القوى الناعمة.. سلاح القرن دفاعا وهجوما
30-4-2023

مها محسن سليمان
* باحثة في علوم الإدارة والإعلام

القوة الناعمة مفهوم صاغه جوزيف ناى من جامعة هارفارد لوصف القدرة على الجذب والضم دون الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع؛ إذ قال جوزيف إنه مع القوة الناعمة "أفضل الدعايات ليست دعاية"، موضحا أنه وفى عصر المعلومات، تعد "المصداقية أندر الموارد".

كما تعنى القوة الناعمة أن يكون للدولة قوة روحية ومعنوية من خلال ما تجسده من أفكار ومبادئ وأخلاق، ومن خلال الدعم فى مجالات حقوق الإنسان والبنية التحتية والثقافة والفن، ما يؤدى بالآخرين إلى احترام هذا الأسلوب والإعجاب به ثم اتباع مصادره.

فقد صدر فى العاصمة البريطانية لندنفى فبراير الماضى مؤشر القوة الناعمة العالمى لعام 2023، حيث تم إعلان نتائج التقرير الدولى الذى تعده مؤسسة "براند فاينانس" بالتعاون مع جامعة أكسفورد،وهى مؤسسة تعمل فى مجال تقديم الاستشارات وتقييم العلامات التجارية لمختلف دول العالم، ومقرها فى لندن وتوجد بأكثر من 20 دولة، ويحضر القمة العالمية للقوة الناعمة -التى تقام سنويا- عدد كبير من الصفوة المختارة من المسئولين الدوليين والحكوميين والدبلوماسيين والإعلاميين والمختصين فى قطاعات الأعمال والاقتصاد والثقافة والعمل الدبلوماسى بما لا يقل عن 500 مدعو.

وتقوم المؤسسة منذ 20 عاما بتقييم ما لا يقل عن أكبر 5000 آلاف شركة ومؤسسة وهيئة فى العالملإقرار مؤشر الدول الأكثر تأثيرا عن طريق القوى الناعمة خاصتها، وتعلن فى صدر صفحتها الرئيسية على الإنترنت أنه "كلما كانت القوة الناعمة للأمة أقوى، زادت قدرتها على جذب الاستثمار وتسويق منتجاتها وخدماتها"، وأن القوة الناعمة تعنى قدرة الدولة على التأثير فى مختلف الفاعلين الدوليين (الدول – الشركات – المجتمعات – الأشخاص) من خلال الجذب والإقناع بدلا من اللجوء للإكراه وأدوات القوة التقليدية.

وتتناول منصاتها الإعلامية مناقشات على مدار الساعة تتنوع فى موضوعاتها ذات الصلة، فتجد مثلا نقاشات حول "دور الاستدامة فى تطور القوة الناعمة" و"دور الرياضة فى تطور القوة الناعمة"، وما إلى ذلك، بالشكل الذى يوحى لك بأن هذا الموقع هو الأب الروحى لكل صانعى القوى الناعمة فى العالم.

ويتم تقييم الدول المشمولة بالتقرير السنوى، الحائز على اعتماد "الأيزو" العالمى، وفق عشرة معايير رئيسية هى: التأثير العالمى الملحوظ للدولة، وسمعة الدولة، والمعرفة العامة بالدولة، والأعمال والتجارة فيها، والثقافة والتراث، والتعليم والعلوم، والحوكمة، والعلاقات الدولية، والإعلام والاتصال، والشعوب والقيم.

وحظى عنصر التأثير العالمى بالحصة الكبرى فى تقييم كل دولة بواقع 30% من إجمالى القوة الناعمة، فيما نال معيارا سمعة الدولة والمعرفة العامة بها نسبة 10% من التقييم لكل منهما، وتوزعت الـ 50 % الأخرى على باقى المعايير.

وقد حلت دولة الإمارات فى المركز الأول عربيا والعاشر عالميا فى معيارى التأثير العالمى والعلاقات الدولية من وجهة نظر جمهور مُؤلَّف من 55 ألف شخص شاركوا فى دراسات إعداد "التقرير العالمى لمؤشر القوة الناعمة 2023" الصادر فى الآونة الأخيرة خلال أعمال القمة العالمية للقوة الناعمة.

كما حلت السعودية فى المرتبة الـ19، وتركيا فى المرتبة الـ23، وقطر فى المرتبة الـ24، وإسرائيل فى المرتبة الـ27، والبرازيل فى المرتبة الـ31،والكويت فى المرتبة الـ35، ومصر فى المرتبة الـ38والخامسة عربيا،ولبنان فى المرتبة الـ46، وهو الأمر الذى يؤكد أن القوة الناعمة ليست بالضرورة قوة أخلاقية، فهى مفهوم يعتريه الكثير من المرواغة، بل هى قوة إيديولوجية ما سواء خير أو شر أو ما بينهما من اللون الرمادى.

وقد صرحت مؤسسة براند فاينانس أن القاهرة تقدمت 14 مركزا فى مؤشر جودة التعليم الصادر عن دراسة 78مؤسسة تعليمية وبحثية مصرية، كما تقدمت مصر 38 مركزا فى مؤشر الدول الأكثر أمانا، ولاسيما بعد اختيار القاهرة مقرا لمنظمة منتدى غاز شرق المتوسط، كما حصلت مصر للعالم الثالث على التوالى على جائزة الدولة ذات التراث الأكثر ثراء فى العالم، حسب تقييم المؤشر خلال أعوام 2020 و2021 و2022.

كما أشار التقرير إلى احتلال مصر المرتبة الأولى عربيا وإفريقيا من حيث عدد الجامعات المدرجة بتصنيف تايمز البريطانى، بإدراجها 23 جامعة إضافية خلال الـ 8 سنوات الأخيرة، حيث تم إدراج 26 جامعة بالتصنيف عام 2023، مقابل 3 جامعات عام 2016

وهو الأمر الذى يجعلنا فى حيز من المشاعر المتضاربة بين فرحة الوصول إلى مراكز متقدمة مقارنة بالأعوام الماضية بعد فترة تعثر طويلة، ومكانتها التى تستحقها عربيا بل دوليا بالنظر إلى كل المقومات التى تمتلكها على كل الأصعدة الثقافية والحضارية والتاريخية والفنية، ولا يحسن استغلالها أو تسويقها.

إلا أن تلك الأدوات كقوى ناعمة ما تزال فى إطار كونها أدوات منفردة ضمن عشرات الأدوات الأخرى التى يمكنها أن تتقدم مشهد القوى الناعمة المصرية إزاء كل الأزمات التى تتعرض لها بين الحين والآخر، بل يمكن الجزم بالقول إنها يمكنها أن تكون وسائل هجوم مبكر لا فقط وسائل دفاع، وأداة غاية فى الأهمية لتسويق الذات للآخر بمنتج قوى يستحق الخروج للنور والتحليق فى السماءالفسيحة لقوى التأثيرات.

فمصر وبدون أدنى شبهة مبالغة تمتلك كل المقومات التى تؤهلها لاعتلاء منصة مصاف الدول ذات التأثير الدولى، بعناصر قوتها وباختلاف أنشطتها، على جميع المستويات الطبية والبحثية والرياضية والفنية والحضارية والتراثية والسياحية والدينية..، وهو ما يمكن تنظيمه وصياغته فى إطار استراتيجى وفق خطة للدولة تتبناها فى إطار ما يُعرف فى علوم الإدارة الحديثة باسم العلامة التجارية للدولة Brandingأو الصورة الذهنية المأخوذة عنها Stereotype، تماما كما يتبادر إلى ذهنك صورة ناطحات السماء حينما يذكر اسم مدينة دبى، أو الماكينات أو السيارات حينما يذكر اسم ألمانيا، أو النظام والنظافة حينما يذكر اسم اليابان.

الفرص لا تنتهى بمقومات دولة بحجم وقدر وقيمة مصر، والعالم متعطش للتفرد والتميز والأفكار المبتكرة وهى صفات لصيقة بطبيعة الدولة المصرية، وبشكل خاص فى العصر الحالى الذى تتحول فيه كل مفردات المجتمع إلى خاصية التحول الرقمى ورقمنة كل الخدمات الحكومية المقدمة من ناحية، وإحداث طفرات على مستوى كل الصناعات من ناحية ثانية، والوصول بمستوى المنتج الفنى والرياضى والسياحى إلى العالمية، ولا سيما مع وجود فرص ذهبية كقرب نقل الحكومة والعاملين بها إلى العاصمة الإدارية الجديدة، وإعلان قرب افتتاح المتحف المصرى الكبير، وترشح الدكتور/ خالد عنانى- وزير السياحة والآثار السابق، لمنصب أمين عام منظمة اليونسكو.

وهى أمور تجعل الطريق ممهدا أمام الدولة المصرية للقفز بخطوات لمكانة متقدمة فى مؤشر القوى الناعمة وغيره، حيث لا يمكن أيضا الاعتماد عليه أو الارتكان إليه بوصفه نموذجا يعكس بكامل موضوعية أو شفافية قدر الدول أو حجم تأثيرها، فهو فى نهاية المطاف يقوم بتقييم أداء شركات ومؤسسات وحجم تأثيرها وفق تقييمات خبراء ومتخصصين قد لا يمكن التعويل على مصداقيتها بشكل كبير، ولكن يظل الهدف والغاية قائمين من باب إحقاق الحقوق وإثبات قدر الدولة بإمكاناتها المتعددة والمتنوعة والمتفردة.


رابط دائم: