الرابحون والخاسرون.. إلى أين تتجه أسواق النفط العالمية؟
26-10-2021

د . أحمد سلطان
* مهندس استشارى- رئيس لجنة الطاقة بنقابة مهندسين القاهرة


قفزت أسعار النفط، خلال الربع الحالي من عام ٢٠٢١، متجهة نحو تحقيق مكاسب هائلة تتجاوز ٢٠٪ وسط دلائل متزايدة على شح المعروض خلال الأشهر القليلة المقبلة، مع زيادة التوقعات بالتحول إلى المنتجات النفطية في ظل الارتفاع الشديد في أسعار الغاز الطبيعي والفحم، وارتفع سعر البترول في العقود الآجلة لخام مزيج برنت ۸٧ سنتا أو ١٪ إلى 85.7 دولار للبرميل، وهو أعلى سعر منذ أكتوبر ٢٠١۸. ومع تسبب إطلاق اللقاحات بتخفيف تدابير الإغلاق العام الجاري، ارتفعت التوقعات والآمال بأن يزداد الطلب على النفط، ودفعت أزمة الطاقة في النصف الشمالي من الكرة الأرضية أسعار الغاز الطبيعي إلى أعلى مستويات منذ سبع سنوات مما انعكس بدوره على أسواق النفط العالمية.

للمرة الأولى منذ عام ٢٠١۸ .. أسعار النفط تتجه صوب ۸٥ دولاراً:
في الوقت ذاته، تقلّصت مخزونات النفط فيما لم تنجح قرارات زيادة الإنتاج في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) والدول المنتجة غير المنضوية فيها، بما في ذلك روسيا، في الحد من ارتفاع أسعار الخام . ومن الغريب ارتفاع أسعار النفط والغاز بمثل هذه السرعة وفي وقت لم تعد فيه الحياة بعد إلى طبيعتها بسبب الجائحة بصورة كاملة، ويأتي الاستغراب على ضوء أن الصناعة، رغم عودة عجلتها، لم تعد بعد إلى مستواها قبل جائحة كورونا، كما أن السفر والسياحة وقطاعات أخرى لا تزال تئن تحت وطأة تبعات الجائحة.
الارتفاع الجنوني لأسعار النفط والغاز في الربع الأخير من عام ٢٠٢١، والذي وصل على مستوى الغاز الطبيعي، إلى أكثر من ٣٠٠ بالمئة منذ بداية العام الجاري ٢٠٢١، وارتفع معدل سعر برميل النفط مؤخراً إلى أكثر من ۸٠ دولاراً والذي لم يتجاوز سعره ٤٥ دولارا في بداية العام، وأيضا على ضوء توجه المزيد من الدول لرفع إجراءات الحظر المتعلقة بجائحة كورونا، ليس لنا سوى توقع المزيد من الارتفاع الذي يتوقع البنك الدولي أن يكون انحساره قبل عام ٢٠٢٣.

ضحايا ارتفاع أسعار النفط والغاز:
وفي مسلسل الارتفاعات القياسية المتتالية لأسعار المصادر التقليدية للطاقة، تتجه الأنظار أكثر فأكثر للحديث عن تبعات ذلك على صناع ومنتجي ومستهلكي الطاقة في العالم. فزيادة الأسعار رفعت تكاليف الإنتاج الخدمي والزراعي والصناعي، خاصة خدمات النقل، وبالطبع فإن زيادة التكاليف هذه يرحلها الصناعيون والتجار على عاتق المستهلك الذين يعاني في مختلف أنحاء العالم، ولكن بنسب مختلفة من الارتفاع السريع في أسعار مختلف السلع، أما المقصود بالمستهلك هنا فهم أصحاب الرواتب والأجور المحدودة دون الفئات العليا.
خلال الأشهر القليلة الماضية، قيل الكثير والكثير في مسلسل ارتفاع أسعار مصادر الطاقة التقليدية الرئيسية (النفط والغاز) وأسبابه، بدءاً من ضعف المخزون الاحتياطي الأوروبي من الغاز، وانتهاء باتهام شركة غاز بروم الروسية بإبطاء تزويد السوق الأوروبية بالغاز، مروراً بزيادة الطلب عليه مع قدوم فصل الشتاء، وانتهاء بتراجع الاستثمار النفطي للقيام بأعمال الصيانة وزيادة الإنتاج من حقول الإنتاج خلال الجائحة.
وعلى صعيد لغة الأرقام والإحصائيات، بلغت نسبة ارتفاع أسعار عدد كبير من الأغذية في ألمانيا - على سبيل المثال - إلى نسبة تتعدى ٤٥٪ خلال أقل من سنة، وارتفعت أسعار العديد من المفروشات ومواد البناء والمنتجات الحرفية نحو ٦٠٪، كما فقدت الكثير من البضائع في السوق بسبب انقطاع سلاسل التوريد وخطوط الإمداد، وتضاعفت أسعار وسائل النقل المختلفة مرات عدة منذ بداية اندلاع الجائحة، ولم يواكب ذلك الارتفاع والمتغيرات العالمية حتى الآن زيادة تُذكر في الأجور والرواتب على الصعيد العالمي، مع أن الدعم الحكومي للمتأثرين بجائحة كورونا في ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي خفف من وطأة ذلك عليهم.
الذهب الأسود يتألق، عنوان يختصر الحديث عن حركة أسواق النفط والطاقة في الأشهر الماضية بعد اضْطِرار شركات الطاقة إلى سحب كميات كبيرة من مخزونات الخام بسبب الاضطرابات في الإنتاج العالمي.

الرابحون من الارتفاع الجنوني لأسعار الغاز والنفط:
وإذا كان ارتفاع أسعار الغاز والنفط نقمة على المستهلكين وفي مقدمتهم الأسر محدودة الدخل، فإنه يشكل نعمة ومناجم من الذهب الأسود للدول المنتجة والمصدرة لهما كروسيا والدول العربية الخليجية وللدول العربية على التحديد، والتي تعاني من انخفاض أسعار النفط منذ عام ٢٠١٥ بشكل أفقدها نحو نصف عائداتها، وأدى إلى زيادة العجز بنسبة واضحة في موازناتها، وهو الأمر الذي دفع دول كالسعودية والعراق والجزائر إلى الاقتراض الخارجي أو التمويل بالعجز وإصدار السندات بشكل لم يحدث من قبل.
ومع الارتفاع الأخير في أسعار النفط والغاز، يتوقع أن تصل فوائض الدول العربية المصدرة لهما، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، إلى أكثر من ١٦٠ مليار دولار في نهاية عام ٢٠٢١، وأكثر من ١٣٠ مليار دولار في العام المقبل، وهناك فرص واعدة لزيادة صادرات مصر من الغاز على ضوء الطلب العالمي المتزايد عليه كلاعب جديد وأساسي في صناعة الغاز العالمية.
ومن شأن العائدات الجديدة للغاز والنفط أن تكفي لسد عجز الموازنات والاستمرار في دعم أسعار بعض السلع والخدمات، إضافة إلى زيادة أرصدتها من العملات الأجنبية، وهو الأمر الذي سيتيح لها الوفاء بالتزاماتها تجاه الدائنين والاستثمارات الجديدة، وأيضاً للإنفاق في مشاريع البنية التحتية الحيوية، في ظل توقف العديد من المشاريع الحيوية في بلدان العالم المختلفة كالسعودية بسبب تراجع عائدات النفط خلال السنوات الماضية.
الخاسرون من الارتفاع الجنوني لأسعار الغاز والنفط:
وإذا كان ارتفاع الأسعار نعمة للدول المصدرة، وعلى رأسها الدول الخليجية وروسيا والعراق، فإنه يشكل نقمة على الدول العربية المستوردة، لاسيما أنها تعتمد بشكل كبير على الغاز في توليد الكهرباء والاستهلاك المنزلي، ففي دولة مثل تونس -على سبيل المثال- ينبغي على الحكومة التونسية توفير أكثر من مليار دولار إضافي لتمويل تبعات ارتفاع أسعار الطاقة خلال عام ٢٠٢٢. بينما ستعاني المغرب من ارتفاع الأسعار وستكون التكلفة أعلى كون اقتصادها يعتمد بنسبة تزيد على ۸٥٪ على مصادر الطاقة المستوردة، ويقدر مجمل التكاليف الإضافية المترتبة عن ارتفاع أسعار المنتجات البترولية والغاز في الدول العربية المستوردة بأكثر من ٧ مليارات دولار.

الطاقة المتجددة بوابة العبور إلى المستقبل:
بالرغم من أن العديد من الدول العربية تمتلك احتياطيات هائلة من الغاز والنفط، فإن استمرار الاعتماد عليها ليس في مصلحتها فى سبيل سعيها لتحقيق هدفها الرئيسي والمتمثل حالياً في تنويع مصادر دخلها واقتصادها، لاسيما وأن الصناعة الاستخراجية للغاز والنفط لا تولد العديد من الوظائف لأبنائها، ولا توطن الصناعات التحويلية باستثناء مصافي التكرير.
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار التغيرات الأخيرة وتبعات الجائحة، فإن من متطلبات هذا التنويع الاستثمار في قطاعات مستقبلية كالطاقات المتجددة وتقنياتها بدلاً من الاستمرار في ضخ الأموال بأسواق المال والعقارات والسياحة، ويمكنها ذلك من توفير ملايين الوظائف والمساهمة بشكل فعال في تقليص نسبة البطالة التي تتضخم بصورة هائلة ومرعبة، والتي تصل في صفوف الشباب العربى إلى أكثر من ٢٠٪، كما أنها تنهي حالة القلق لتقلبات أسعار الغاز والنفط، والتي لم تشهد الاستقرار على مدى العقود الماضية.
لذا، فإن الاستثمار في مجال مصادر الطاقة المتجددة أصبح حلاً ضرورياً وجذرياً على المدى الطويل وأكثر جدوى من مثيله في الطاقات الأحفورية. وإذا كانت مثل هذه المصادر المتجددة مهمة حتى للدول النفطية الكبرى، فإنها أكثر أهمية للدول العربية غير النفطية التي تمتلك مقومات نجاح الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة على صعيد توافر الظروف المناخية والأيدي العاملة الماهرة في مجال الطاقة المتجددة، ومن هنا يمكننا الاستفادة والاستنارة من التجارب المصرية والأردنية والمغربية في مجال الاعتماد على الطاقة الشمسية، فقد نجح كل منهم في القيام بمشاريع طاقة شمسية ورياح رائدة تغطي أكثر من ٢٥٪ من استهلاك الطاقة الكهربائية في السوق المحلية، وتُعد نسبة كهذه من النسب الجيدة التي تم تحقيقها على المستوى العالمي.
في الأخير، إن تحسن الأسعار القياسي يعكس تفاؤل المستثمرين بشأن تعافي الطلب وسط انتعاش الأسواق مع توالي إطلاق اللقاحات، وانخفاض سرعة انتشار الإصابات بكورونا، وزيادة الطلب بسبب انخفاض درجات الحرارة خلال موسم الشتاء الحالي.

إن ارتفاع أسعار النفط جاء في الوقت الذي يكافح فيه الاقتصاد العالمي للخروج من عثرته الناتجة عن التداعيات السلبية لفيروس كورونا، وهو ما قد يزيد بعض التحديات على اقتصادات الدول.




                


رابط دائم: