هل سينجح "سلاح العقوبات" فى تقويض الاقتصاد الروسى وإرباك الاقتصاد العالمى؟
1-3-2022

د. إيمان زهران
* متخصصة في العلاقات الدولية والأمن الإقليمي

 يبدو أن إشكالية "التعافى الاقتصادى" من جائحة كورونا ستضاف إليها إشكالية اقتصادية جديدة، بالتزامن مع التطورات المتصاعدة بالأزمة الروسية – الأوكرانية، لاسيما بعد اعتراف موسكو باستقلال دونيتسك ولوجانسك شرق أوكرانيا فى 21 فبراير 2022، وما تلى ذلك من إعلان الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين"، في 24 فبراير 2022، بالسماح  لقواته ببدء عملية عسكرية، خاصة في أوكرانيا، وما صاحب ذلك الإعلان من تفعيل "سلاح العقوبات" من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبى، وبعض الدول الكبرى كإحدى ورقات الضغط لحصار الاقتصاد الروسى وإجبار "بوتين" على التراجع عن التصعيد بكييف، لتفرض تلك العقوبات عددا من التساؤلات حول حجم تداعياتها المباشرة على الاقتصاد الروسى، وتقييم انعكاساتها المتباينة على الاقتصاد العالمى، وذلك فى ظل التلويح الغربى بالتصعيد، والدفع بخروج موسكو من نظام "السويفت" العالمى.  

مُعضلة العقوبات:

أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن، في 22 فبراير 2022، عن حزمة من العقوبات التي شملت "حظر كامل" بحق مؤسسة "VEB" الروسية، والبنك العسكري الروسى Promsvyazbank"، وتطبيق عقوبات شاملة على "الدين السيادي الروسي"، إلى جانب استهداف "النخبة الروسية وأفراد عائلاتهم"، فضلا  عن العقوبات الغربية الموجهة ضد مشروع "نورد ستريم - 2 " بالتنسيق مع ألمانيا، وما تلى تلك العقوبات من حزمة عقوبات أخرى فرضتها بعض الدول الكبرى على روسيا، مثل اليابان وكندا وأستراليا، وكذلك الاتحاد الأوروبي، وذلك على النحو التالى:  

 تقويض الكيانات المالية:  اشتملت تلك النقطة على عدد من الخطوات التصعيدية التى بدأت بـ "الإعلان البريطانى" فى 22 فبراير 2022 بفرض عقوبات مالية ضد موسكو، إذ استهدف الإعلان خمسة بنوك وثلاثة من رجال الأعمال الروس، فضلا عن تجميد أصول المعنيين بالعقوبات في المملكة المتحدة، واستصدار قرار بمنعهم من السفر إلى البلاد، وحظر التعامل معهم فى المملكة المتحدة. بينما فرض "الاتحاد الأوروبي" في 22 فبراير 2022 حزمة عقوبات متباينة تستهدف 27 فرداً وكياناً روسيا، من ضمن تلك الكيانات البرلمان الروسي – خاصة الـ  351 نائباً الذين صوتوا لمصلحة استقلال الجمهوريتين، فضلا عن التنسيق الثنائي بين "الإتحاد الأوروبى -  والولايات المتحدة الأمريكية" حول إعادة هيكلة "ضوابط التصدير" على السلع ذات الاستخدام المزدوج، والبضائع عالية التقنية، خاصة الإلكترونيات، وأجهزة الكمبيوتر والاتصالات وأمن المعلومات، وأجهزة الاستشعار، والليزر، والتطبيقات البحرية، إذ تستهدف تلك العقوبات الحد من قدرة روسيا على الوصول إلى رأس المال والخدمات المالية الأوروبية.

المقايضة بورقة "نورد ستريم -2": حيث أعلنت برلين إرجاء التصديق على مشروع خط أنابيب "تورد ستريم -2" من جانب الهيئات التنظيمية سواء فى ألمانيا أو الاتحاد الأوروبى، وذلك بالرغم من اكتمال المشروع فنيا، وذلك كرد فعل مواز لاعتراف موسكو باستقلال جمهوريتين شرق أوكرانيا.  

حصار مواز: إذ في إطار الضغط باستراتيجية "الحصار الاقتصادى"، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية فرض ثمانى عقوبات تستهدف اقتصاد موسكو، بالتوازى مع التقويض الأوروبى للمؤسسات المالية الروسية، حيث تم  قطع الاتصال بين النظام المالى الأمريكى والروسى وذلك لمحاصرة المعاملات الروسية التى تتم بالدولار، وتم فرض "حظر شامل" على ""VTB Bank، الذى يملك ما يقرب من خُمس إجمالى أصول القطاع المصرفى الروسي، بالإضافة إلى حظر20 شركة تابعة له، وثلاث مؤسسات مالية روسية رئيسية أخرى: بنك أوتكريتى وسوفكومبنك ونوفيكومبنك، و34 شركة تابعة لها، بهدف تجميد أصول تلك المؤسسات التى تتعامل مع النظام المالى الأمريكى، وفرض قيود جديدة على الديون وأصول الملكية على 13 من أهم الشركات والكيانات الروسية الكبرى، والتى تُعد شركات مفصلية فى الاقتصاد الروسى وتقدر أصولها بنحو 4 تريليونات دولار، فضلا عن عقوبات حظر إضافية كاملة على أفراد من النخبة الروسية وأفراد أسرهم، كما تم فرض قيود على المنتجات العسكرية للجيش الروسى ووزارة الدفاع الروسية، وأخيرا التضييق على استيراد روسيا للسلع التكنولوجية الضرورية لإنجاز متطلبات التنوع الاقتصادى .

إرباك الحلفاء:  تلك النقطة تتعلق بـ "نمط التنويع" فى توجيه سلاح العقوبات ، إذ لم يتم استهداف الجانب الروسي فقط، ولكن تم التلويح باستهداف الدول الداعمة للتحركات الروسية فى أوكرانيا، وفى مقدمتها "بيلاروسيا". فعلى سبيل المثال:  أعلن مفوض الشئون الخارجية بالاتحاد الأوروبي "جوزيب بوريل": "إن بيلاروسيا تفتقر إلى الشفافية بشأن نشر قوات روسية على أراضيها، كما أنها تفقد حيادها النووي بتماهيها التام مع الأجندة الروسية، وأنه سيكون هناك رد قوي من الاتحاد الأوروبي على البلدين". 

الجدير بالملاحظة أن تلك "العقوبات الاقتصادية " التى تم فرضها من جانب الكتلة الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية لا تضمن إخراج روسيا من "النظام المالي العالمي"، وذلك بالإشارة إلى ما تم الحديث عنه مُسبقا من احتمالات التصعيد نحو الدفع بعزل موسكو من "نظام السويفت العالمى – SWIFT، وذلك استنادا إلى الخبرة التاريخية فى التعامل بـ "سلاح السويفت"، حيث تم تطبيقه على الدولة الإيرانية فى عام 2012 فى إطار الاحتواء الغربى للبرنامج النووى الإيرانى.  

 وتعتمد روسيا بشكل كبير على نظام "سويفت" فى إطار حركة صادراتها الرئيسية من النفط والغاز التي تبلغ مليارات الدولارات، وتُعد ثاني أكبر دولة بعد الولايات المتحدة من حيث عدد مستخدمي نظام "سويفت"، حيث تنتمي نحو 300 مؤسسة مالية روسية إلى ذلك النظام، أي أن أكثر من نصف مؤسساتها المالية أعضاء في "سويفت"، وذلك وفقا لبيانات جمعية "روسيفت" الروسية. ومن ثم، فمن الصعب الدفع بتلك الآلية فى إطار الحزم العقابية ، وذلك لعدد من المرتكزات:

انقسام الكتلة الغربية حول تداعيات "سلاح السويفت":  إذ تتباين ردود الأفعال الأوروبية حول جدوى تطبيق العزل الروسي من نظام سويفت، بالنظر إلى المردود العكسى، وحجم التداعيات السلبية على اقتصادياتهم الوطنية. فعلى سبيل المثال، تتخوف ألمانيا من حجم الانعكاسات السلبية لمثل ذلك الإجراء العقابى، خاصة أنها تمتلك أكبر تدفقات تجارية من الاتحاد الأوروبي مع روسيا. ويتشارك الجانب الفرنسى مع المخاوف الألمانية فى توصيفه لآلية "سويفت" كونها "سلاحا نوويا ماليا"، يجب أن نمعن في التفكير قبل استخدامه، فى إشارة إلى استبعاد تلك الآلية من الحزم العقابية لارتداداته السلبية على الاقتصاديات الوطنية الأوروبية.   

تخوف مراكز الهيمنة العالمية:ونذكر في تلك النقطة ما سجلته بنوك "وول ستريت" من اعتراضات حاسمة لمثل تلك الخطوة، مدللين على ذلك بعدد من التداعيات المُحتملة كانعكاس مباشر فى حالة الدفع بسلاح العزل الروسي من "نظام سويفت"، أبرزها احتمالات تصاعد معدلات التضخم، وتنامى التقارب الروسي- الصيني، وما يتعلق بمستقبل "الوضعية الأمنية" لتدفق المعاملات المالية المشبوهة"، بالإضافة إلى التخوف من المخاطرة بمنع روسيا من الوصول إلى "نظام المدفوعات العالمي"، إلى التشجيع على تطوير بديل لـ "سويفت" ، وهو ما يقوض هيمنة الدولار الأميركي على النظام المالى العالمى .

اضطرابات مُعقدة:   

لم تكتمل حالة "التعافى الهش" للاقتصاد العالمى جراء ما خلفته جائحة كورونا من انعكاسات سلبية على مختلف المجالات الاقتصادية ، لتُخيم "مُعضلة العقوبات" وما يمكن أن تنتج عنه من إرباك للنظام المالى والتجارى العالمى، بالتوازى مع اهتزاز "معيار الثقة" فى مدى قدرة النظام الاقتصادى العالمى على مواجهه "الأزمات الطارئة غير التقليدية"، وذلك كما تم اختباره فى جائحة كورونا، لتأتى أبرز التخوفات من التصعيد بالأزمة الأوكرانية وانعكاسات العقوبات الاقتصادية على موسكو من  إحداث اضطراب بالملفات الاقتصادية ذات التشبيكات الدولية التالية:  

اضطراب أسواق الطاقة العالمية:  إحدى أبرز التداعيات الناجمة عن "سلاح العقوبات" الغربية على النظام الروسى، بالنظر إلى مساهمة موسكو بنحو 30% من نفط أوروبا و35% من غازها الطبيعي. ومن ثم، فمن المُرجح ارتفاع أسعار الطاقة لأعلى مستوياتها على أثر التصعيد المتبادل بين الجانبين الروسى والأوروبى الغربى. فعلى سبيل المثال، شهدت أسعار خام النفط ارتفاعات قياسية خلال شهري يناير وفبراير من عام 2022 على واقع تصاعد التوتر وبدء الأزمة الأوكرانية، متخطية حاجز الـ 90 دولاراً للبرميل، في حين أنها تجاوزت بالفعل عتبة الـ 100 دولار للبرميل، في 24 فبراير 2022، وقت الإعلان عن حزم العقوبات الاقتصادية الغربية، مترافقة مع تراجع حاد في عدد من أسواق الأسهم العالمية، فيما قفزت أسعار الغاز في أوروبا، خلال تعاملات 24 فبراير 2022، بنحو 35%، وتجاوز سعر العقود الآجلة للغاز مستوى 1400 دولار لكل ألف متر مكعب.

اضطراب أسواق الحبوب العالمية:  نُعنى في تلك النقطة الاضطرابات المتوقعة فى أسواق القمح، بالنظر إلى أن أوكرانيا تُعرف بكونها سلة غذاء الاتحاد السوفيتي، وتُعرف الآن بـسلة الخبز في أوروبا. وخامس مُصدِّر للقمح في العالم. كما أن روسيا وأوكرانيا تمثلا معاً ما يقرب من ثلث شحنات القمح والشعير العالمية. فعلى سبيل المثال، نشرت وكالة بلومبرج تقريرا حول الاضطراب بأسعار القمح، حيث قفزت إلى أعلى مستوى لها في شهرين بعد أن أثارت العلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن أوكرانيا، المخاوف حيال الشحنات المستقبلية للحبوب من أوروبا الشرقية، خاصة أن القمح الأوكراني يمثل للدول النامية أهم الصادرات القادمة من ذلك البلد. فاضطراب تلك الأسواق قد ينعكس سلبيا على تهديد "الأمن الغذائى" بتلك الدول، خاصة دول منطقة الشرق الأوسط، التى من المُرجح أن تبدأ بالبحث عن بدائل للقمح الروسى/ الأوكرانى، وهو ما قد يدفع بميزة تفضيلية نحو تعزيز حضور متميز لكل من الولايات المتحدة وكندا وفرنسا في مقدمة البدائل المقترحة لأسواق المنطقة. 

اضطراب معدلات التضخم العالمى:  يسعى النظام الاقتصادى العالمى لإنجاز متطلبات "التعافى المرن" من الانعكاسات السلبية التى خلفتها جائحة كورونا دون الوصول إلى حالة "التوازن" وتقويض معدلات التضخم، دون التأثير سلبيا على أنماط النمو أو مجالات التوظيف.  فعلى سبيل المثال، قد تدفع الأزمة الأوكرانية بزيادة تكاليف الطاقة وأسعار السلع ، خاصة الزراعية للعديد من الدول، وهو ما يدفع باستمرار "معدلات التضخم" لفترات طويلة دون ملامح واضح للتعافى القريب. وفى السياق ذاته، نشرت وكالة "رويترز" أن أسعار السلع الأساسية الأخرى التي تُصدرها روسيا، أخذة في الارتفاع، ويمكن أن تؤدي إلى زيادة أكبر، وعلى نطاق واسع في أسعار السلع، وذلك بالنظر إلى تصعيد الأزمة والعقوبات الغربية التدرجية على روسيا، والتى ستنعكس تباعا على ارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي، وبالتبعية ارتفاع تكاليف الطاقة في كثير من دول العالم، وهو ما يشير إلى استمرار ارتفاع معدلات التضخم العام، الذي بلغ بالفعل مستويات مرتفعة للغاية في جميع أنحاء العالم جراء جائحة كورونا .

اضطراب سلاسل الإمداد العالمية: إحدى أهم الإشكاليات المطروحة على أجندة "الاقتصاد العالمى"، إذ يمكن أن تدفع الأزمة القائمة ، وما لحق بها من عقوبات اقتصادية على النظام الروسى ، إلى اضطرابات متباينة بسلاسل الإمداد العالمية. فعلى سبيل المثال، فى ظل التصعيد بالأزمة الأوكرانية والدفع بسلاح العقوبات الاقتصادية ، فثمة احتمالات قائمة لإحداث اضطراب/ أو خلل بآلاف من الشركات الأمريكية والأوروبية التي تتعامل مع موردين في روسيا وأوكرانيا فى عدد من الخدمات التجارية،مثل خدمات البرمجيات وتكنولوجيا المعلومات التى تُمثل 12% من علاقات الموردين بين الشركات الأمريكية والروسية/الأوكرانية، ونحو 9% لخدمات التجارة والتوزيع، و6% للنفط والغاز، فضلا عما تمثله منتجات الصلب والمعادن من عناصر يومية مُتداولة. 

تكيف مرن:   

تتباين التوقعات حول مدى تأثير العقوبات المفروضة على نظام بوتين من عدمه، وحجم الاستجابة المتوقعة بالاقتصاد الروسى. إذ إنه فى الأغلب الأعم، وبالنظر إلى التقديرات النوعية لما تم الإعلان عنه من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى وعدد من الدول الكبرى، فإن معظم الاحتمالات تنصرف إلى "ضعف التأثير"، استنادا إلى عدد من المحددات:  

تحركات متوقعة: إذ إن التحركات الغربية تكاد تكون متوقعة لدى ذهنية صانع القرار الروسي، ولدية  تحركات مضادة لكل فعل متوقع. فعلى سبيل المثال، أعلن وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف" في 22 فبراير 2022، أن الغرب كان سيفرض عقوبات ضد موسكو بغض النظر عن تطورات الأحداث المتعلقة بالأزمة الأوكرانية، ووصف ردود الأفعال على الاعتراف الروسي بالجمهوريتين الانفصاليتين بأنه "متوقع". 

خبرات تاريخية: وهو ما يتعلق بالتاريخ الروسي في التعامل مع "سلاح العقوبات". فعلى سبيل المثال، نجحت موسكو في التكيف مع عقوبات سابقة فُرضت عليها من جانب الغرب، لاسيما عقب أحداث شبه جزيرة القرم عام 2014، إذ شملت العقوبات أفراداً وأعمالاً تجارية ومسئولين روسيين. والجدير بالذكر، أنه برغم مما تسببت فيه تلك العقوبات من خسائر مالية واقتصادية لروسيا، إلا أن النظام نجح في تقليل عواقبها على مدار السنوات الماضية. إذ برغم أن النمو الاقتصادي سجل معدلات أكثر بطئأ إلا أنه تميز بالاستقرار وفقا للعديد من التقديرات الدولية. 

مرونة التكيف: تتعلق تلك النقطة فى استحداث "أدوات محلية" لتقويض الارتدادات السلبية لسلاح العقوبات الغربية. فعلى سبيل المثال، اعتمدت موسكو على عدة خطوات لتقليل الانعكاسات السلبية للعقوبات الغربية، مثل: خفض الإنفاق العام، وخلق بدائل محلية للسلع المستوردة، وتحفيز الإنتاج المحلي وتوطين الصناعات النوعية، وحوكمة الإنفاق المرتبطة بالعائدات الهائلة لبيع النفط والغاز، إذ تم تحويل جزء من هذا الإنفاق إلى صندوق "سيادي وطني" بقيمة 124 مليار دولار، وهو ما نتج عنه فائض بالميزانية الوطنية عامين 2018 و2019، فضلا عما سجله عام 2021 من ارتفاعا بالاحتياطيات الروسية من العملات الأجنبية .

إنتاج شراكات جديدة: انعكس ذلك بشكل متوازن بالنظر إلى مضمون مخرجات بيان القمة الصينية - الروسية في 4 فبراير 2022 ، وكذلك كثافة التواصل بين كبار المسئولين في الجانبين، والأجندات والخطوات التنفيذية المُتفق عليها بالنسبة لمستقبل العلاقات بينهما، والتى تخدم أهداف كل منهم على حدة، وذلك من خلال:

-أجندة الدولة الروسية:  تسعى موسكو لتوظيف علاقاتها مع الصين، التى تُعد ثاني أكبر اقتصاد في العالم، لتعويض الإغلاقات المتباينة بالأسواق الأوروبية، بالإضافة إلى مواجهة "سلاح العقوبات الغربية" على أثر الأزمة الأوكرانية. 

-أجندة الدولة الصينية: تسعى بكين لتوظيف علاقتها مع روسيا  فى إدارة الحرب التجارية مع واشنطن وحلفائها، ودفع الشركات الصينية بالاستثمار فى المجالات الحيوية، خاصة مجال الطاقة، إذ إن الصين تُعد عميل رئيسي للنفط والغاز الروسي؛ كما أن البلدين يحكمهم إطار تعاقدى لمدة 20 عاماً لتوريد الغاز. وتم تعزيز أطر الشراكة بين البلدين على هامش فعاليات "أولمبياد بكين"، ليبقى التساؤل حول مدى إمكانية أن يصل تعميق العلاقات الثنائية بين الدولتين إلى التنسيقات العسكرية وبناء التحالفات، بالنظر إلى حجم التطورات بالملفات الجيوسياسية بالمجال الحيوى لدى كلتا الدولتين!.

-انعكاسات محدودة: تتعلق تلك النقطة باختبار مدى فاعلية العقوبات المفروضة على الاقتصاد الروسي، والتي يُرجح "محدودية التأثير"، إذ إن قياس الأثر لـ "سلاح العقوبات" يستغرق وقتا طويلا لبيان حجم التداعيات، فضلا عن التحرك المضاد من جانب روسيا عقب وضعها "تقديرات نوعية" لخيارات التحرك الأمريكي/ والغربى، وسيناريوهات المواجهة، خاصة أن إستراتيجية موسكو القائمة فى إطار سياساتها نحو إعادة تموضع "روسيا العظمى"، تدفع بها نحو ترجيح ضمان استقرار المعادلات الأمنية فى مجالها الحيوى بالمنطقة مقابل الاختبارات الغربية لخيارات "التقويض الاقتصادى" لنظام بوتين.  

فى ضوء ما تقدم، فإنه على الرغم من تنامى الرؤي المتباينة حول مدى نجاح "العقوبات الغربية" لتقويض النظام الاقتصادى لموسكو، ومحاصرتها بعيدا عن مجالها الحيوي، إلا أن الخبرة التاريخية، جنبا إلى جنب، مع الإجراءات الروسية السابقة للتكييف مع ذلك الأمر سابقاً، أفضى إلى حالة من "اليقين"، و "الثقة"  لدى مختلف القواعد الشعبية فى اختيارات صانع القرار، وترجيحاته لحسم "اختبار الاستقرار" للمعادلات الأمنية الجيوسياسية التى تم إقرارها وفقا لإستراتيجية "روسيا العظمى"، مقابل الانحسارات الاقتصادية "المتوقعة"، التى تم العمل خلال السنوات السابقة على احتواء تداعياتها ، وتم اختبار الأمر منذ عام 2014 عقب أحداث شبه جزيرة القرم ، ليصبح التحدى الرئيسي، ليس فقط فيما يمكن أن تئول إليه الاقتصاد الروسية، لأن واقع الأمر ستحظى فقط بتأثيرات محدودة ، وعلى فترات زمنية متباينة، ولكن ما يمكن أن يؤول إليه "الاقتصاد العالمى ، والنظام المالى والتجارى العالمى" من حالة إرباك فى ظل "الارتدادات المضطربة" لسلاح العقوبات الغربية على كافة الملفات الاقتصادية المتشابكة دوليا، مثل "ملف الطاقة ، سلاسل الإمداد،  السلع الزراعية وما يتعلق بضمان "الأمن الغذائى"، إذ إن مثل تلك الملفات لازالت تُشكل "التخوفات ذات الأولوية" بالبحث، وخلق مسارات بديلة توازن حجم تلك التداعيات المُحتملة على الاقتصاديات الوطنية للنظام الدولى ككل، جانبا إلى جنب مع تقييم خطوات "التعافى المرن" لاقتصاديات النظام الدولى جراء الانعكاسات السلبية لجائحة كورونا  من جهة، ومن جهة أخرى، احتمالات طرح أو "إنتاج" بدائل محلية، وإقليمية، موازية لآليات وأدوات النظام المالى والتجارى العالمى بما يسهم فى استقلالية "صنع القرار الخارجى" بمنأى عن إملاءات الكتلة الغربية والدول الكبرى بالنسق الدولى، فضلا عن انحسار "تابوهات –محرمات- الهيمنة" لنسق "الأحادية القطبية"، والدفع نحو إعادة تقييم نظرية "الأقطاب الدولية"، والأدوار المتباينة لنظرية "اللاعبين" فى حقل العلاقات الدولية، استنادا إلى ما ستئول إليه التحركات الروسية الأخيرة نحو إعادة التموضع بمجالها الحيوى.

 


رابط دائم: