فى معركة الوعى.."الدراما" رأس حربة
8-5-2023

رشدى الدقن
* مدير تحرير روزاليوسف

حدد الكاتب والسياسى الأمريكى"جوزيف ناى" الذى شغل مناصب قيادية وسيادية عدة فى وزارتى الدفاع والخارجية الأمريكية ومجلس الاستخبارات الوطنى فى كتابه الشهير "القوة الناعمة"، ثلاثة أعمدة، هى: القيم السياسية، والسياسة الخارجية، والثقافة، والأخيرة فى ظنى يمكن اختصارها الآن فى الدراما والسينما وقوة تأثيرها، من حيث إقناع شعوب ودول بجاذبية دولة ما أو التأثير فيها بتوجيه الرأى العام فيها عبر فيلم أو مسلسل، إضافة إلى أهمية الدراما التى تحمل أفكارا وتطرح قيما للنقاش وتتجرأ على الخوض فى أعراف اكتسبت صفة القدسية، على الرغم من أنها من صنع الإنسان، وهو ما يصب فى النهاية فى خانة "الوعى"؛ فالطرح دون صخب وإجبار المشاهد على التفكير دون شرط فرض الفكرة يساعد من خلال إشراك المشاهد فى عملية إعادة تشكيل وعيه بإجباره على التفكير فيما عدَّه من المسلمات منذ عقود، والمؤكد أن الدراما على رأس تلك العملية، بما تتميز به من جملة العناصر والخصائص السمعية والبصرية وقدرتها على طرح مواضيع مختلفة بأساليب إبداعية مبتكرة، وصناعتها للوعى الاجتماعى وقدرتها على التأثير فى المتلقى وإحداثها لتغييرات على المستويين الفكرى والثقافى له.

قد يكون هذا الاستهلال طويلا بعض الشىء للدخول فى تفاصيل دراما رمضان 2023 والأعمال المتميزة التى قدمتها الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، التى تعمدت التأخير فى الكتابه عنها حتى تهدأ حالات من التشنج تابعتها منذ أول أيام رمضان قبل ما تتضح معالم الأعمال التى قدمت، فما أسرعنا أحيانا فى إزجاء التهم دون تمحيص أو محاولة من جانبنا لفهم أعمال، ربما بذل أصحابها أعمارا لإنجازها، ونستكثر نحن بضع ساعات نقف فيها أمامها وقفة المتأمل المحايد، وليس وقوف الباحث عن احتمال الخطأ المسارع إلى إطلاق الأحكام، وكلها أحكام متشائمة نزعم بها أننا ندين التشاؤم ونندد به!فيقيننا أنه يجب أن نتعلم جميعا كيف نثق أكثر بأنفسنا وببعضنا بعضا، وكيف ننبذ سوء النية والترصد!

وعلى الرغم من التغيرات الجذرية والتحولات الجوهرية التى طرأت على الشخصية المصرية بفعل تقلبات "الوعى" الحادة فإن القاعدة العريضة من المصريين ظلت عاشقة للدراما متيمة بالسينما والدراما التليفزيونية، هذه العلاقة الوثيقة بين المصرى وشاشاته التلفزيونية، لا سيما فى رمضان، دفعت الدولة إلى خوض معركة الوعى بقوة الدراما، وواكبت التطورات على مستوى العالم، من خلال إنتاج المسلسلات القصيرة ذات الإيقاع السريع، كما أصبح معمولا به على مستوى العالم.

وعلينا هنا أن نتوقف طويلا أمام فكرة الإصرار على تقديم مسلسل "يحيى وكنوز" وإذاعتها على رأس الساعة فى الإفطار، فهذا الاختيار قد لا يكون مربحا على مستوى الإعلانات ولكنه اختيار مربح على المدى البعيد لتقديم محتوى هادف لشريحة الأطفال وخطوة مهمة لنشر الوعى وتقديم ما له قيمة حتى لو لم يحقق مكاسب مادية.

وإذا كانت دعوات تجديد الخطاب الدينى وتنقيح المحتوى الثقافى واعتناق أفكار ومفردات تناسب القرن الحادى والعشرين قوبلت بمقاومة عنيفة كامنة، فقد تحول رمضان على مدى العامين الماضيين إلى منصة مساهمة فى معركة الوعى وتجديد الخطاب، وذلك عبر عدد من الأعمال الدرامية التى مزجت بين تجديد الخطاب الدينى وتسليط الضوء على الفرق بين التدين والتطرف والالتزام والتشدد وقبول الاختلاف ورفض الآخر، وفى رأيى أن اعتناق الدولة سلاح الدراما لـ "تصحيح المسار" وقرارها خوض المضمار الذى قوبل برفض مبطن ومقاومة شديدة من البعض،فى محاولة لاستمرار ما عشناه خلال مسلسلات رمضان منذ عدة أعوام، التى حملت فى طياتها قدرا كبيرا من السلبية على مستوى الموضوعات التى غرقت فى براثن العنف والغضب والغيبيات والتهويمات التى تخلط الدم بالصوفية فى سياق مخل، فضلا عن مسلسلات رسخت لقتل الآباء وانتهاك الأمهات وسرقة المليارات، والذهاب بالخيال الواهى إلى داخل قصور فخمة، ومقاعد وثيرة ومخادع مخملية تخاصم أبسط قضايا البسطاء والمعذبين فى الأرض، وعلى جناح العشوائيات وأوكار المخدرات جاءت أعمال أخرى فى تكرار ممل يخاصم جماليات الفن ويصيب الناس بالأذى.

 الآن الواقع يؤكد أن إصرار الدولة على دخول هذا المضمار لتصحيح المسار بشعار المشاركة لا المغالبة - كثير من الشركات الخاصة شاركت فى الإنتاج هذا العام وكان لها أعمال متميزة - هذا الاصرار بدأت تتضح معالمه أكثر وأكثر، ويكفى هنا أن نشير إلى ما أثاره مسلسل "لعبة نيوتن" قبل عامين ونقاشه الذى أثار جدلا واسعا حول الطلاق الشفهى، وتأثيره الصادم فى حياة الطرفين لا سيما المرأة، ثم ناقش مسلسل "فاتن أمل حربى" فى موسم رمضان 2022 قضايا عدة مرتبطة بتداعيات الطلاق على الزوجة فيما يتعلق بحق الأم فى الولاية التعليمية والنفقة، وقبلها العنف الزوجى. وهذا العام استمر النقاش حول قضايا المرأة، والقوانين والأعراف التى تحكم تعامل الأهل والمقربين معها، فشاهدنا فى رمضان 2023 مسلسلين فى السياق نفسه تقريبا، "عملة نادرة" و"ستهم"، والمسلسلان ألقيا الضوء على أزمة الميراث من خلال امرأتين قررتا الدفاع عن حقهما فى ميراث أرض الزوج الراحل بالصعيد. إضافة إلى الأيقونة "تحت الوصاية" الذى كشف عن أزمات مرعبة تعيش فيها سيدات مصريات بسبب القانون الذى مر عليه ما يزيد على مائة عام، وتحركت دوائر كثيرة فى المجتمع منها غرفتا التشريع "النواب والشيوخ" لتعديل القانون، فى إشارة ودليل جديد على أن قوة الدراما تكمن فى الرسائل القوية المقنعة السهلة التى تؤثر فى الرأى العام، التى هى أسرع وأعمق من أى مقالة أو كتاب أو قرار فوقى.

إضافة إلى مسلسل "حضرة العمدة" الذى ناقش قضايا خطيرة تخص المرأة منها ختان الإناث وتأثيره فى الفتاة، فالمرأة المصرية تتقلد منصب العمدة، وتمنع الختان وتقف أمام زواج القاصرات بعلو صوتها، تطبق القانون لحماية الصغار والكبار.

دراما رمضان 2023 ظهرت فيها أيضا أحياء القاهرة القديمة والتاريخية بشكل "لافت"؛ حيث استعان بها صُناع الدراما داخل سياقات أعمالهم المكانية والتاريخية، وتم تسليط الضوء على ملامحها التراثية الجمالية، وطلت علينا مدينة الفسطاط كخلفية لأحداث مسلسل "رسالة الإمام"، وهى المدينة التى استقر بها الإمام الشافعى فى مصر، وتعد أقدم العواصم الإسلامية، واستعان المسلسل بالديكور لبناء معالم مدينة الفسطاط فى الزمن التاريخى الذى تدور فيه أحداث المسلسل، بما فى ذلك البيوت والدكاكين والأسواق والحمامات، ومن بين العبارات التى ارتبطت بالمسلسل، ترحيب أهل المدينة المصرية بالإمام الشافعي، فيرد بقوله: "الفسطاط منورة بأهلها".

وفى مسلسل "جعفر العمدة"، تدور أحداث المسلسل الرئيسية فى حى السيدة زينب بالقاهرة، الذى لا يظهر فى المسلسل كمكان للأحداث وحسب، بقدر ما يحمل مكانة على لسان البطل الذى يقول فى واحدة من حلقات المسلسل "السيدة زينب أحلى من التجمع"، وذلك فى إشارة لتفضيل البطل، المقتدر ماليا، العيش فى السيدة زينب "الشعبى"، على الرغم من قدرته على العيش فى منطقة "التجمع" الراقية، فضلا على  ظهور الحى الشعبى بشكل "لافت" فى مسلسل "وعود سخية" للفنانة حنان مطاوع، ورغم قدرة أبطال العمل المادية فإنهم أصروا على البقاء والعيش فى حى شعبى بسيط، كما لفت مسلسل "سوق الكانتو" للفنان أمير كرارة الانتباه إلى أماكن أثرية بمنطقة المعز التاريخية فى القاهرة.

السباق الرمضانى 2023، شهد أيضا عودة قوية للدراما الدينية من خلال تقديم سيرة الإمام محمد بن إدريس الشافعى، وذلك بعد غياب كبير عن تقديم السيرة الذاتية، وكان الهدف الواضح الذى تحقق بشكل كبير هو إفادة الجيل الصاعد لمعرفة تاريخ أشخاص عظماء؛ فمعظم الشباب لا يعرفون من هو الإمام الشافعى، مؤكدا بأن طريقة تقديمه سوف تقود إلى تعاظم مشاهدته.

"الخلاصة"، لم تعد الدراما  فى مصر أو العالم وسيلة ترفيه وحسب، وإنما باتت واحدة من أهم أدوات القوة الناعمة المعبرة عن أفكار وتوجهات ووجهات نظر الحكومات والنظم السياسية فى العديد من بلدان العالم، بهدف تعزيز روح الانتماء، وتسليط الضوء على قضية ما بشكل إنسانى، وحشد الجماهير لتبنى وجهة نظر فى مواجهة عدوها الخارجى، وكذا دعم الهوية، وإثراء روح الاعتزاز بالانتماء الوطنى، وصناعة الوعى الاجتماعى، وتسليط الضوء على بطولات أبناء الوطن فى الميادين المختلفة، فضلا عن تحولها إلى واحدة من أهم مصادر الدخل القومى فى بعض البلدان، بعد أن أصبحت هذه الصناعة رقما مهما فى المعادلة الاقتصادية.

 


رابط دائم: