الولايات المتحدة والأزمة الليبية.. كيف تغيرت المواقف مع تعـاقب الإدارات؟
18-8-2022

خالد خميس السحاتي
* كاتب وباحث ليبي

كان الموقف الأمريكي في بدايات الحراك الثوري في ليبيا أكثر ارتباكا مما اتصف به الأساس الفكري أو الاستراتيجي الذي استند إليه، ما عُرف بمبدأ أوباما للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. فالتدخل الأمريكي في ليبيا جاء ترجمة لما احتوته الرؤية الاستراتيجية للأمن القومي الصادرة عام 2010، التي انطلقت من إمكانية وأهمية العمل على تحقيق المصالح الأمريكية من خلال الوسيلة الدبلوماسية، وهذا الموقف وفقا للمنظور الواقعي أكثر ارتباطا بالنفط والغاز والمصالح الأمريكية من تعبيره عن القيم والمثل المتصلة بدعم الثورة أو الديمقراطية(1).

وإذا ما كان قرار الانكفاء عن ليبيا قد صدر عن إدارة الرئيس أوباما، فإن الرئيس ترامب، بحكم تمسكه بسياسة سحب بلاده من حروب الآخرين في العالم، وفق وعوده الانتخابية، لم يُبد هو الآخر اهتماما لافتا بالشأن الليبي، وبقي موقف واشنطن وسطيا، من خلال التواصل مع مختلف أطراف الصراع في هذا البـلـد(2).

ومع وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، اتجه نحو رسم استراتيجية جديدة للتعامل مع الملف الليبي، حيث طلبت الولايات المتحدة (28 يناير2021) "من تركيا وروسيا الشروع فورا في سحب قواتهما" من ليبيا، بما يشمل القوات العسكرية والمرتزقة، في موقف حازم لإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن(3).

دوافـعُ عــودة الاهتمام الأمريكي بالأزمـة الليبية:(4)

1- تصاعـد الدور الروسي: تدرك واشنطن مخاطر الانخراط الروسي بشكل أكبر في الشرق الأوسط على مصالحها فيه، حيث تواترت تقارير أمريكية حول انخراط مقاتلين روس في الصراع الليبي، حتى إن الخارجية الأمريكية أصدرت بيانا طالبت فيه بضرورة وقف التدخل الروسي، واعتبرت أن "موسكو تحاول استخدام الصراع الداخلي في البلاد لمصالحها، خلافا لإرادة الشعب الليبي"، ما نفته موسكو.  

2- تزايد المخاطر الأمنية: بسبب تزايد خطر تنظيم "داعش"، الذي كان يعتبر ليبيا وجهته المفضلة من أجل إعادة التمركز فيها، وهو ما يعزز من ضرورة قيام الولايات المتحدة بلعب دور أكثر فاعلية من أجل دحر التنظيم، وعدم منحه الفرصة بإعادة ترتيب أوضاعه من جديد بما يهدد المصالح الأمريكية في المنطقة. 

3- عـوائد اقتصادية: تدرك واشنطن المطامع الأوروبية المنحصرة بشكل أساسي في إيطاليا وفرنسا، وكذلك الرغبة الروسية في الاستفادة من الثروة النفطية الليبية الهائلة. ففي ظل تقديرات "أوبـك" فإن احتياطات النفط الليبي تقدر بنحو 48 مليار برميل، ما يجعلها الأكبر أفريقيا. وتحتل ليبيا المركز الخامس عالميا في احتياطيات النفط الصخري، كما ترتفعُ لديها احتياطيَّات الغــاز(5).     

وبعد انتخاب عبد الحميد دبيبة، في 5 فبراير 2021، رئيساً للوزراء للفترة الانتقالية في ليبيا، وفوز محمد المنفي برئاسة المجلس الرئاسي، وذلك من قِبَلِ المُشاركين في الحوار بين الفُرقاء الليبيين في سويسرا برعاية الأمم المتحدة،أكد سفير الولايات المتحدة لدى ليبيا، ريتشارد نورلاند(*)، دعم واشنطن للمجلس الرئاسي والحكومة الجديدة لتأدية مهامِّها.مؤكدا أن: "تفاعلا أكثر قادما من واشنطن"، مُضيفا: "أن على القادة القادمين والمغادرين الالتزام بمُستقبل ليبيا السلمي". كما شجع نورلاند، رئيس الوزراء المنتخب عبدالحميد دبيبة على "تحديد فريق حكومي مصغر وكفء وتكنوقراطي يمكنه أن يحظى بسرعة بثقة مجلس النواب"(6).

 تحركـات الإدارة الأمريكية في سيـاق الأزمة الليبية:

تتحرك الإدارة الأمريكية في سياق الأزمة الليبية عبر مسارات سياسية وعسكرية ودبلومـاسية.فمن الناحية العسكرية، ترعى القوات الأمريكية العاملة في إفريقيا "أفريكوم"، مباحثات اللجنة العسكرية (5+5)، وأمَّنت مطار معيتيقة الذي عُقدت فيه اللجنة آخر اجتماعاتها، كما أطلقت تحذيراتها للميليشيات المسيطرة على غرب البلاد بعدم تحريك أية آليات عسكرية تابعة لها تنفيذا لقرار وقف إطلاق النار، وكذلك فإنها ستتابع عملية خروج القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا، حيث اعتبرت المتحدثة باسم “الأفريكوم” أن: الحل السياسي هو الطريق إلى الأمام في ليبيا، مؤكدة دعم القيادة للجهود الدبلوماسية لوزارة الخارجية الأميركية وسفيرها في طرابلس نورلاند بهدف ضمان إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية".مشيرة إلى أن: "مجموعة فاجنر الروسية تورطت في انتهاكات وعمليات تهدد السلام، والأمن، والاستقرار".

وسياسيا، تلقي الإدارة الأميركية بثقلها في رعاية كل المباحثات السياسية، حتى أصبحت شريكا للأمم المتحدة في رعاية كل المفاوضات السياسية الرامية إلى الوصول إلى الانتخابات البرلمانية والرئاسية.

ودبلوماسيا، تستثمر أمريكا علاقاتها بحلفائها التقليديين في المنطقة، خاصة دول الجوار الليبي، وعلى رأسها مصر وتونس من أجل توحيد وجهة نظر شاملة نحو عدم انزلاق ليبيا مجددا إلى الحروب والاقتتال الداخلي، وتنتهج نفس السياسة تجاه دول الاتحاد الأوروبي(7).

 أبرز ملامح الموقف الأمريكي من التطورات الحالية للأزمة الليبية:

- أكد المبعوث الأمريكي الخاص إلى ليبيا ريتشارد نورلاند، خلال زيارة لطرابلس(20 ديسمبر 2021)، أنه: "لا عوائق فنية أمام إجراء الانتخابات الليبية في موعدها، ولكن العقبات "سياسية وقانونية".مشيرا إلى أن: "الحـكـومــة الأمريكيـة تــدعـــم العملية الانتخـابيـة بكــل ما تستطيـع لتسير ليبيا نحـــو الانتخــــابـــات". مؤكدا أن: أي شخص أو جهة قد تلوح باستخدام العنف أو أية طريقة من الطرق العنيفة التي قد توثر فى نجاح الانتخابات أو سيرها بالشكل الصحيح هم بلا شك "عرضة لعقوبات ليس فقط من الولايات المتحدة، بل أيضا من المجتمع الدولي"(8). كما هـدد مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، بمحاسبة أي طرف يسعى لتقويض خريطة الطريق التي وضعها الشعب الليبي، مطالبا بضرورة إخراج المرتزقة من البلاد لدعم المسار السياسي. مشيرا إلى أن "الشعب الليبيَّ يسْتحقُّ استعادة سيادة بــلاده"(9).

- وكان منْ أبرز التَّطوُّرات اللافتة للنَّظر في الموقف الأمريكيِّ من الأزمة الليبيَّة الدَّعْوةُ إلى إجراء الانتخابات في ظلِّ وُجُود حُكُومتين في البلاد، حسب قول "نورلاند" السَّفير الأمريكي في ليبيا(يونيو 2022)، مُضيفاً: أنَّهُ يُمْكنُ للفصائل المُتفرِّقة أنْ تقُـود مناطق سيطرتها بشكلٍ مُنفصلٍ نحو الانتخابات.وهْو موقفٌ رفضهُ مجلسُ النُّوَّاب؛ لأنَّهُ يُعمِّقُ الأزمة، ويُشجِّعُ الأطراف الخارجة على القانُون أنْ تستمرَّ في غيِّها، بحسب بيان البرلمان(10). وفي هذا السِّياق، قال بيانٌ لأعضاء المجلس الأعلى للدولة الدَّاعمين لحُكُومة باشاغا:"نستغربُ مـا جـاء فـي تصريحات السفير الأمريكي، ونُؤكِّدُ رفضنا التَّدخُّل في كيفيَّة وآليَّة إجراء الانتخابات رفضاً قـاطعــاً"(11).

-وفي 28 يوليو الماضي، زار المبعوث الأمريكي الخاص والسفير لدى ليبيا، ريتشارد نورلاند، طرابلس اليوم، وتحدث مع عدد من المسئولين حول أهمية الحفاظ على الاستقرار والأمن في ضوء الاشتباكات الأخيرة التي أسفرت عن مقتل 16 ليبيًا. وشدد السفير على أهمية وضع اللمسات الخيرة على التوافق على قاعدة دستورية للانتخابات الرئاسية والبرلمانية، كخطوة حيوية لإرساء الشرعية الكاملة للحكومة الليبية.وقال نورلاند: "تواصل الولايات المتحدة دعم الغالبية العظمى من الليبيين الذين يتوقعون انتخابات، ويطالبون بمحاسبة قادتهم. لحسن الحظ، تجنبت ليبيا صراعًا أوسع نطاقًا بعد الاشتباكات المسلحة في طرابلس ومصراتة. الوضع الحالي بات لا يُحتمل. وكل يوم يمرّ بدون اتفاقات بشأن الحكم الفعال وإجراء انتخابات يشكل تهديدًا لأمن الليبيين وسلامتهم"(12).

الخلاصة:

من خلال ما تقدم يمكن القول إن الزخم الأمريكي بالشأن الليبي عاد مع قدوم إدارة الرئيس "بايدن"، وهو ما تجلى في تسمية السفير الأمريكي إلى ليبيا نورلاند سفيرا ومبعوثا خاصا للرئيس الأمريكي في مايو 2021، وجعل الملف الليبي على رأس اهتمامات هذه الإدارة، ودخولها -بشكل واضح- بثقلها في مسارات تسوية الأزمة الليبية، فمن المعلوم أن الإدارات الأمريكية السابقة كانت تتخذ مواقف توصف بأنها "أقل انخراطا"، أو "حيادا نشطا"، بينما اتخذت إدارة بايدن موقفا مختلفا، يقوم على ضرورة أن تلعب الولايات المتحدة دورا مؤثرا ومباشرا في الأزمة الليبية، يرتكزُ على تحجيم الدور الروسي البارز في هذا الملف، وهُو ما يتضحُ من النشاط الأمريكي من خلال البعثة الأممية للدعم في ليبيا، و"الأفريكوم"، والنشاط الدبلوماسي الواضح للسفير نورلاند في ليبيا ومُحيطها الإقليميِّ.

 الهـوامـش:

[1]انظر: يوسف محمد الصواني، "الولايات المتحدة وليبيا: تناقضات التدخل ومستقبل الكيان الليبي"، مجلة: المستقبل العربي، بيروت، العـدد: 431، يناير 2015، ص ص12-14.

2محمد قواص، "الصراع الأمريكي الروسي الجديد حول ليبيا: الديناميات والتداعيات"، موقع: مركز الإمارات للسياسات، بتاريخ: 7 يونيو 2020، على الرابط المختصر التالي: https://cutt.us/4Ud1H

3"إدارة بايدن تطالب بسحب فوري للقوات الروسية والتركية من ليبيا"،dw، 28 يناير 2021، https://cutt.us/IwY7h

4للمزيد انظر: أحمد عبدالعليم حسن، "حدود الدور الأمريكي والروسي تجاه ليبيا"، مجلة: رؤى مصرية، القاهرة، مركز الأهرام للدراسات الاجتماعية والتاريخية، العــدد: 62، مـارس 2020، ص ص16-17.

5انظر: حنان أبو سكين، "تناقضات الموقف الأمريكي تجاه الأزمة الليبية"، مجلة: السياسة الدولية، العدد: 220، أبريل 2020، ص106. وكذلك: محمد ضياء الدين محمد أحمداي، السياسة الأمريكية تجاه ثورات الربيع العربي: دراسة حالتي مصر وليبيا 2011-2017، رسالة دكتوراه، الخرطوم: جامعة النيلين، 2018، ص ص145-155. وخالد خميس السحاتي، "دورُ القـوى الكُبرى في الأزمة الليبية: تناقُضُ الرُّؤى واختلافُ المصالح"، متابعات أفريقية، الرياض، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات، العدد:12، أبريل 2021، ص ص46-51.

(*)في 12 مايو 2021، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية عن تعيين السفير نورلاند مبعوثًا خاصًا للولايات المتحدة إلى ليبيا للعمل في نفس الوقت كسفير للولايات المتحدة في ليبيا. وصادق مجلس الشيوخ في: 1 أغسطس 2019 على تعيين السفير نورلاند في هذا المنصب. ولد السفير نورلاند في المغرب، حيث تمّ تعيين والداه في أول مهمّة دبلوماسية لهما. وقبل التحاقه بالسلك الدبلوماسي عام 1980، عمل كمحلل تشريعي في مجلس النواب بولاية أيوا. وتخرج من كلية الخدمة الخارجية بجامعة جورج تاون، وحصل على شهادة الماجستير من كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز والكلية الحربية الوطنية.نقلا عن: موقع السفارة الأمريكية في ليبيا، 12 مايو 2022، https://cutt.us/OuLFV

6"الولايات المتحدة تؤكد دعمها للمجلس الرئاسي الليبي والحكومة الجديدة"، موقع: روسيا اليوم، بتاريخ: 12 فبراير 2021، متاح عـلى الرابــط المُختصــر التـــالي: https://ar.rt.com/prd2

7"صدارة أولوياتها".. سر تحول موقف أميركا في ليبيا"، سكاي نيوز عربية، 7 أكتوبر 2021، https://cutt.us/2GJcW  وكذلك: الأفريكوم: نواصل دعم وقف إطلاق النار وانسحاب المرتزقة من ليبيا"، عين ليبيا، 20 يناير 2022، https://cutt.us/B158b

8وليد عبد الله، "المبعوث الأمريكي الخاص إلى ليبيا ريتشارد نورلاند: لا عوائق فنية أمام إجراء الانتخابات"، بتاريخ: 20 ديسمبر 2021، على الرابط المختصر التالي: https://cutt.us/R1HEx

9حسن الرشيدي، "لماذا تراهن أمريكا على الانتخابات الليبية؟"، موقع: البيان،30 مارس 2021، على الرابط التالي:  https://www.albayan.co.uk/Article2.aspx?id=13439

10 حسام أبو العلا، "البرلمان الليبي يرفض التدخل الأمريكي في آلية إجراء الانتخابات"، موقع: اليوم، 1 يوليو 2022،https://cutt.us/mUyL5

11معتز السلامي، "تمس السيادة: رفض ليبي لتصريحات سفير أمريكا حول "الانتخابات والنفط"، بوابة العين الإخبارية،30 يونيو 2022، متاح عـلى الرابط التـالي: https://cutt.us/5D1Ga

12 "زيارة السفير نورلاند لطرابلس لبحث الأمن والاستقرار وإعادة التركيز على الانتخابات"، موقع: سفارة الولايات المتحدة في ليبيا، 28 يوليو 2022، على الرابط التالي: https://cutt.us/oPI3f

 


رابط دائم: