الإعلام الديني بين رسائل التنوير ودعوات الإقصاء
20-8-2023

مدحت بشاي
* كاتب صحفى

 

أسعدني كمواطن مصري متابعة حلقات النقاش التي دارت حول تفعيل ما جاء في الدستور بشأن إنشاء مفوضية عدم التمييز الديني، وحالة التوافق البديعة حول أهمية وجودها وروعة دورها ..

لاشك أن وجود تلك المفوضية ستساهم في درء تبعات توافر التقنياتالحديثة التي أدت إلى ظهور إعلام شخصي، وإعلام مجموعات، حيث يستطيع أي شخص أو أيه مجموعة أن ينشئ أو تنشئ مدونة أو قناة يوتيوب، ويرسل ما يشاء من صور وفيديوهاتوأفلام .. هذا النوع من "الإعلام" ليس متحرراً من رقابة الحكومات فحسب، بل هو متحرر من المعايير الاجتماعية، والأخلاقية أحياناً، ويتنافس الأفراد والمجموعات على المشاهدين وإعجاباتهم وتعليقاتهم، وتشجع بعض الشركات الكبرى هذا الاتجاه ..

هنالك فضاءات دينية ثلاثة؛ هي فضاء الإيمان الذي في جوهره تساؤل حول الماورائى والحياة والألم والحب ومعنى الوجود، وهذا التساؤل عالمي، حيث المؤمنون في كل الأديان والأزمنة والأمكنة يلتقون في مجالات ومستويات وتعبيرات مختلفة، وفضاء الدين في الحياة العامة، وهو موضوع حقوقي يتعلق بممارسة الشعائر وتعليم الدين وإنشاء أماكن عبادة، أما الفضاء الثالث فهو فضاء السياسة، وهنا ينبغى إدراك أن كل تعبئة وتنافس في الحياة السياسية من قبل رجال دين أو سياسيين، وكل تبرير ديني لعمل سياسي مفخخ دائمًا وملىء بالمحاذير والمخاطر ..

ويبقى أن المأمول من القنوات والإعلام الديني بشكل عام العمل على إبراز حقائق الدين بالرشادة والموعظة الحسنة، والتأكيد على الجوانب الروحية والإيمانية، والتنوير وإعلاء المبادئ التي تدعو إليها الأديان في جوهرها، وعدم المساس بالأديان والعقائد السماوية، وعدم الإساءة إليها على اعتبار وحدة أهداف الأديان  في عموم رسائلها العظيمة ..

وينبغي للإعلام الديني توخي الدقة والتفكير بتدقيق الاختيارات عند التعامل مع التراث الإنساني للأديان لإعلاء القيم والفضائل التي يسعى الدين إلى ترسيخها في النفوس بالدعوة إلى السلوك القويم والتحلي بمكارم الأخلاق والصفات الحميدة والتمسك بقيم الخير والعدالة والحق ..

يقول العالم " فرويد " في نظريته حول " نرجسية الاختلاف " ما يشير إلى أن الاختلافات البينية مهما كانت بسيطة، فإننا نجعل منها مرتكزًا هامًا في التركيبة الإنسانية الشخصية بعكس ما تم التعارف عليه عند أصحاب شعار " مُلاك الحقيقة المطلقة "، وعليه فإن اعترافنا بأهمية الاختلافات وتقدير وجودها ودون بخس حق المختلف لإقامة شكل من التواصل الحميم المفيد والمثمر، هنا فقط تبدو أهمية انضباط عمل الإعلام بشكل عام، والإعلام الديني بشكل خاص لدعم فكرة القبول بالتنوع وإدارة آلياته بموضوعية ومنهجية معتبرة ..

وعليه، فإن توهم إمكانية التوصل لعملية اندماج وطنية دون دعم وجود ثقافة الاختلاف بين كل قوى جماعات الفكر والعمل السياسي كارثة تحيق بعملية السلام الاجتماعي والتوافق الإنساني ..

لابد من التحول من شكل الخطاب الدينى العاطفي والإعجازي والعلاجي، إلى خطاب إنساني واقعي يستوعب احتياجات الناس وهمومهم الملحة والآنية التي من شأنها أن تسهم في إعادة الثقة بالخطاب الديني المطلوب، والارتقاء بمضمون الإعلام الدينى ..

ومن الأهمية بمكان ضرورة تبني الإعلام الديني قضايا وهموم وطموحات الشباب وتوعيته ضد التيارات الهدامة والنزعات المتطرفة، والعبثية المتحللة، والتي يرجع السبب الأساسي فيها إلى عدم الفهم الصحيحلثوابت الأديان وما شابها من ملوثات فكرية وجراثيم دعاة التطرف والغلو المقيت ..

وهنا يذكرنا المفكر الأردني"علي الحافي " بما حدث مع المخرج السينمائي العربي مصطفى العقاد الذي أخرج فيلم الرسالة، والذى يُعدُّ من أعظم الأعمال السينمائية التي تعبر عن المضامين الدينية في الإسلام، والمحزن أن نهاية العقاد كانت مع ضحايا تفجيرات عمان الإرهابية عام 2005، والتي أعلن تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين مسئوليته عنها! وليس من باب المصادفة أن تكون المرجعية الدينية التى يتبعها هؤلاء الغلاة، تحرِّم السينما والفن والرسم والموسيقى والمسرح، وترى فيها رذيلة وانحرافًا عن الدين!

وهو ما تكرر عندما احتشد عدد من كهنة التشدد للتظاهر رفضًا لعرض فيلم " بحب السيما " لأسباب قالوا إنها تتعلق بتشويه الديانة المسيحية والكنيسة المصرية وكهنتها، دون تعيين واقعي لملامح ذلك التشوه، وأخذتهم حمية الغضب لإغفال الكثير من القيم والمفاهيم الرائعة التى تضمنتها الجمل الحوارية من قبل الطفل بطل الفيلم والأب، لقد قدم الفيلم العديد من القيم التربوية والروحية والسياسية والاجتماعية، وهنا كان ينبغى للإعلام الديني المستنير أن يساير ويدعم أهل الإبداع حتى لا يُمنع عرض الفيلم، ولكن للأسف كانت تبعية مؤسسات الإعلام الدينى لذات الفكر قد حالت دون ذلك، وهي مشكلة أخرى ينبغي تناولها..

على الإعلام الديني أن يكون أهم، وجل مشاريعه تتعلق بعمليات بناء الإنسان المواطن الصالح، المحترم لحقوق الإنسان والمناضل من أجل تكريس مفاهيم السعي لتحقيق المواطنة الكاملة، ودعم السلام الاجتماعيوتوطيد أسس العدالة الاجتماعية ورفض التمييز بين الناس، لابد من رفض التوجه الغريب في العمل على تعظيم عقائد أديان ومذاهب عبر الإلحاح على تقزيم وإهانة الأديان والمذاهب الأخرى من خلال عقد مقارنات مثيرة للشارع المصري، الذى بات جاهزًاً للاشتعال السريع بعد تغيير المكون الفطرى للإنسان المصري على مدى الحقب الأخيرة نتيجة هبوب رياح طائفية مقيتة واردة من بلاد الثقافات المتراجعة في زمن فات، وانتشار غباوات تشويه تعاليم ورسائل الأديان ..

دعونا نعود إلى دعوات الرئيس عبد الفتاح السيسي لضرورة تصويب الخطابات الدينية والثقافية والإعلامية، إلى حد إطلاقه الدعوة بضرورة إحداث ثورة ثقافية ..

 


رابط دائم: