حوكمة الإصلاحات الهيكلية للاقتصاد المصري بإصلاحات جذرية هادفة
27-3-2022

عائشة غنيمي
* خبير اقتصادي ومسئول برامج وعلاقات دولية

تمضي الدولة المصرية قُدماً نحو تعميق مرونة الاقتصاد المصري وزيادة تنافسيته وتوطيد صلابته في مواجهة الصدمات بمختلف نطاقيها المحلي والدولي. إذ بات البرنامج الوطني للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي شهادة نجاح وثقة لما حققه من الإنجازات المستدامة التي انعكست إيجابياً ليس على الصعيد الاقتصادي فحسب، بل على الصعيد الاجتماعي والبيئي والسياسي، فضلاً عن تعميق ثقة المؤسسات الدولية في قدره الاقتصاد المصري على مواجهة وإدارة مخاطر تداعيات الأزمات العالمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والسياسية. وقد ارتكزت مراحل الإصلاح الاقتصادي على مرحلتين أساسيتين؛ المرحلة الأولى "الإصلاح المالي والنقدي" التي بدأت في نوفمبر 2016. أما المرحلة الثانية فهى "الإصلاح الهيكلي" التي تم إطلاقها في أبريل 2021.

وقد تم إطلاق البرنامج الوطني للإصلاحات الهيكلية من قبل دولة رئيس الوزراء في أبريل 2021 والتي قامت وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية بإعداده من خلال إتباع النهج التشاركي مع الجهات المنوطة بهذه الإصلاحات في القطاع العام والخاص والمجتمع المدني. وقد وضع البرنامج الوطني للإصلاحات الهيكلية خارطة طريق ورؤية استراتيجية واضحة المعالم لمرحلة ما بعد نجاح المرحلة الأولى من برنامج الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، وكيفية التعامل مع تداعيات الأزمات العالمية المختلفة، وما تفرضه من تحديات محلياً وعالمياً، فضلاً عن مواكبة تطورات الثورة الصناعية الرابعة والثورة الصناعية الخامسة وتدعيم مفهومي الاقتصاد الأزرق والاقتصاد الأخضر بما يتسق مع متطلبات مواجهة تغير المناخ وضمان جودة حياة المواطنين.

البرنامج الوطني للإصلاحات الهيكلية هو برنامج وطني تم إعداده بإتباع النهج التشاركي الذي تتبناه الدولة المصرية حيث إنه نابع من داخل مؤسسات الدولة المصرية العامة والخاصة والمجتمع المدني. ويُمثل البرنامج المرحلة الثانية من البرنامج الوطني للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي ويأتي البرنامج الوطني للإصلاحات الهيكلية اتساقاً مع رؤية مصر 2030 والأهداف الأممية للتنمية المستدامة، وذلك دون تحميل المواطن أي أعباء جديدة؛ مما يضمن تفعيل واستدامة مكتسبات المرحلة الأولى ويدعم قدرة الاقتصاد المصري على تحقيق النمو الاحتوائي المُتوازن والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية المُستدامة.

وتجدر الإشارة إلى أن البرنامج الوطني للإصلاحات الهيكلية يستهدف القطاع الحقيقي للمرة الأولى من خلال تنفيذ حزمة من إصلاحات هيكلية جذرية وهادفة على مستوى خمس منظومات رئيسية تشمل المنظومة الديموغرافية وتنمية الأسرة والمجتمع، منظومة التمويل، منظومة اللوجستيات، منظومة الأداء الحكومي، ومنظومة التشريعات. ويُعد البرنامج الوطني للإصلاحات الهيكلية أحد الركائز الأساسية لتعزيز مشاركة القطاع الخاص ولمواجهة التحولات الجذرية التي طرأت مؤخراً على الاقتصاد العالمي. إلى جانب مساهمة الإصلاحات الهيكلية في توطين أهداف التنمية المستدامة على مستوى جميع محافظات جمهورية مصر العربية، وتحويل مسار الاقتصاد المصري إلى اقتصاد أخضر أكثر إنتاجية وتنافسية، فضلاً عن تعميق مرونة الاقتصاد ورفع قدرته على امتصاص الصدمات الخارجية والداخلية وتحقيق هدف الدولة للوصول بحجم الصادرات المصرية إلى قيمة 100 مليار دولار سنوياً.

كما تم وضع وصياغة البرنامج الوطني للإصلاحات الهيكلية وفقاً للأطر التنفيذية والمعايير الدولية من خلال تبني مجموعة من الأسس التنفيذية؛ وذلك لضمان جودة وفاعلية التنفيذ وحوكمة الأداء. ويأتي ذلك في إطار إتباع الدولة المصرية للنهج التشاركي يتميز بكفاءة عالية من التنسيق بين كافة الوزارات والجهات الحكومية المعنية والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني؛ ما يضمن الأسس التنفيذية السليمة من حيث التكامل والديناميكية والتنسيق والشمولية والخطط التنفيذية المحكومة بمؤشرات لتقييم الأداء. وتتضمن الديناميكية حيث مواكبة  التطورات المحلية والإقليمية والدولية؛ الشمولية، حيث التناول الشامل لكافة عناصر الضعف والاختلالات القطاعية وعلى كافة المستويات؛ التكامل حيث الترابط والتكامل بين محاور البرنامج والسياسات والاستراتيجيات الوطنية والدولية؛ المعلومات حيث الاعتماد على معلومات تفصيلية محدثة عن كل الأبعاد، وتحليل متعمق لكافة المشاكل والحقائق؛ الإطار المؤسسي، حيث تحقيق التنسيق بين المؤسسات الحكومية على كافة المستويات؛ مما يتحقق من خلاله الحوكمة وسهولة الإجراءات، فضلاً عن التطوير الدائم في الإطار المؤسسي، سواء من خلال إنشاء مؤسسات جديدة، و/أو تعزيز التشريعات؛ الإطار التمويلي، حيث توضيح الأسس التمويلية وتعدد وتنوع مصادرها بما يضمن تحقيق المستهدفات من البرنامج؛ الخطط التنفيذية حيث يعتمد البرنامج على خطط عمل تفصيلية لكل مرحلة من مراحل الإعداد وتحديد أولوية الإصلاحات الهيكلية؛ وتقييم الأداء والمتابعة، حيث يتضمن مؤشرات أداء واضحة ومحددة وقابلة للقياس يتم بناء عليها عملية التقييم والمراجعة، مع تحديد الجهة القائمة على التنفيذ والإطار الزمني للتنفيذ التي تتمثل في اللجنة العليا المشكلة من جانب رئاسة مجلس الوزراء.

الجدير بالذكر الإصلاحات الهيكلية  تتميز بكونها محددة أي تستهدف إصلاح وتحسين مجال محدد وواضح، وتتميز الإصلاحات الهيكلية أيضاً بكونها قابلة للقياس والتقييم، حيث لكل إصلاح هيكلي يوجد له مؤشر أداء واضح قابل للقياس الكمي أو النوعي، وفقاً إلى طبيعة تنفيذ الإصلاح، فضلاً عن تحديد الجهات المنوطة بتنفيذ الإصلاحات الهيكلية على مستوى المحافظات، إلى جانب تحديد المدى الزمني بدقة لتحقيق المستهدفات، سواء على المدى القصير أو المدى المتوسط أو على المدى الطويل.

وتجدر الإشارة إلى أهمية تسليط الضوء على أهم ركائز الإصلاحات الهيكلية التي تشمل الآتي:

تأهيل وتعزيز مشاركة القطاع الخاص؛ حيث تحديد المجالات والفرص التي يتدخل فيها القطاع الخاص في إطار تشجيع الاستثمار وتطوير بيئة الأعمال وتعزيز الشفافية وتنسيق الجهود والتعاون بين دور الدولة ودور القطاع الخاص.  كما أن دور الدولة يمثل أهمية كبرى في الإصلاح الهيكلي الإداري للدولة وحوكمة الشركات المملوكة للدولة، وإتاحة التمويل المصرفي وغير المصرفي، وتيسير إجراءات التخليص الجمركي؛ ما ساهم في تعزيز شراكة القطاع الخاص ودور القطاع الخاص.

زيادة تنافسية وحجم الصادرات المصرية: حيث المساهمة في زيادة الصادرات المصرية إلى 100 مليار دولار أخذاً في الاعتبار المزايا التنافسية للأسواق الدولية والأسواق الإقليمية من حيث تعظيم الاستفادة من اتفاقات التجارة الحرة القارية الإفريقية والتجارة الحرة العربية الكبرى واتفاقات  التجارة الحرة مع جنوب وشرق آسيا وغيرها من الاتفاقات. وذلك من خلال  خلق اقتصاد إنتاجي متنوع ذات توجه تصديري، فضلاً عن استهداف القطاعات والصناعات ذات المزايا التنافسية العالية مثل صناعات الغزل والنسيج وصناعات الملابس الجاهزة؛ وذلك بما يشمل  الصناعات الأقل تعقيداً وصولاً إلى الصناعات الأكثر تعقيداً، والتي تتطلب تكنولوجيا تقنية دقيق، وتعميق وتوطين الصناعات المحلية وزيادة التنافسية المحلية والدولية، وزيادة تنافسية المنتجات والمحاصيل الزراعية.

تنويع وتعزيز المدخرات المحلية، حيث تنويع وتحفيز أدوات الادخار المختلفة. إذ زيادة المدخرات المحلية سوف يسهم في تقليص الفجوة التمويلية والاستدانة المزمنة، ما يؤدي إلى تمويل مزيد من الاستثمارات المولدة لفرص عمل، فضلاً عن وزيادة نسبة الاستثمار من الناتج المحلي الإجمالي.

تسريع وتيرة التحول الرقمي والشمول المالي، حيث استكمال المشروعات التي تخدم استراتيجية الدولة للتحول الرقمى في جميع القطاعات؛ وبناء منظومة مرقمنة بالكامل، وميكنة دورات العمل، واستكمال أعمال رقمنة المنظومات ودورات العمل عن طريق التطبيقات التشاركية والمتخصصة للانتقال إلى العاصمة الإدارية كحكومة تشاركية لا ورقية.

•  توطين الإصلاحات الهيكلية في جميع المحافظات، حيث يستهدف البرنامج الوطني للإصلاحات الهيكلية 27 محافظة على مستوى الجمهورية؛ بالإضافة إلى استهداف عدد من المحافظات الأكثر احتياجاً بمزيد من الإجراءات الإصلاحية.

سياسات وأهداف محاور البرنامج الوطني للإصلاحات الهيكلية:

يضم البرنامج الوطني للإصلاحات الهيكلية ستة محاور وأهداف وسياسات لكل منها، تغطي الإجراءات الهيكلية والتشريعية، حيث إن المحور الأول والرئيسي للبرنامج يتمثل في زيادة الوزن النسبي لثلاثة قطاعات الرئيسة في الاقتصاد المصري والمتمثلة في قطاع الصناعة، وقطاع الزراعة، وقطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. وتتضمن معايير اختيار القطاعات الثلاثة؛ القدرة على النمو السريع، الوزن النسبي للقطاع من الناتج المحلي الإجمالي، القدرة التوظيفية، التشابكات القطاعية. وبالتوازي يتم العمل علي دعم القطاعات الخدمية المُكملة والداعمة للقطاعات الإنتاجية من خلال التركيز علي قطاع الخدمات اللوجستية لمساندة مختلف القطاعات، والاستمرار في الإجراءات الداعمة لقطاعات مساندة للاقتصاد المصري، ولديها القدرة علي خلق فرص عمل إضافية وامتصاص العمالة، مثل قطاعي السياحة والتشييد والبناء.

وتتضمن المحاور الداعمة للمحور الرئيسي؛ محور رفع كفاءة ومرونة سوق العمل، وتطوير منظومة التعليم الفني والتدريب المهني، ومحور تحسين بيئة الأعمال وتعزيز دور القطاع الخاص، ومحور الحوكمة ورفع كفاءة المؤسسات العامة، ومحور تعزيز الشمول المالي وإتاحة التمويل، ومحور تنمية رأس المال البشري (التعليم والصحة والحماية الاجتماعية).

وفي ضوء ما تقدم، تعتبر خطوة إطلاق البرنامج الوطني للإصلاحات الهيكلية من بين الخطوات الصائبة والحاسمة في خضم جهود الدولة المصرية المتسارعة نحو النهوض بالاقتصاد المصري وزيادة تعميق مرونته وتوطيد صلابته في امتصاص تداعيات الأزمات العالمية، من بينها -على سبيل المثال- أزمة "كوفيد-19" العالمية والأزمة الأوكرانية-الروسية. إذ تعكف الحكومة المصرية على تطبيق العديد من الإجراءات الاستباقية لإدارة مخاطر الأزمات، بالتزامن مع الإسراع في تنفيذ إجراءات البرنامج الوطني للإصلاحات الهيكلية. وبفضل حوكمة الاقتصاد المصري والتنسيق الجيد بين السياسات الاقتصادية وإعادة هيكلة الاقتصاد استطاعت الدولة في خضم تفشي أزمة "كوفيد-19" العالمية، خلق وفراً أولياً فى الموازنة، ومعالجة الاختلالات فى قطاعات اقتصادية مختلفة، إضافة إلى تحقيق زيادات غير مسبوقة فى الاحتياطى النقدى وصلت إلى 49 مليار دولار، قبل تراجعه إلى 37 مليارا، من جراء اندلاع أزمة "كوفيد-19" في عام 2020، إلى جانب توافر مخزون استراتيجي كافٍ من السلع الأساسية مع زيادة الصادرات المصرية، وترشيد الواردات، وإعادة هيكلة الواردات لتكون أكثر إنتاجية.


رابط دائم: