى تكون ثقافات الشعوب وعاداتهم الاجتماعية فاعلة فى دساتير القارة الإفريقية، وأن يعمل الاتحاد الإفريقى على مراجعة دساتير القارة لكى تكون وفقا لشعوب القارة، وتبذل دول القارة مزيدا من الجهد العلمى والتكنولوجى للوصول إلى كل شرائح المجتمع الإفريقى، ولا بد من العمل المكثف وتضافر جميع الجهود لوضع خطة محكمة لمواجهة هذه التحديات عن عالم يحافظ فيه الجميع على سياسته، وهويته، وثقافته، وحريته، والعمل على تحرر القارة اقتصاديا.

فعلى الرغم من أن هناك من يرى أن الأزمات السياسية هى أخطر على الدول وأكثر من أى تحد آخر، فإنه يوجد ما هو أخطر من الأزمات السياسية على الدول وهو التأثير فى أفكار النشء والأجيال وهو ما يغربهم عن هويتهم وأوطانهم مما يعمل عليه الغرب بدلا من الحروب المباشرة، ومن ثم ظهرت النزاعات العرقية والطائفية التى أدت إلى الحروب الأهلية بأن يقاتل أبناء الشعب الواحد بعضه بعضا، كما برزت أشكال  الصراع المتنوعة التى نشأ عنها قطيعة داخل الدولة، وبين الدول وبعضها.

 وهى أخطر التحديات التى تؤثر بدورها فى وحدة الدول والنهوض بها حاضرا ومستقبلا على كل الأصعدة بل التأثير فى شعوبها فى وقت أصبحت  فيه الشعوب فى أمس الحاجة إلى الأمن والبحث عن الأمان الأكثر رسوخا، وهذه الأسباب كفيلة بفهم الوضع الدولى بأسره، وخاصة أمن الدول وهو محل إجماع العالم، ويقوم أساسه المتين والوحيد على الاعتراف بمصالح سائر الشعوب والدول والمساواة فيما بينها فى الحياة الدولية، ولا يتحقق ذلك إلا بتغييب الصراع الأيديولوجى، فإذا لم يتم التغلب عليه فإنه يتحول إلى الصراع المباشر والصدام  بين الشعوب والدول، وهو ما يعمل عليه الغرب،  فلابد من أن تكون المصلحة الأسمى للدول هى درء الحروب وحل سائر القضايا الفكرية والخلافية، فهى شروط رئيسية لضمان السلم شريطة الاستثمار فى تأمين فكر النشء والأجيال للحفاظ على سيادة الدول، خاصة بعد أن شهدت الدول فى العقود الأخيرة تغيرات مختلفة إلى أن وصل المجتمع الدولى اليوم إلى حالة من الضبابية.

أسباب لجوء الشعوب الإفريقية للحكم العسكرى:

- تلجأ الشعوب الإفريقية إلى الحكومات العسكرية؛ لأنها تأمل فيها تطبيق  الديمقراطية الحقيقية وتخلصهم من الاستعمار والتبعية للغرب المتمثلة فى  السلطة الفاسدة وأنظمتها الموالية إليه.

- تحقيق طموح الشعوب فى التحكم فى مواردهم الطبيعية وخيراتهم وتحقيق الاستقلال والوحدة الإفريقية.

-  التخلص من الإرهاب؛ حيث يأملون فى حكومات تخلصهم من الإرهاب الذى زرعه الغرب حتى لا يكون الذريعة لبقائهم فى القارة، فلجوء الشعوب للحكم العسكرى يمثل لهم الطمأنينة والملاذ الآمن الذى يخلصهم من غدر الإرهاب، بعد أن تعلموا أن تصويتهم للحكم المدنى واختياره لم يحقق طموحاتهم.

- اختيار قادات عسكرية من جيل الشباب طامحة فى تغيير أحوالهم للأفضل وتحقيق الحرية والأمان للشعوب، فيتضح من مشاهد الضباط الذين قاموا بالانقلابات أنهم من أجيال شابة يتطلعون للتحرر بإتباعهم خطابات معادية للغرب وأطماعه فى الغرب الإفريقى العائم على الثروات مثل النفط، والذهب، واليورانيوم، والمنجنيز. وشاهد العالم البهجة والحفاوة فى تنصيب الجنرال بيرس أولجى الذى أدى اليمين الدستورية كرئيس انتقالى للجابون.

الانعكاسات الغربية تجاه هذا التحرر الإفريقى:

التخوف الغربى أن تكون للقارة دول وأنظمة ومؤسسات وطنية خالصة؛ حيث إنه المقتل الحقيقى للغرب، فهو يريد أنظمة تابعة له تكون فى الشكل إفريقية ولكن فى الخفاء أنظمة تابعة له تنفذ أجندته، ويكون المحرك الرئيسى لها وقتما يشاء، ومن ثم يظل مستعمرا للدول الإفريقية، ولكن بأيدى أبناء القارة أنفسهم. لذا، يعلل الغرب هذه الانقلابات إلى الظروف المهيئة للقارة بسبب الفقر والإرهاب والفساد لإبقائهم فى القارة، وتتلخص الانعكاسات الغربية فى الآتى:

- تأجيج الإرهاب والنزاعات الطائفية أكثر من أى وقت مضى.

- العمل على التأثير فى أفكار الشعوب الإفريقية، فالتأثير فى الفكر هو أخطر من الإبادة؛ لأنه يدمر أجيالا بأكملها، ويعمل على تغريبهم عن مجتمعاتهم وعزلهم، ومن ثم تتحول إلى قنابل موقوتة داخل هذه المجتمعات يستخدمها الغرب وقتما يشاء.

- إقناع الأجيال بالثقافة والفنون الغربية ما يجعلهم يتمردون على أوضاعهم، وقيمهم، وعاداتهم الإفريقية، فالتأثير فى الهوية هو أقوى من الحروب المباشرة بخلق أجيال متمردة على أوضاعها وثقافتها.

- الاعتماد على التطور الهائل فى التكنولوجيا فى المزيد من الغزو الثقافى  للأجيال والنشء لتغريبهم عن واقعهم واستقطابهم ثقافيا بمباركة الشعوب أنفسهم.

- العمل أكثر من أى وقت مضى باستخدام المنظمات المدنية لتشتيت أبناء القارة بين الحفاظ على مصلحة دولهم، أو الانسياق لأغراض الدول الأخرى، فأصبحت السمة الغالبة فى التعامل الدولى هى عدم التوازن فى تحقيق المصالح الخاصة بهم ومصالح بقية الدول. ومن هنا، تكمن العقبات والخطورة، ونتيجة لهذا الوضع السيئ الذى أصاب الدول أصبحت هذه المنظمات خطرا يهدد سيادة الدول واستقلالها.

- المزيد من العقوبات الاقتصادية حتى تستغيث بهم الدول الإفريقية من الفقر والبطالة، ويسفر عنها المزيد من الهجرة وخاصة أجيال الشباب حتى لا تبنى الأوطان.

- تأجيج انقلاب الشعوب على جيوشهم الوطنية لتفتيتها أو تأجيج الجيوش على بعضها بعضا.

- تشجيع فكرة الجيوش الموازية لضرب وإنهاء الجيوش الوطنية التى تحفظ استقرار الدول وسيادتها.

- العمل على تلاشى مفهوم الدولة لتصبح دويلات داخل الدولة الواحدة، وللأسف نجاح الغرب فى السودان بخلق دولة داخل الدولة شجعهم على تنفيذ باقى المخطط بحماس غير مبالين بالشعوب وحريتهم وأمنهم واستقلالهم.

فأين حقوق الإنسان التى تتشدقون بها؟ بعد كل هذا، كان عليكم أن تعملوا بمنظماتكم على تنمية حقيقية لهذه الدول، وقيام دول وطنية خالصة، وعدم التصدي عند وصول قادة وطنيين للسلطة، والعمل على استغلال خيرات القارة لشعوبها التى تئن فقرا وجوعا بسببكم.

سيناريوهات الإصرار الفرنسى على عدم الخروج من النيجر

رغم أن المجلس العسكرى فى النيجر أعطى مهلة للقوات الفرنسية (1500 جندى) الموجودة فى النيجر لمدة شهر، لكن يظل التعنت الفرنسى بعدم الخروج مستمرا، متعللا بأنه أبرم اتفاقية مع السلطة السابقة (محمد بازوم) وعدم اعترافه بالسلطة الحالية (المجلس العسكرى الحاكم) وقراراتها. وبناء عليه، تكون هذه السيناريوهات:

- انسحاب القوات الفرنسية طواعية كما حدث فى مالى وبوركينا فاسو.

- التعنت الفرنسى وعدم خروجه، متعللا بإبرامه اتفاقية مع السلطة السابقة التى يعترف بها حتى الآن؛ حيث إن السلطة الحالية هى غير شرعية بحسب ما صرحوا.

- دخول المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (إيكواس) على خط الوساطة وهنا ستواجه معضلة كبرى؛ حيث إن موقفها من موقف فرنسا بالرفض لما حدث وإعادة الرئيس للبلاد.

- التصعيد الميدانى والمواجهة العسكرية بين الجانبين، ويترتب على هذا السيناريو دخول البلاد فى منعطف خطير لا يحمد عقباه.

- دخول أمريكا مباشرة على خط المواجهة تابعا لها الغرب الطامع ف الثروات.

- دخول دول على خط الوساطة لإنهاء الوضع مثل الصين وروسيا؛ حيث يخططان لمستقبلهما فى القارة.

- دخول الاتحاد الإفريقى لإنهاء الوضع، وكان عليه التحرك السريع، ولماذا ينتظر حتى الآن؟!

أخيرا، مع هذه الانتكاسة الجديدة لاستراتيجية فرنسا والغرب فى إفريقيا هل يتم التعامل مع هذه الانتكاسة بالدبلوماسية أم الصدام المباشر والعقوبات (فسياسة التجويع هى صمتهم حتى ترضخ الشعوب لهم) التى لا تعاقب الشعوب بل تزيدها إصرارا على حريتها، الأمر الذى يؤدى إلى الانزلاق إلى منعطف خطير لا يحمد عقباه..هذا ما ستسفر عنه الأيام؟


رابط دائم: