أزمة كاشفة: معوقات الدور الأوروبي في الأزمة الأوكرانية
28-2-2022

رحاب الزيادى
* باحثة - المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية

أسهمت الأزمة الأوكرانية- الروسية في تسليط الضوء على الضعف الحالى الذي تعانيه الدول الأوروبية، لاسيما في ظل عدم وجود أجندة مشتركة للأمن والدفاع بينها، وقد كشف الهجوم الروسي على أوكرانيا، والاعتراف باستقلال إقليمي لوجانسك ودونيتسك، عن تعدد التهديدات الأمنية التي تواجه أوروبا جراء هذه الأزمة، الأمر الذي أثار تساؤلات حول مدى قدرتها على صياغة سياسة أمنية مشتركة مستقلة بعيدا عن الحليف الأمريكي، حيث لا تزال دول الاتحاد الأوروبي تعتمد على قوات عسكرية من خارج الاتحاد، بالرغم من الاتفاق على معاهدة ماستريخت 1992، التي نصت على إنشاء اتحاد اقتصادي ونقدي، وإنشاء البنك المركزي الأوروبي، وكذلك تبنى سياسة خارجية وأمنية مشتركة، يمكن أن تؤدى إلى إقامة منظومة دفاع مشترك.

تداعيات متعددة ودوافع متجددة:

تم التأكيد مراراً وتكراراً في سياقات أزمات ماضية على ضرورة استقلال القرار الأوروبي، وتحدث كثير من القادة الأوروبيين، خلال مؤتمر ميونخ للأمن في الفترة من 18- 20 فبراير 2022 على ضرورة استقلالية القرار الأوروبي، حيث صرحالمستشار الألماني أولاف شولتس قائلاً "نحتاج إلى الوضوح من جانب الأوروبيين، عندما يتعلق الأمر بانعدام الأمن والأمور ذات الصلة، فإن هناك تحولاً جيوسياسياً يحدث. بالنسبة للولايات المتحدة، ستبقى مركز الثقل، حتى إذا حدث تغير طفيف في النظام الدولي، ويجب تعزيز الأمن الأوروبي، والأوروبيون يجب أن يعملوا معاً ليتخذوا قرارات مستقلة إذا أرادوا تقوية موقع الاتحاد الأوروبي. وأقصد هنا أيضاً دول البلطيق، وعلينا أن نوسع الثقافة الأوروبية لتشمل كل الدول التي تنتمي إلى هذه القارة".

كذلك، في سياق الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، واتجاه الولايات المتحدة لفك الارتباط بمنظومة الأمن الأوروبي والتوجه نحو آسيا، ركزت التصريحات الأوروبية على ضرورة الاستقلال الاستراتيجي، حيث صرّح الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشئون الخارجية جوزيب بوريل قائلاً: "يجب أن نحيا بمفردنا، كما يفعل الآخرون، ومن الواضح أن الحاجة إلى المزيد من الدفاع الأوروبي لم تكن أبدًا بنفس القدر من الوضوح اليوم بعد الأحداث في أفغانستان".

وقد بدأ يبرز مفهوم الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي لأول مرة من قبل مجلس الشئون الخارجية للاتحاد الأوروبي في ديسمبر 2013، وركز المفهوم على جانبي الأمن والدفاع، وضمان استقلاليتهما. لكن لم يتم تعريفه صراحة، وتم ترقيته بوصفه طموحًا استراتيجيًا أوسع في الاستراتيجية العالمية للاتحاد الأوروبي لعام 2016، والتي تمت الموافقة عليها فورًا بعد استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وضاعفت الأحداث الأخيرة أهمية المفهوم، وكان أبرز تلك الأحداث الخروج الأمريكي من أفغانستان بهذا الشكل المهين للقوى الأوروبية، نظرًا لعدم إشراكهم في مفاوضات الخروج، بل الاكتفاء بمجرد إبلاغهم. وكذلك توقيع اتفاقية "أوكوس" التي كانت أولى نتائجها خسارة فرنسا لعقد تصنيع غواصات لاستراليا، والتفاوض بسرية للوصول لمثل هذا الاتفاق، دون الاكتراث بتنبيه أو إبلاغ الجانب الفرنسي.  وجاءت الأزمة الأوكرانية لتضيف تهديداً جديداً للدول الأوروبية، وما دلل على ذلك تصريحات كبار المسئولين الأوروبيين حيث صرح الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشئون الخارجية والأمنية جوزيب بوريل قائلاً: "روسيا أحدثت في أوكرانيا التهديد الرئيسي للسلام والاستقرار في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية".

كما أضافت الأزمة الأوكرانية إلى تهديدات الأمن الأوروبي بعدا آخر هو أمن الطاقة، في ظل احتمالية توظيف روسيا لسلاح الطاقة والتأثير على الامدادات الأوروبية بسبب العقوبات التي تفرض على روسيا، حيث تمثل واردات الغاز الروسي إلى أوروبا أكثر من 40%. لذلك، تمثل هذه الأزمة تهديداً لهذه الإمدادات، وهو ما يؤثر بالطبع على الاقتصاد الأوروبي، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة كحليف لهذه الدول الأوروبي في البحث عن بدائل للدول الأوروبية في حال قطع روسيا للغاز.

محددات الموقف الأوروبى فى مواجهة الأزمة:

اقتصر موقف الدول الأوروبية في بداية الأزمة على مجرد التصريحات، وتولت الولايات المتحدة إدارة الأزمة من خلال القيادة والتنسيق بين حلفائها لمواجهة روسيا عبر تقديم مساعدات عسكرية لأوكرانيا، والتهديد بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا، كما تم إجراء مباحثات بين مسئولين من الولايات المتحدة وروسيا في جنيف حول الأزمة الأوكرانية دون مشاركة من مسئولي الاتحاد الأوروبي، ويمكن إرجاع ذلك إلى عدة اعتبارات وثغرات تغلب على الموقف الأوروبي، والتي يمكن توضيحها فيما يلي:

§غياب التوافق حول الاستقلال الاستراتيجي: سبق أن دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى إجراء محادثات أمنية أوروبية مع روسيا بشكل مستقل بغرض إنشاء نظام أمنى جماعي جديد في أوروبا، كما أكد في ظل تولى رئاسة الاتحاد الأوروبي منذ يناير2022، على ضرورة تحقيق الاستقلال التدريجي الأوروبي، لكن الأزمة الأوكرانية مثلت اختباراً للدور الأوروبي، لاسيما في ظل الاعتماد الأوروبي على الولايات المتحدة لمنع اندلاع صراع كبير محتمل على أراضيها، بالإضافة إلى معارضة بعض الدول الأوروبية تحديداً في أوروبا الشرقية والبلطيق لمبدأ الاستقلال الاستراتيجي، بحسبان أن الناتو يحقق هدف الدفاع الجماعي، وهو الضامن التقليدي للأمن الأوروبي، وأن تعزيز الدور الأوروبي في الأمن والدفاع قد يقود إلى إضعاف حلف الناتو، ويقلل من الاعتماد على الأصول العسكرية الأمريكية.

§ تباين الموقف الأوروبي من الأزمة: تباينت الدول الأوروبية فيما بينها في بداية الأمر حول التعاطي مع الأزمة الروسية- الأوكرانية، حيث تمثل الموقف الفرنسي في أوروبا قوية ومستقلة استراتيجيا، لاسيما أن الرئيس الفرنسي يسعى إلى تعزيز دوره الأوروبي مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في أبريل 2022، والبحث عن دور زعيم أوروبي صانع للسلام، بينما رفضت ألمانيا إمداد أوكرانيا بالأسلحة، ولم تسمح لإستونيا بتصدير أسلحة ألمانية إلى أوكرانيا.

بينما قامت بريطانيا بتزويد كييف بـ 2000 صاروخ قصير المدى مضاد للدبابات، وقاذفات قنابل يدوية مضادة للدبابات من طراز "إن.إل.أى.فى"، كما أسهمت في إرسال متخصصين لتدريب الجيش الأوكراني، وتحاول بريطانيا أن تثبت للولايات المتحدة أنها الحليف الأمريكي الذى يمكن التعويل عليه. ورفضت كل من ألمانيا وإيطاليا سيناريو التصعيد ضد روسيا، حيث تعول ألمانيا على مشروع نورد ستريم2 مع روسيا لتقليل الاعتماد على الطاقة النووية والفحم، كما أن إيطاليا تعتمد بشكل كبير على واردات الغاز الروسي بنحو 46%، ومن ثم ليس لديها رغبة في التصعيد ضد روسيا.

§ اختلاف أولويات التهديدات: أظهرت الأزمة الأوكرانية غياب التوافق الأوروبي،وعدم القدرة على صياغة سياسة أمنية مشتركة تجاه الأزمة، لاسيما في ظل اختلاف أولويات التهديدات بين الدول الأوروبية، حيث تخشى بولندا من المهاجرين القادمين من بيلاروسيا ويحاولون الوصول إلى أوروبا، وتتخوف كل من بولندا ولاتفيا من التهديد الأمني الذي تمثله روسيا شرقاً، بينما تخشى كل من فرنسا والسويد من الهجمات السيبرانية الروسية في انتخاباتهما الوطنية، أما ألمانيا وإيطاليا فهما متخوفتان من نقص الطاقة.

§ محدودية الإنفاق الدفاعي الأوروبي: يظل الإنفاق الدفاعي للاتحاد الأوروبي محدوداً حيث قدّر ميزانيته الخاصة بالأمن والدفاع للفترة من 2021-2027 بـ13 مليار يورو، وتعتمد الدول الأوروبية بشكل كبير على حلف شمال الأطلسي كتحالف دفاعي، قام بردع العديد من أشكال العدوان في السنوات الماضية، ويقدر إنفاق أعضاء الناتو الأوروبيين في 2020 بـ 1.77% من الناتج المحلى الإجمالي.

لكن في ظل تصاعد الغزو الروسي لأوكرانيا، اجتمع القادة الأوروبيون في قمة غير اعتيادية عقب الغزو الروسي، وتقرر مطالبة روسيا بوقف الأعمال العدائية وسحب قواتها العسكرية من أوكرانيا، وتحول الموقف الأوروبي من الاقتصار على التصريحات إلى التنفيذ الفعلي، واستخدمت الدول الأوروبية العقوبات الاقتصادية لمحاولة ردع روسيا، حيث أعلنت ألمانيا تعطيل العمل في خط نورد ستريم الذي يمدها بالغاز الروسي عبر بحر البلطيق، وطالت العقوبات قطاعات المال والطاقة والمواصلات والصادرات والتأشيرات، لكن رفضت كل من ألمانيا وإيطاليا خيار عزل روسيا عن سويفت في البداية، باعتباره سيضر البنوك الأوروبية وليس فقط القطاع المالي الروسي. ثم تم إقراره بعد 48 ساعة من الاجتماع، وطرحت دول الاتحاد مرة أخرى مسألة عزل البنوك الروسية عن نظام سويفت بالتنسيق مع بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا، وتمت الموافقة على هذا المقترح.

كما تم إقرار عقوبات جماعية ضد البنك المركزي الروسي وعدد من الأثرياء والنخبة المقربة من الرئيس الروسي،  لكن الرد العسكري الأوروبي لم يكن مطروحاً في إطار التعامل مع الأزمة، باعتبار أن الاتحاد الأوروبي ليس تحالفا عسكريا، وأن حلف شمال الأطلسي هو المسئول في هذا الصدد، لكن الأزمة الروسية- الأوكرانية كشفت عن غياب قوات أو جيش أوروبي موحد ومستقل قادر على مواجهة أزمة في محيطها المباشر.

وأخيراً، يمكن القول إن الموقف الأوروبي سوف يقتصر على العقوبات الاقتصادية باعتبارها الأدوات الأساسية التي يستخدمها الاتحاد الأوروبي، إلى جانب إرسال مساعدات إنسانية وإغاثية، واستقبال اللاجئين الأوكرانيين في دول الاتحاد المتاخمة، وتقديم بعض المعدات العسكرية الدفاعية، والاتجاه إلى عقد مفاوضات روسية- أوكرانية.


رابط دائم: