الأزمة الروسية - الأوكرانية و عودة الاعتبار لـ "الجيوبوليتيك"
1-3-2022

زياد زكريا
* باحث فى العلوم السياسية

كثيرًا ما تم تصوير أبحاث "الجيوبوليتيك" على أنها طريق مسدود، وأن الجيوبوليتيك لم يصبح لها دور أو صلة بأهم القضايا الاستراتيجية الكبرى التي تدور في العالم وتوثر فيه. الجيوبوليتيك يتلخص تعريفها في أنها دراسة آثار جغرافية الأرض على السياسة والعلاقات الدولية من خلال السعي للسيطرة على المناطق الجغرافية ذات الأهمية الدولية والعالمية، واستخدام هذه المناطق لتحقيق مكاسب ومزايا سياسية، فتطور الدولة ونموها وارتقائها يرتبط ارتباطا وثيقا بالعوامل الجغرافية.

ويشهد العالم الحرب الروسية فى أوكرانيا، وإعلان روسيا يوم بعد الآخر السيطرة علي العديد من المناطق الأوكرانية الاستراتيجية مثل إقليم دونباس الغني بالموارد الطبيعية والمساحات الزراعية الشاسعة، ومدينة خيرسون التي تعد مركزا إداريا واقتصاديا مهما علي البحر الأسود، بالإضافة إلي مدينة ميليتوبول المعروفة بأهميتها الزراعية وغيرها من المناطق الأوكرانية الغنية بالموارد والثروات التي لن تلبث أن تقع تحت السيطرة الروسية. تلك الأحداث المتعاقبة خلال الأيام الماضية أدت الي العديد من التحليلات المختلفة لمعرفة الدوافع الروسية وراء ذلك الغزو ولكن، أما آن الأوان لإعادة الاهتمام بالدوافع الجيوبوليتيكية كعامل أساسي في التأثير علي السياسات الدولية؟

وعليه، ينقسم التحليل إلي ثلاثة محاور من شأنها توضيح الدوافع والأسباب الجيوبوليتيكية وراء ذلك الغزو، كالآتي:

- بعض نظريات الجيوبوليتيك وتطبيقاتها علي الوضع الراهن.

- أهمية أوكرانيا للعالم.

- أهم الاعتبارات الجيوبوليتيكية الروسية.

أولًا- نظريات الجيوبوليتيك والوضع الراهن:

يعد ألكسندر دوجين من أبرز الشخصيات الجيوبوليتيكية الروسية المعاصرة، وهو صاحب النظرية الأوراسية التي تنطوي علي ضرورة وضع روسيا في مركز العالم، وارتقاء الشعب الروسي إلى مرتبة أسياد القارة. يجادل دوجين بأن الروس ظهروا في فجر التاريخ وسبقوا كل الشعوب الأخرى. هذا هو السبب في أنهم يستحقون أن يحكموا كل شعب آخر في القارة الأوراسية. ومن المعروف تأييد دوجين لسياسات بوتين الخارجية مع دول العالم.

طور فريدريش راتزيل -أحد أهم أقطاب الجيوبوليتيكا الألمانية- النظرية العضوية. حيث اعتبر أن الهيئات والكيانات السياسية كالدول تتصرف بطريقة مماثلة لتلك الموجودة في الكائنات الحية، فمن أجل البقاء يجب على الجسم السياسي أن ينمو ويضم أراضي جديدة، حيث إنه كلما نما أكثر، أصبح أكثر صحة وقوة. وبتطبيق ذلك علي روسيا نجد أن روسيا قامت بتوسيع نطاق نفوذها بشكل كبير في ظل حكم بوتين في العقدين الماضيين. بينما الآن، وكما نلاحظ من خلال الغزو الروسي لأوكرانيا، فإن روسيا تعتزم مواصلة توسعها من أجل أن تصبح روسيا أكثر قوة وهيمنة عالميا بتلك التوسعات وأكثر أمنا.

بينما يتجه دي لابلانش اتجاها مغايرا لاتجاه المدرسة الألمانية في تفسيره الجيوبوليتيكي للأسباب الكامنة وراء اندفاع الدول إلى التوسع، إذ يرى أن راتزل وأتباعه يبالغون بشكل واضح في تقييم العامل الطبيعي، إذ يعدونه العامل الأساسي للتوسع، فيجادل دي لابلانش من خلال نظريته “possibilism”أن الإنسان هو محور توسعات الدولة، حيث إن البيئة لا تملي ما سيصبح عليه الناس، فالبيئة توفر فقط الفرص والاحتمالات للأشخاص الذين بدورهم يختارون من بينها ما يرغبون في تحقيقه، فصناع القرار هم فقط من يجعلوا من العامل الجغرافي فعالا أو غير ذلك. وتلك النظرية تتماشي مع العديد من الافتراضات التي تقول إنه لولا وجود شخص مثل بوتين في رئاسة روسيا بميوله ورغبته الدائمة في فرض السيطرة والقوة الروسية عالميا ورفضه الذي أعلنه في العديد من المناسبات لسقوط الاتحاد السوفيتي، لما غزت روسيا أوكرانيا من الأساس. فمن الممكن أن تكون رغبة بوتين إعادة تشكيل الاتحاد السوفيتي من جديد دون النظر لأي عواقب دولية، الأيام ستوضح ذلك.

كما طور هالفورد جون ماكيندر نظرية هارتلاند في مقالته عام 1904 ، "المحور الجغرافي للتاريخ". في هذه النظرية، اقترح هالفورد جون ماكيندر أن كل من يتحكم في القلب (أوروبا الشرقية) ، يمكنه في النهاية التحكم في العالم، لأن ذلك يمنحه ميزة استراتيجية ويمكنه بسهولة السيطرة على إفريقيا وأوروبا وآسيا اقتصاديا وعسكريا. وبالنظر إلي الهجوم الروسي في أوكرانيا الواقعة في شرق أوروبا نجد أن لروسيا العديد من المكتسبات الاقتصادية والعسكرية من هذا الغزو؛ نظرا للموقع الاستراتيجي لأوكرانيا وغناها بالموارد التي تزيد روسيا قوةً وتجعلها لا تتأثر بأي عقوبات أو مقاطعات دولية، ومن منطلق الأهمية الاقتصادية ننطلق نحو المحور الثاني الذي يجيب عن سؤال مهم ألا وهو، الي أي مدي تعد أوكرانيا مهمة بالنسبة للعالم ككل؟

ثانيًا- أهمية أوكرانيا للعالم:

لدي أوكرانيا مجموعة متنوعة من الموارد الطبيعية، حيث يمكن تقسيم الموارد الطبيعية لأوكرانيا إلى ثلاث مجموعات رئيسية؛ موارد الطاقة والخامات المعدنية والخامات غير المعدنية. على الرغم من أنها تمثل فقط 0.4٪ من سطح الأرض و0.8% من سكان العالم، إلا أن البلاد تمتلك ما يقرب من 5٪ من الموارد المعدنية في العالم. يمكن العثور على أكثر من 20000 رواسب من 194 معدنًا معروفًا في أوكرانيا منها المعادن الصناعية الثمينة. كما تمتلك أوكرانيا أحد أهم الاحتياطيات واستخراجات المنجنيز والحديد والمواد الخام غير المعدنية. وفيما يلي بعض الموارد الطبيعية الرئيسية لأوكرانيا:

1) الفحم، وهو مادة خام رئيسية للوقود الحفري يمكن أن يلبي احتياطيها الطلب على الطاقة والصناعة في أوكرانيا لمدة 500 عام مقبلة، فهو يعد أكبر مورد حفري للهيدروكربونات في أوكرانيا، حيث يمثل 95٪ من الموارد الحفرية. وتمتلك أوكرانيا سابع أكبر احتياطي فحم في العالم، وثاني أكبر احتياطي فحم في أوروبا.

2) النفط والغاز الطبيعي، امتلكت أوكرانيا أكثر من 1.1 تريليون متر مكعب من احتياطيات الغاز الطبيعي في عام 2004، مما جعلها تحتل المرتبة 26 بين الدول التي لديها احتياطيات غاز مؤكدة قبل ضم شبه جزيرة القرم. كما يقدر أنها تحتوي على أكثر من 135 مليون طن من النفط، و3.7 مليار طن من احتياطيات النفط الصخري.

3) خام الحديد، تمتلك أوكرانيا وحدها ما يقدر بنحو 27 مليار طن من احتياطيات خام الحديد، وتحتل المرتبة السادسة في إنتاج خام الحديد العالمي.

4) خام المنجنيز، تعد أوكرانيا من بين أكبر عشرة منتجين لخام المنجنيز في العالم، ولديها أكبر احتياطي لخام المنجنيز في أوروبا.

5) اليورانيوم، تمتلك أوكرانيا أكبر رواسب لليورانيوم في أوروبا، وتشكل 1.8٪ من رواسب اليورانيوم في العالم، وتحتوي الاحتياطيات المؤكدة عام 2019 على 45600 طن من اليورانيوم.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الزراعة هي المحرك الرئيسي لنمو الاقتصاد الأوكراني. عُرفت أوكرانيا باسم "سلة الخبز في أوروبا" ، حيث تمثل نحو 25 ٪ من التربة الأكثر خصوبة في العالم. أوكرانيا هي أكبر مصدر لزيت عباد الشمس في العالم، وأحد أكبر مصدري الحبوب. ومن المحاصيل الزراعية الأساسية التي تجعل أوكرانيا من رواد العالم في مجال الزراعة الحبوب ومحاصيل الأعلاف، بما في ذلك القمح والذرة والشعير وعباد الشمس وبنجر السكر والبقوليات والفواكه والخضراوت.

ثالثًا- أهم الاعتبارات الجيوبوليتيكية الروسية:

1) بالنظر إلي تطورات الوضع في أوكرانيا والزحف الروسي المستمر داخل المناطق والأقاليم الأوكرانية، نجد أن القيادة الروسية نجحت في توظيف المعطيات الجيوبوليتيكية بهدف تحقيق والدفاع عن مصالح الدولة ورسم مستقبل لروسيا ممتد على المنطقة الأوراسية التي تشمل أوكرانيا ذات الموقع الجغرافي المهم للتصدي للمحاولات الغربية لتطويق روسيا الاتحادية.

2) القيادة السياسية الروسية، من ناحية أخري، رأت أن احتمالية انضمام أوكرانيا لحلف الناتو هو أمر مرفوض تماما، لأنه بالتبعية سيؤدي الي قواعد للناتو علي حدود روسيا الاتحادية.

3) السيطرة علي الأقاليم الأوكرانية الاستراتيجية تفتح الباب لروسيا للمزيد من التوسع والقوة الاقتصادية.

كل هذه الاعتبارات توضح مدي أهمية التناول الجيوبوليتيكي للقضايا الاستراتيجية الكبري؛ فعلي الرغم من زعم البعض أن الجيوبوليتيك لم تعد ذات أهمية للقضايا الدولية، فإنه من خلال الغزو الروسي لأوكرانيا نري أنه يفتح الباب للعديد من التحليلات والتفسيرات للظواهر والقضايا التي تشغل العالم.


رابط دائم: