أبعاد الأزمة الحدودية بين إثيوبيا والسودان وسيناريوهات المستقبل
4-7-2022

د. جوزيف رامز أمين
* خبير فى الشئون الإفريقية

تداعيات متسارعة نجمت عن الحادث الحدودى الأليم الذى وقع أخيرا وتبعاته فى نطاق منطقة الفشقة السودانية حينما تم إعدام ٧ جنود أسرى سودانيين ومعهم مواطن سودانى مدنى بيد الجانب الإثيوبي. ولم يقتصر التصعيد على الجانب العسكري، حيث توجه الفريق أول عبد الفتاح البرهان "رئيس المجلس السيادي "للمنطقة المشتعلة بنفسه، أعقبها حدوث  تراشق بالمدفعية على الحدود بين الجانبين: الإثيوبى والسودانى وتهديدات أخرى متبادلة. كما استدعت السودان سفيرها لدى إثيوبيا للتشاور, وكذا استدعت وزارة الخارجية السودانية السفير الإثيوبي في الخرطوم لإبلاغه مباشرة إدانتها لعملية القتل. وتقدم السودان بشكوى لمجلس الأمن، واعتزمت تصعيد الأمر للمنظمات الدولية والإقليمية ذات الصلة لحفظ حقها القانوني وكذا حمايتها في مواجهة المجتمع الدولي.

من جانبها، أنكرت إثيوبيا مسئولياتها المباشرة عن الحادث وادعت أن إحدى الجماعات العرقية هى من قامت بذلك, وقالت الخارجية الإثيوبية إن "الحادث وقع داخل أراضيها بعد توغل وحدة من الجيش النظامي السوداني تدعمها عناصر إرهابية من الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي"، مشيرة إلى أن "الخسائر في الأرواح نتجت عن المناوشات بين الجيش السوداني وميليشيا محلية سيُجرى التحقيق بشأنها قريبا. وقالت أديس أبابا أن الحادث "تم اختلاقه عمدا لتقويض العلاقات العميقة الجذور بين الشعبين الإثيوبي والسوداني". علاوة على ذلك، فإن الهدف من الحادث – وفقا للرواية الإثيوبية - هو: "عرقلة إثيوبيا عن طريقها نحو السلام والتنمية". وبالطبع كالمعتاد ألقت بتصريحات عدائية واستفزازية .

ولعل المشكلة الأساسية أن البلدين، خاصة في السنوات الأخيرة، يعجان بالخلافات الداخلية والمشكلات والتي وصلت لدرجة تصاعد حرب إثنية شاملة فى إثيوبيا، ناهيك عن الخلافات الواضحة بين المكونات فى السودان. وقد فشل الحوار الوطنى هناك فى حشد القوى الراغبة فى ذلك، ناهيك عن أن السودان دولة محورية ومؤثرة فى نطاق الوضع الإقليمي المعقد فى منظومة قضية مياه النيل وسد النهضة بين كل من مصر وإثيوبيا والسودان. لذا، فإن رأى السودان مهم فى وجهة الخلاف والنزاع المحتدم على ملء وتشغيل سد النهضة فيما بين كل من مصر والسودان من ناحية وإثيوبيا من ناحية أخرى.

المهم في هذا الإطار ألا ينقلب الوضع المتفجر فجأة لحرب شاملة  تؤثر فى استقرار الأوضاع فى منطقة حوض نهر النيل والقرن الإفريقي, وذلك على غرار حرب الأوجادين بين إثيوبيا والصومال عام 1977, وحرب "بادمى" بين إريتريا وإثيوبيا 1998-2000, وغيرها من الحروب فى أنحاء القارة من جراء النزاعات الحدودية المتوارثة, والتي على ما يبدو لم تنجح الاتفاقيات الاستعمارية التى تم الإبقاء عليها من الحد منها أو إنهائها.

أولا- أسباب النزاع.. التطور التاريخي للنزاع الحدودي بين البلدين:

يعد إعدام "السبعة جنود ومدني سودانيين"، وهم أسرى تواصل لفصل جديد من فصول النزاع الحدودي المستمر بين البلدين منذ عقود. ويأتى التصعيد هذه المرة من جراء توصيف العمل بأنه يخالف كافة القوانين والأعراف الخاصة بالحرب، وكذلك القانون الإنساني الدولي، خاصة فى إطار ما يثار عن:"عرض جثث من أعدموا أمام الجمهور", وهو الأمر الذي استنفر بدوره الجيش السودانى الذى وعد برد مناسب, وقد يكون بالفعل قد قام بأسر مجموعة من الجنود الإثيوبيين فى ذات المنطقة, لكن الجيش السودانى نفى حدوث ذلك.

وعادة ما يثار التوتر بين البلدين فى المناطق الحدودية الشاسعة بينهما ويدور النزاع بينهما حاليا حول منطقة تعرف باسم الفشقة حيث يلتقي شمال غرب منطقة أمهرة الإثيوبية بولاية القضارف في السودان, ويتم تبادل الاتهامات. وأخيرا جُرح جندي سوداني وفُقد سبعة آخرون في 22 يونيو الالماضي، عقب اشتباكات عنيفة بين القوات السودانية والإثيوبية على الحدود. وكان السودان قد أرسل جنوداً لتنفيذ عمليات في بلدة القريشة الحدودية عقب تلقيه تقارير تفيد بإقامة قوات إثيوبية وميليشيا تابعة لها مستوطنات هناك. أما إثيوبيا فقد أرسلت "وفقا للتقارير" تعزيزات عسكرية في منطقة الفشقة المتنازع عليها بين البلدين من عناصر من جيشها وميليشيات من ولاية أمهرة المجاورة. واستهدفت عملية الانتشار توفير الحماية لمزارعي ولاية أمهرة في منطقة الفشقة، وحيث أقامت السلطات "مستوطنتين للجيش وواحدة أخرى للميليشيات في الأجزاء الشرقية من المنطقة الخصبة".

فمنذ عقود، يسود نزاع بين البلدين حول منطقة الفشقة الحدودية الخصبة، التى تبلغ مساحتها نحو 12 ألف كلم مربع، أو ما يقرب من ٣ ملايين فدان من أخصب الأراضي الزراعية. ويعود الخلاف بين السودان وإثيوبيا حولها إلى منتصف القرن العشرين، حيث دخل مئات المزارعين الإثيوبيين إلى المنطقة الواقعة بين نهري ستيت وعطبرة السودانيين وقاموا بزراعة أراضيها خلال موسم الأمطار.لكن التوترات زادت في السنوات الأخيرة بسبب تداعيات الصراع الدائر في إقليم تيجراي شمالي إثيوبيا، ومشروع سد النهضة لتوليد الطاقة الكهرومائية الذي شيدته إثيوبيا على نهر النيل الأزرق, حيث يعد سد النهضة الإثيوبي إحدى نقاط الخلاف بين السودان وإثيوبيا. كما فر عشرات الآلاف من اللاجئين من إثيوبيا إلى شرقي السودان ووقعت بعض المناوشات العسكرية بين الطرفين السوداني والإثيوبي في المنطقة. وتعود جذور الصراع الحدودي في الفشقة إلى الحقبة الاستعمارية، إذ نصت معاهدات وقعت في عامي 1902 و1907على أن حدود السودان الدولية تمتد إلى الشرق من الفشقة. وهذا يعني أن الأرض ملك للسودان، لكن الإثيوبيين استقروا في المنطقة، حيث مارسوا الزراعة ويدفعون ضرائبهم للسلطات الإثيوبية. وكانت الميليشيا الإثيوبية قد سيطرت على المنطقة منذ تسعينيات القرن الماضي قبل أن يعيد السودان نشر قواته هناك في نوفمبر 2020، ويعلن في منتصف عام 2021 عن بسط سيطرته الكاملة عليها. ومنذ ذلك الحين والتوتر متصاعد بين الطرفين إذ قتل العديد من الجنود السودانيين والمزارعين في اشتباكات مع ميليشيات إثيوبية. ودرجت العادة على أن يعبر مزارعون إثيوبيون الحدود إلى منطقة الفشقة في الخريف لتنفيذ أنشطة زراعية بدعم من المليشيات.

وبعد عام 1998، أحيا السودان وإثيوبيا محادثات كانت قد دخلت في سبات منذ أمد طويل لترسيم حدودهما التي يبلغ طولها 744 كيلومتراً، ولكن بقيت تسوية الخلاف حول الفشقة عالقة. وفي عام 2008، وصلت المفاوضات بين الحكومتين إلى حل وسط، حين اعترفت إثيوبيا بالحدود القانونية، وسمح السودان للإثيوبيين بالاستمرار في العيش هناك من دون عائق. وبقيت المنطقة حالة كلاسيكية لـ "الحدود الناعمة" التي تمت إدارتها بطريقة لا تسمح لموقع "الحدود الصلبة" بتعطيل سبل عيش الناس في المنطقة، إذ ساد تعايش لعقود حتى طالبت إثيوبيا بخط سيادي نهائي.

وبعد الإطاحة بجبهة تحرير شعب تيجراي من السلطة في إثيوبيا عام 2018، أدان زعماء عرقية الأمهرة الاتفاق، ووصفوه بأنه صفقة سرية، وقالوا إنه لم تتم استشارتهم بشكل صحيح بشأن ذلك الاتفاق.وقبل أيام قليلة، دعا مزارعون سودانيون حكومة بلادهم إلى تسليحهم لكي يتمكنوا من حماية أنفسهم في مواجهة ما قالوا إنها "تحركات من جانب الميليشيات الإثيوبية"، وطالبوا الحكومة أيضاً بنشر المزيد من القوات في المنطقة.

المطالبات الإقليمية في تيجراي:

والإثيوبيون الذين يسكنون الفشقة هم من عرقية الأمهرة، وهي القاعدة الانتخابية التي يربط آبي أحمد عربته السياسية بها بشكل متزايد بعد أن فقد دعما كبيرا في مجموعته العرقية الأورومو، وهي المجموعة العرقية الأكبر في إثيوبيا، فيما أن الأمهرة هي ثاني أكبر مجموعة عرقية في إثيوبيا وينحدر منها حكامها التاريخيون. ويتبع صراع الفشقة النمط نفسه في المطالبة بالسيادة، باستثناء أنه لا يتعلق بالحدود الداخلية لإثيوبيا، بل بالحدود مع دولة مجاورة. ويعد الفشل في حل هذه المسألة سلميا نتيجة غير مباشرة لانقلاب آخر لسياسة آبي أحمد ويتعلق الأمر هنا بالعلاقات الخارجية لإثيوبيا مع دول الجوار.                                                      

وحقيقة لا يستطيع آبي أحمد، الحائز على جائزة نوبل للسلام، تحمل المزيد من الخلافات مع مصر "التى أيدت السودان معنويا فى الحادث الأخير" وسط الصراع في تيجراي والاشتباكات في الفشقة التي تثير أشباح تاريخ طويل من الخصومة بين إثيوبيا والسودان.                                                                 

ففي الثمانينيات من القرن الماضي، قامت إثيوبيا الشيوعية بتسليح المتمردين السودانيين بينما ساعد السودان الجماعات المسلحة العرقية القومية بما في ذلك جبهة تحرير شعب تيجراي. وفي التسعينيات من القرن نفسه، دعم السودان الجماعات الإسلامية المتشددة بينما دعمت إثيوبيا المعارضة السودانية, وذلك في ظل الاشتباكات المسلحة والاضطرابات في أجزاء كثيرة من إثيوبيا، بينما مازالت اتفاقية السلام الأخيرة التي أبرمها السودان مع المتمردين في دارفور وجبال النوبة غير مكتملة، وبالتالي يمكن لكل بلد أن يعود بسهولة إلى هذا النمط القديم من تبادل زعزعة الاستقرار. وكانت العلاقات بين السودان وإثيوبيا قد وصلت إلى أدفأ درجاتها عندما سافر آبي إلى الخرطوم في يونيو من عام 2019 لتشجيع المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية والجنرالات السودانيين على التوصل إلى اتفاق بشأن حكومة مدنية بعد الإطاحة بالرئيس عمر البشير. وقد كانت مبادرة مميزة وفردية بالكامل، وكانت بحاجة إلى إضفاء الطابع الرسمي من خلال الهيئة الإقليمية "إيجاد" والثقل الدبلوماسي الكبير للآخرين؛ بما في ذلك الاتحاد الأفريقي والدول العربية والولايات المتحدة وبريطانيا لتحقيق نتائج.                                                                                            

ولقد حاول رئيس الوزراء السوداني حمدوك رد الجميل من خلال عرض المساعدة في حل الصراع الإثيوبي في تيجراي، وقد تم رفض عرضه أخيرا في قمة 20 ديسمبر الماضي، حيث أصر آبي على أن الحكومة الإثيوبية ستتعامل مع شئونها الداخلية بنفسها. كما أنه يخاطر بإشعال جولة جديدة من العداء عبر الحدود بين إثيوبيا والسودان مما يعمق الأزمة في المنطقة.

ثانيا: أبعاد الأزمة الحدودية:

التصريحات المتبادلة بين الجانبين الإثيوبى والسودانى:

أكد المسئولون السودانيون في مناسبات متعددة خلال الشهرين الماضيين على سودانية الفشقة، حيث ذكر رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان أن القوات المسلحة السودانية ستظل صمام أمان البلاد وعلى جاهزية تامة لحماية حدودها من كل معتد، مشيرا إلى أنها قدمت 84 شهيدا خلال عملية استعادة منطقة الفشقة، وأكد أنها ستبقى فيها للرد على أي عدوان يستهدف الأراضى السودانية.                 

ونتيجة للتوتر في العلاقات بين الخرطوم وأديس أبابا طلبت الحكومة السودانية رسميا من الأمم المتحدة استبدال قوات حفظ السلام الإثيوبية العاملة في منطقة «أبيي» المتنازع عليها بين السودان وجنوب السودان بقوات من دول أخرى، جاء ذلك خلال اللقاء الذي عقدته الدكتورة مريم الصادق المهدي وزيرة الخارجية السودانية مع جان بيير لاكروا وكيل الأمين العام للأمم المتحدة لعمليات السلام، وبارفيت أونانجا أنيانجا مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة الخاص للقرن الأفريقي.                                                                               

وأكّدت الوزيرة مريم للمسئول الأممي موقف السودان الثابت بشأن استبدال القوات الإثيوبية المشاركة ضمن «يونيسفا» بقوات أخرى، نظراً للمتغيرات الراهنة على صعيد العلاقات مع إثيوبيا وفقدان قواتها صفة الحيادية. وأشارت إلى أن الحكومة الإثيوبية تواصل سياستها بمحاولة خلط الأوراق من خلال تصعيد قضية سد النهضة داخليا وخارجيا بهدف توجيه أنظار الشعب الإثيوبي بعيدا عن الأزمة الداخلية التي تعاني منها إثيوبيا حاليا منذ نحو ١٠ أشهر والحرب المشتعلة في غالبية أقاليم إثيوبيا، خاصة أقاليم تيجراي وأمهرة وعفار وأوروميا وبني شنقول. وذكر بيان صادر عن وزارة الخارجية والمتحدث الإعلامى للجيش السودانى أنه يجب على النظام الإثيوبي حل مشكلاته الداخلية بعيدا عن السودان.                                         

وطالبت وزارة الخارجية السودانية الحكومة الإثيوبية بالكفّ عن العدوانية في التعامل مع السودان التي درجت عليها طيلة الفترة الماضية، ووقف تكرار الإدعاءات التي لا يسندها واقع ولا منطق ضد السودان تحقيقاً لمصالح وأغراض شخصيات ومجموعات محددة.وأكدت الخارجية الإثيوبية أن السودان يسيطر على كامل أراضيه وحدوده المعترف بها دولياً مع الجارة إثيوبيا، وأن السودان لن يسمح باستغلال أراضيه من أي جهة، وأنّه لا نية له في غزو أرض الغير أو الاستيلاء عليها.                                                            

ومن جانبها، دعت الخارجية الإثيوبية السودان أن يرجع إلى الطريق الصحيح وصرح  المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأثيوبية"السفير/دينا مفتى" بأن قضية الحدود الإثيوبية-السودانية لا تزال تمثل جزءا من التحديات الدبلوماسية التي تواجهها إثيوبيا، إلا أن موقف أثيوبيا الحذر وإعطاء الأولوية للحل الدبلوماسي تؤكد نضوج السياسة الإثيوبية. وأوضح أن السودان مازال يسيطر على أراضي إثيوبية إلا أن موقف إثيوبيا واضح بضرورة الرجوع إلى الوضع القائم الذي كان والمواصلة في الآليات المتفق عليها في تحديد الحدود.

واعتبر المسئول الإثيوبي"دينا مفتى"  إن السبب وراء اتهام السلطات السودانية للخطوط الجوية الأثيوبية بنقل شحنة أسلحة إلى السودان، كان المقصود منها هو تشويه سمعة الخطوط الجوية الإثيوبية, متسائلاً لماذا كل هذه الدراما؟ فإن الحكومة السودانية ادعت بنقل شحنة أسلحة عبر الخطوط الجوية الإثيوبية إلى السودان بصورة غير صحيحة وغير قانونية، فيما نفي مسئولون سودانيون ذلك وأكدوا قانونية وصحة الشحنة.  

فيما تصب التصريحات السودانية إجمالا فى أن بداية الصراع بين جبهة تحرير تيجراي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، لا علاقة له بالسودان وأنه بعيد كل البعد عنها وليس له أي مصلحة في أن يلعب أي دور من الأدوار التي تسيء إلى علاقته بإثيوبيا. وقد يكون ملف سد النهضة الإثيوبي هو الذي بدأت من خلاله إشكاليات العلاقة بين الخرطوم وأديس أبابا وذلك بسبب التعنت الإثيوبي ورفض أية محاولات ومقترحات من جانب مصر والسودان للتوصل إلى اتفاق قانوني ملزم بين الأطراف الثلاثة يحفظ لدولتي المصب حقوقهما في المياه وحقوقهما في معرفة ما يجري في السد وأيضا حقوقهما إذا تسبب السد في أية أضرار كبيرة على أي من البلدين بسبب قيام هذا السد، وهو أمر منصوص عليه في القوانين الدولية.و يبدو وفقا للمحللين والخبراء أن ملف سد النهضة هو الذي تسبب في تدهور العلاقات بين السودان وإثيوبيا، ثم حدثت الاعتداءات الإثيوبية على قوات سودانية داخل الفشقة، وقيام الجيش السوداني باسترداد الفشقة بسرعة وبشكل احترافي وكامل، وتأكيد القيادة السودانية أنها أرض سودانية. بينما أن التصعيد الإثيوبي المتعمد يهدف إلى حشد التأييد الداخلي لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد ضد قوات التيجراي، وحيث تصاعدت التوترات بين السودان وإثيوبيا، في السنوات الأخيرة، بسبب تداعيات الصراع في منطقة تيجراي شمال إثيوبيا وبناء هذه الأخيرة لسد النهضة. كما فر عشرات الآلاف من اللاجئين إلى شرق السودان إثر مناوشات عسكرية في منطقة تزخر بأراض زراعية متنازع عليها تقع على طول الحدود بين البلدين.

الموقف الإقليمي من الأزمة:

في قمة إقليمية عقدت في جيبوتي في 20 ديسمبر الماضي، أثار رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك الأمر مع نظيره الإثيوبي آبي أحمد.وقد اتفقا على التفاوض، لكن لكل منهما شروط مسبقة مختلفة، فإثيوبيا تريد من السودانيين تعويض المتضررين، فيما يريد السودان العودة إلى الوضع السابق.وبينما كان المندوبون يتحدثون، وقع اشتباك ثان ألقى السودانيون باللوم فيه على القوات الإثيوبية.وكما هو الحال مع معظم النزاعات الحدودية؛ فإن لدى كل طرف تحليل مختلف للتاريخ والقانون وكيفية تفسير المعاهدات القديمة، كما أن هذا النزاع يعد أيضا أحد أهم مشكلتين أثارتهما التغييرات السياسية التي قام بها آبي أحمد.                         

ومن جانبه, دعا الاتحاد الأفريقي كلا من السودان وإثيوبيا إلى التحلي بـ"الهدوء وضبط النفس" والدخول في "حوار" بعد تصعيد في التوتر بين البلدين بشأن منطقة حدودية متنازع عليها.وأعرب رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، موسى فقيه محمد، عن "قلقه" من زيادة التوتر بين الجانبين. وقال في بيان إنه يشعر "بالأسف الشديد للخسائر في الأرواح على حدودهما المشتركة"، وحيث أثارت المواجهات العسكرية الأخيرة بين السودان وإثيوبيا بمنطقة الفشقة عقب اتهام الخرطوم لأديس أبابا بإعدام سبعة جنود سودانيين ومدني، قلق مفوضية الاتحاد الأفريقي، ودعا رئيس المفوضية البلدين للامتناع عن أي عملية عسكرية جديدة.                               

ثالثا- تداعيات النزاع..أثر التوتر فى العلاقات الإثيوبية /السودانية:

لا شك فى أن ما آلت إليه العلاقات بين إثيوبيا ودول الجوار، خاصة مع السودان لا يصب فى مصلحة الاستقرار فى المنطقة، خاصة والعلاقات المصرية /الإثيوبية كان لها أبعاد ثنائية وإقليمية ومائية وكنسية عديدة، ناهيك عن مجال الاستثمار والتجارة, ومجالات التدريب والتعاون الفني والتكنولوجي وغيره. ولعل مسار العلاقات مع إثيوبيا قد تأثر بفعل ثلاثة أسباب رئيسية أولها وأهمها بلا شك هو التعنت الإثيوبي في مفاوضات سد النهضة دونما النظر لنتائج المفاوضات الثلاثية بين الدول الثلاث “مصر وإثيوبيا والسودان" التي بالفعل قد توقفت تقريبا. يتمثل السبب الثاني في توتر العلاقات الإثيوبية-السودانية بشكل غير مسبوق لعوامل تتعلق بخشية السودان من تأثير الملء المتوالى لسد النهضة على السدود السودانية وعلى سلامة مواطنيها وأراضيها كما حدث في فيضانات الأعوام الماضية, وكذا نجد تصاعد موضوع الحدود المتوتر في منطقة "الفشقة"، وهى المنطقة المجاورة لسد النهضة, وهى أراض سودانية بالأصل وفق الاتفاقيات القانونية، والتي تم دخولها من جانب القوات السودانية التي حققت تقدما كبيرا, لكن أصبح الأمر مثار نزاع وتوتر متجدد ووصل الأمر لدرجة تدخل الاتحاد الإفريقي والقوى الدولية الكبرى لمحاولة الوساطة وإيجاد حل لهذا النزاع ..  يضاف لذلك توتر العلاقات الإقليمية فيما بين إثيوبيا والكونغو الديمقراطية أيضا، ناهيك عن علاقات غير مستقرة وممتدة أيضا إلى جنوب السودان وإريتريا نفسها المتورطة "عبر جنودها" فى انتهاكات حقوق الإنسان بإقليم تيجراى وغيرها من دول القرن الإفريقي وحوض النيل: كالصومال وكينيا وغيرهما.ويبدو أن السبب الرئيسي والثالث والمؤثر فيما يحدث قد نجم عن تداعيات الحرب فى تيجراى وبالطبع انتهاكات حقوق الإنسان في الإقليم, والمذابح الجماعية في أرجاء عديدة منه لدرجة أثارت قلق الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة التى باتت "تشعر بقلق بالغ إزاء الفظائع المبلغ عنها والوضع العام المتدهور في منطقة تيجراي في إثيوبيا، بجانب تفاقم الأزمة الإنسانية، وهو أمر وارد فى ضوء الحرب الأوكرانية /الروسية وتداعياتها لاسيما على إفريقيا.                                          

ويبدو أن الأمر بحاجة إلى عمل  الشركاء الدوليين، خاصة الاتحاد الأفريقي والشركاء الإقليميين، لمعالجة جذور الأزمة في تيجراي، وإثيوبيا كلها وتحجيم النزاع الحدودى الأخير بين السودان وإثيوبيا. ولا شك فى أن سياسة مصر والرئيس السيسي في مواجهة قضية سد النهضة وإدارة العلاقات مع إثيوبيا تمضى بحكمة وبحرص وهدوء شديدين ولا شك فى أنها ستؤتى بثمارها قريبا، وتحرص مصر أيضا على المواجهة من خلال ضرورة ترسيخ الاهتمام بالقضية والتأكيد على البعد الدولي لحلها بالتنسيق مع السودان، بحيث تمضى الدولتان موقفا موحدا، وليس موقفين مختلفين، الأمر الذي يزيد الضغوط على الجانب الإثيوبي والذي بات يئن بالفعل من مشكلات محلية وإقليمية عديدة من جراء ممارساته الخاطئة.

رؤية مستقبلية:

لعل السؤال المحورى الآن هو: هل يمكن أن يتطور النزاع الحدودى إلى حرب؟

تشير توقعات المراقبين إلى أنه من المستبعد في الوقت الراهن أن يتطور النزاع الحدودي على المنطقة إلى حرب بين البلدين، فالبلدان مشغولان أصلا بصراعات داخلية، ومازالت تخوض القوات الإثيوبية في إقليم تيجراي حرباً لم تنته بعد ضد مقاتلي جبهة تحرير شعب تيجراي. كما أن إثيوبيا تخشى من أن حرباً كهذه إذا ما اندلعت فإنها ستدفع الخرطوم إلى إيواء ودعم وتسليح مقاتلي جبهة تحرير شعب تيجراي، فالسودان يؤوي أكثر من 67 ألف لاجئ إثيوبي فروا من تيجراي. كذلك، فإن السودان ليس في وضع يسمح له بخوض حرب مفتوحة في الوقت الراهن بسبب الوضع السياسي الهشّ بعد مرور ثلاث سنوات على الإطاحة بنظام الرئيس السابق عمر البشير.ولا تزال البلاد تواجه أزمة اقتصادية طاحنة مع ارتفاع أسعار السلع الأساسية وتبعات انتشار جائحة كورونا، إضافة إلى الاضطرابات القبلية في إقليم دارفور وغيره من المناطق، بجانب تبعات استمرار التشاحن بين  المكونات السياسية منذ  خريف 2021.                                                              

وقد استبعد قادة البلدين في السابق تطور الأمور إلى حرب شاملة بسبب الخلاف على المنطقة الحدودية في الفشقة. فقد قال رئيس المجلس السيادي في السودان عبد الفتاح البرهان إن بلاده ليست لديها نية لخوض حرب مع إثيوبيا، ولكنه تعهد خلال زيارة إلى المنطقة، وبعد الحادث بأن السودان لن يتنازل عن "شبر واحد" من أراضيه. من جانبه, استبعد رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في مارس الماضى دخول بلاده في حرب شاملة مع السودان.لكن وعلى الرغم من التطمينات السابقة من كلا الطرفين، إلا أن التطور الأخير في ظل الحشد العسكري من الجانبين قد ينذر بخروج الصراع عن نطاق السيطرة وتحوله إلى حرب قد تجر تبعات وخيمة على البلدين والمنطقة.


رابط دائم: