الفاعلية العربية في عالم متغير: قمة جدة ومصير النظام العالمي الجديد
4-7-2022

وليد عتلم
* باحث دكتوراه ـــ كلية الدراسات الأفريقية العليا

شهدت العواصم العربية حراكاً مكثفا على مستوى تبادل العلاقات والزيارات الثنائية والثلاثية بين قادة وملوك وأمراء الدول العربية. كانت القاهرة والرياض حجرا الزاوية في ذلك الحراك تمهيداً لقمة جدة فى منتصف الشهر الجاري مع الرئيس الأمريكى جو بايدن، التي سوف تشمل ٩ دول عربية، قادة مجلس التعاون الخليجى الست (السعودية، والإمارات، والبحرين، والكويت، وقطر، وعُمان)، ومعهم (مصر، والعراق، والأردن)، وفي ضوء الإرهاصات المتزايدة باتجاه النظام الدولي نحو التحولمن الهيمنة الأمريكية إلى التعددية القطبية؛ ما بعد أزمة كوفيد 19 والحرب الروسية الأوكرانية، وما ترتب عليهما من تبعات وأزمة اقتصادية عالمية، حيث التكهنات حول نظام عالمى جديد، والتغيير الذى سيحدث فيه لا ينقطع منذ بدء التدخل العسكرى الروسى ضد أوكرانيا فى 24 فبراير 2022، ومن قبله تأثيرات أزمة كوفيد 19 على النظام الدولي والاقتصاد العالمي، إذ إن الأوبئة لا تقل تأثيراً عن الحروب والأزمات الاقتصادية في إحداث تغيرات في النظام العالمي.

هنا، يثور التساؤل حول موقع المنطقة العربية من كل هذه التغيرات العالمية المتلاحقة؟ ما يجعل من زيارة الرئيس الأمريكى بايدن للمنطقة فى الشهر المقبل، أمر ذا دلالة.

الانتقال من أطر التبعية إلى استقلال الدور:

ظلت المنطقة العربية محكومة لعقود طويلة وخاضعة لمقولات ومفاهيم نظرية التبعية؛ حيث إن تحدي مواجهة التبعية من أبرز التحديات التي أعاقت الفاعلية العربية مجتمعة في إطار وحدة مصالح الإقليم والتوافق العربي الإقليمي حول القضايا والمصالح العربية. في إطار الظرف الدولي الراهن، تسعى الدول العربية للتحرر من علاقات التبعية المتراكمة عبر عقود طويلة. فمن الجانب العملي والواقعي نجد أن علاقات التبعية الراهنة اقترنت بالمستجدات التي طرأت على النظام الدولي العالمي ما بعد الحرب العالمية الثانية، ثم بداية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، غير أن تلك العلاقات أخذت في التصدع مع توالي الأزمات الاقتصادية والوبائية التي تعاني منها العولمة، وهي الركيزة الأساسية لنظام القطبية الأحادية.

واستناداً إلى "جندر فرانك" فالتخلف المعاصر للدول النامية ودول العالم الثالث؛ هو في -جزء كبير منه- نتاج لعلاقات التبعية المستقرة في علاقات النظام الدولي. وذلك في سياق نظام عالمي تهيمن عليه الدول الغربية، جعل من الدول المتراجعة تدور في فلك الدول الرأسمالية الأكثر تقدماً. لذلك في ضوء التراجع النسبي للفاعلية الأمريكية مع نهاية ولاية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. ومع استمرار هذا التراجع مع إدارة بايدن بل واستقراره، بدت الفرصة مواتية أمام المجموعة العربية بقيادة مصرية -–سعودية لخلخلة علاقات التبعية ولو جزئياً، وهو ما يفسره هولستي Holstiبسمات وخصائص الدور؛ حيث  الدور ليس مجرد تصور لدى صانع السياسة الخارجية، بل يرتبط بالممارسة العملية أيضا، والذي يشمل تصور صانعى السياسة الخارجية لمختلف الأدوار التي يقوم بها الفاعلون الآخرون في الساحة الدولية والإقليمية، حيث يمكن للدولة أن تلعب أكثر من دور واحد في نفس التوقيت، وترتبط فاعلية هذا الدور بمدى وحجم تأثيرها بالمستوى الذي توجد فيه، إقليميا وعالميا، ومدى درجة الانخراط في الشئون الدولية والإقليمية، كما يرتبط اهتمام الدولة بالدور الخارجي بأمنها القومي بالمعنى الشامل.

هنا تصبح الحاجة ملحة لدور عربي أكثر فاعلية وأكثر استقلالاً، خاصة في ظل تعارض المصالح الإقليمية وتقاطعاتها مع فاعلين آخرين في المنطقة.

محددات الفاعلية وحدود الدور العربي:

من أبرز محددات الفاعلية العربية الآن هو السعي العقلاني للمصالح العربية المشتركة؛ النظريات العقلانية تُفسِّر ظهور عناصر النظام الدولي ونجاحها كنتيجة لجهود التنسيق الواعية وتضع الدول عمدًا آليات النظام لتحقيق مصالح مشتركة محددة، وأهداف قد لا يكون من المرجح لهذه الدول تحقيقها بكفاءة، أو على الإطلاق، في ظل غياب المترابط، تتداخل مصالح الدول بشكل طبيعي؛ حيث يتمخض عن المُقَدّرات المتشابكة والمشتركة الحاجة إلى آليات لوضع النظام. ولكن نظرًا لأن مثل هذه العقبات كانعدام الثقة والتخوُّف من المكتسبات النسبية يمكن أن تعرقل قدرة الدول على تحقيق مصالحها المشتركة، فإن الدول تعمل على وضع قواعد ومعايير وأعراف لتسهيل التعاون، وهو ما يتجسد بجلاء في تعدد مستويات التنسيق والتعاون العربي المشترك.

سوف تتحدد حدود الدور العربي وفقاً لمدى التوافق حول الأهداف والمساعي المشتركة من جانب، وحسن إدارة الموارد العربية؛ خاصة فيما يتعلق بملفات الطاقة، وعضوية الدول الخليجية في منظمة الأوبك واقتران ذلك كله بأسعار النفط والغاز الطبيعي من جانب آخر، وهو أحد الأسباب الرئيسية للتحول الأمريكي تجاه المنطقة؛ إذ أثبتت الأزمة الروسية-الأوكرانية مدى أهمية المنطقة استراتيجياً لضبط أسعار النفط عالمياً ومدى انعكاسات ذلك على الاقتصاد والداخل الأمريكي وقبل 5 أشهر من انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي، حيث تشير الاستطلاعات إلى تأثر الناخب الأمريكي بتدهور الأوضاع الاقتصادية في ظل موجات التضخم المتتالية، حتى بين هؤلاء الذين أدلوا بأصواتهم للرئيس بايدن في مواجهة ترامب.

في ذات السياق، تعظيم أهمية الموارد الديموجرافية والجيوسياسية لدول المنطقة  مع الإبقاء على التنوع السياسي والثقافي الحالي، الذي لا يؤثر فى التعاون وتنسيق الجهود لمواجهة الأخطار والاحتمالات المستقبلية بكل أشكالها. هنا يبرز دور الدول المركزية في المنطقة، وفي مقدمتها مصر والمملكة العربية السعودية، ثم دولة الإمارات، وما يزيد من فاعلية هذا الدور سياق التنسيق العربي العربي بعد قمة "العلا".

هل نحن بصدد نظام عالمي جديد؟

في عام 1974، أصدر والرشتاين الجزء الأول من أطروحته الشهيرة: النظام العالمي الجديد (The Modern World-System, 1974, 1980, 1989)

والتي وضع فيها عديد المقاربات النظرية؛ حيث يؤكد فالرشتاين بأن من أهم هياكل النظام العالمي الحالي، "تراتبـية القوة "(Power Hierarchy) بين المركز والأطــــــراف، حيث إن المراكز القوية والغنية تهيمن وتستغل ضعف وفقر الدول في الأطراف وتلعب التكنولوجيا دوراً رئيساً في تحديد مستوى هل تكون الدولة مركزاً أم طرفاً، وأن الإمبريالية بمعنى سيطرة دول المراكز على دول الأطراف الضعيفة.لذلك فالهيمنة(Hegemony) تعني وجود دولة في المراكز تسيطر مرحليا على البقية، والقوى المهيمنة، تعمل على إبقاء توازنٍ للقوى وتفرض التجارة الحرة، مادام ذلك في مصلحتها، وأن الهيمنة مرحلية، نتيجة لصراع الطبقات وانتشار عوائد التكنولوجيا.؟

وقد قسم والرشتاين مراحل الهيمنة الأمريكية إلى ثلاث مراحل:

1-  مرحلة أوج الهيمنة ما بعد حروب (1945-1967-1973). هذا رغم أن هناك إشارات عن عقلية التوسع اقدم في التاريخ السياسي الأمريكي، فمثلاً الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت ذكر في 1899م "بالطبع، تاريخنا القومي كله تاريخ توسع".

2- مرحلة التوسع (1973-2001م).

3-  مرحلة الاستمرار بالتوسع (2001م- 2025 أو 2050م). وهذه مرحلة من الفوضى السياسية(Anarchy) التي لا يمكن التحكم بها؟!

لذلك يرى فالرشتاين أن النظام العالمي يقترب الآن من نهايته، نظراً لما يواجهه من أزمات؟ !حيث يواجه النظام العالمي الآن آثار أزمتين متزامنتين؛ وباء كوفيد -19، ثم الحرب الروسية-الأوكرانية واللتين تعدان من أقوى الأزمات العالمية منذ الحرب العالمية الثانية والأشد تأثيراً، فإن كل المؤشرات والإرهاصات على الساحة الدولية تؤشر لبزوغ فجر نظام دولي جديد. مخالف لبداية النظام الدولي بمؤتمر فيينا عام 1815م عندما أبرمت إنجلترا وألمانيا وروسيا والنمسا حلفاً يتيح لهم التدخل في شؤون الدول الأخرى، بينما تقول أدبيات أخرى إن تداول المفهوم كان قبل ذلك في ظل اتفاقيات ويستفاليا (1644 - 1648م) التي أنهت حرب الثلاثين سنة التي مزقت أوروبا وتصارعت فيها دولها، حيث التوجه نحو عالم متعدد الأقطاب مع تراجع للهيمنة الأمريكية لمصلحة كل من الصين وروسيا، خاصة الصين التي أسست استراتيجيتها للمنافسة في ترتيب النظام الدولي وفقاً لما يطلق عليه (استراتيجية الصعود السلمي)، والتي تعني الانتقال التدريجي إلى مرتبة لاعب أساسي في العلاقات الدولية ولكن دون تهديد أمن واستقرار النظام الدولي، أو عبر التسلل الناعم لمفاصل النظام الدولي. وبدأت بتفعيل هذه الاستراتيجية على صعيد السياسة الخارجية الصينية منذ أكتوبر عام 2003. لذلك فالنظام الجديد تدور حدوده ومحدداته حول؛ الولايات المتحدة الأمريكية، التي لا تزال القوة الاقتصادية والعسكرية الأولى في العالم، وروسيا التي وإن كانت تعاني اقتصاديا من جراء المأزق الأوكراني، فإن لديها أكثر من 9000 رأس نووية، كما أن لديها مجالات متميزة للتفوق التكنولوجي في السلاح والفضاء، وأثبتت تأثيرا كبيرا فيما يتعلق بأسعار الغذاء والطاقة، والصين بما تملكه من موفورات اقتصادية هائلة، وهي أيضا القوة الواعدة من حيث معدلات النمو ومعدلات التجارة والاستثمار في الديون الأمريكية. لذلك وعلى الرغم من أن روسيا من أثارت هذا التحول في النظام العالمي، فإن الصين هي التي ستحدده، ومثل وباء كوفيد 19 أهم محفزات هذا التحول. في هذا السياق؛ يذهب الباحث الهندي المتخصص في العلاقات الدولية سيتاكانتا ميشراSitakanta Mishraفي كتابه "النظام العالمي ما بعد الجائحة"، إلى "أن الصين سوف تعمل على صياغة نظام عالمي جديد، وهو نظام حوكمة عالمي موازٍ لا يسمح للولايات المتحدة الأميركية باحتكار صياغة قواعد النظام الدولي، ويؤدي إلى تهميشها في مجالات أخرى كثيرة، وسوف تعمل الصين في المقام الأول على التركيز في ثلاث سمات تواصل من خلالها عزل أراضيها عن التدخل الخارجي، وتسعى في الوقت نفسه إلى ضمان عدم فرض أي قوة أخرى لهيمنتها على المناطق الأخرى في العالم، وسوف تعمل على تعزيز قوتها بالوصول إلى كل ركن من أركان العالم وفي أي وقت، لتصبح طرفاً فاعلاً في القضايا الناشئة كافة، وقد بدأت الصين بالفعل في تنفيذ استراتيجية النفوذ الاستراتيجي من خلال إنشاء جزر صناعية ووصلات للموانئ البحرية، وإقامة تحالفات، وشرعت في إنشاء مؤسسات متعددة الأطراف؛ مثل منظمة شانجهاي للتعاون، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، ومجموعة البريكس وبنك التنمية الجديد؛ وذلك بهدف تقديم منصات انطلاق بديلة للحوكمة العالمية ولإعادة صياغة قواعد اللعبة".

قمة جدة.. وتعظيم الفرص:

تعود الولايات المتحدة للمنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط بعد بداية استعلائية للرئيس بايدن وكأنه لا يزال يعيش الولاية الأولى لباراك أوباما؛ غير أن الأزمات الدولية المتلاحقة، والتحدي الروسي الكبير للهيمنة الأوروبية-الأمريكية، إلى جانب التعاطي السلبي وعدم فاعلية الاستجابة للأزمات، كل هذه عوامل جعلت من عودة الولايات المتحدة إلى المنطقة قائمة على مفهوم "المصالح الواقعية المتبادلة" بعيداً عن توظيفات القيم الليبرالية النظرية للمعسكر الديمقراطي في الولايات المتحدة الذي يمثله الرئيس بايدن. وفي ضوء عدم بلورة الدور الصيني الروسي في المنطقة حتى الآن، على نحو مماثل لاستراتيجية ومحورية الدور الأمريكي، فإن الدول العربية المركزية تحركت لملء هذا الفراغ، في ضوء مصفوفة مصالح عربية مستقلة، وعلى الولايات المتحدة الأمريكية والجماعة الأوروبية أن يحسنا استقبال الرسالة العربية، والتي تعد قمة جدة بدايتها في حال أرادت الولايات المتحدة حماية النظام العالمي الحالي بما يضمن حد أدنى من هيمنتها وتفوقها الاستراتيجي على كل من الصين وروسيا.


رابط دائم: