مصر وقمة فيشجراد: مخاطبة مخاوف الواقع وتطلعات المستقبل
18-10-2021

د. أماني سليمان
* أستاذ مساعد التاريخ الحديث والعلاقات الدولية بمعهد دراسات البحر المتوسط في كلية الآداب، جامعة الإسكندرية

التقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قادة دول كل من المجر، والتشيك، وبولندا وسلوفاكيا خلال القمة الثانية التي تمت بين مصر ودول تجمع فيشجراد، وذلك في العاصمة المجرية بودابست خلال أكتوبر الجاري. كان الرئيس السيسي قد دعي إلى قمة سابقة عقدت في عام 2017 لمناقشة سبل التعاون بين مصر والدول المذكورة في مجالات تنموية وسياسية على حد سواء. وأعقب القمة الأولى زيارات مهمة لوفود رسمية ضمت ممثلين عن دول التجمع الأربع لمصر، وكان من أبرز نتائجها توقيع اتفاق إقامة المنطقة الصناعية البولندية في إقليم قناة السويس.

أوروبا بين رؤى الاتحاد وخصوصية التجمعات المناطقية:

رغم الوحدة الأوروبية التي مازالت صامدة في مواجهة العديد من التحديات؛ فقد دأبت الدول الأوروبية على الانضمام إلى تجمعات مناطقية -مثل تجمع بينلوكس وتجمع دول الشمال- وهي التجمعات التي تمثل اعتراضا ضمنيا على السياسات الأوروبية الموحدة في كثير من الأحيان، حيث تقدم رؤية، مفادها أن ما يصلح لأوروبا الموحدة قد يتعارض، بل ويصطدم أحيانا برؤى، أو أولويات بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. لذا، نجد أن تجمع  دول فيشجراد الذي بدأ في التسعينيات كمحاولة لتعزيز فرص أعضائه للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي قد أصبح اليوم بمثابة مجموعة مصالح -وأحيانا ضغط- تحاول تحقيق أهداف دول التجمع، والتي قد تخالف أحيانا الرؤية الأوروبية الموحدة.

وتتمثل نقطة الخلاف الرئيسية حاليا بين دول فيشجراد والجماعة الأوروبية في مسألة استضافة الملايين من المهاجرين غير الشرعيين واللاجئين الذين تدفقوا في موجات ضخمة نحو أوروبا منذ اندلاع أحداث ما يسمى الربيع العربي عام 2011. فبينما يصيغ الاتحاد الأوروبي غالبا سياسات وقرارات لها علاقة بالاستضافة والتوطين والتمكين لهؤلاء ممن يعتبرهم الاتحاد لاجئين، نجد أن دول فيشجراد، خاصة المجر ترى أن استقبال هذه الأعداد المهولة من الأجانب لم يكن بالقرار الصائب وتطالب بإجبار القسم الأكبر منهم على العودة إلى أوطانهم الأصلية خارج أوروبا، وفي أسرع وقت ممكن. 


مصر ودول فيشجراد.. تعاون طويل ورؤى مشتركة:

كانت دول تجمع فيشجراد قد أصدرت إعلانا رسميا في ديسمبر عام 2020 أكدت فيها على استيائها من استمرار استضافة أراضيها وأراضي الاتحاد الأوروبي للملايين ممن سمتهم المهاجرين غير الشرعيين. وأكد الإعلان المذكور أن الهدف الذي تراه دول التجمع واجب التحقيق يتمثل في ضرورة عودة أعداد معتبرة من هؤلاء المهاجرين إلى أوطانهم الأصلية، وذلك بمساعدة دول ثالثة خارج الاتحاد الأوروبي. وشددت دول فيشجراد على أن التضامن الإنساني لا يعني الإخلال بمسئولياتهم تجاه أمن ورفاهية شعوب أوروبا، أو توطين المهاجرين غير الشرعيين على حساب المواطنين الأوروبيين. هذا ومن المعروف أن المجر وقيادتها السياسية من أشد المتشككين في سياسات الاتحاد الأوروبي الخاصة باستقبال وتوطين اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين. كما أن رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، وكذلك القيادة السياسية البولندية منذ عام 2015 دأبوا على التحذير من المخاطر الأمنية والاقتصادية التي تصاحب تدفقات المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا، كما أشار أوربان مرات عدة ودون مواربة إلى الماضي المضطرب بين بلاده – وكذلك شعوب البلقان وشرق ووسط أوروبا بشكل عام- والدولة العثمانية، معتبرا أن موجات المهاجرين التي سمح بعبورها إلى أوروبا تهدد البنية الثقافية والدينية واللغوية لشرق أوروبا، وتهدد كذلك السلم الأهلى والمجتمعي بشكل كبير، وتعيد إلى الأذهان ذكريات الصدام مع العالم الإسلامي. كما قامت المجر غير ذات مرة بغلق حدودها البرية مع جيرانها الأوروبيين، خاصة صربيا، لمنع استقبال القادمين؛ وذلك بالمخالفة لقرارات الاتحاد الأوروبي، ودون النظر لتعليمات وكالة الفرونتكس المسئولة عن الحدود الأوروبية المشتركة؛ فيما عٌد خروجا صريحا وثائرا على قرارات الاتحاد الأوروبي.

لذا، فقد أتت كلمة الرئيس السيسي لتوضح موقف مصر وجهودها فيما يخص الهجرة غير الشرعية عبر البحر المتوسط. حيث أكد السيسي على قدرة مصر المتنامية على السيطرة على حدودها البحرية ومنع  قوارب الموت من الانطلاق من سواحلها حاملة المصريين والأجانب نحو أوروبا. كما أكد الرئيس على التزام مصر الأخلاقي تجاه أوروبا، وتجاه اللاجئين والمهاجرين على حد سواء؛ فلم تفتح مصر حدودها البحرية أو تسمح بعبور موجات اللاجئين عبر أراضيها إلى أوروبا بغية تصدير المشكلة إلى جيران الشمال، وهي اشارة مهمة إلى الدور اللا أخلاقي الذي قامت به قوى إقليمية للضغط على جيرانها الأوروبيين عندما فتحت حدودها البرية والبحرية على مصراعيها عامي 2015 و 2016 لتقذف بمشكلة اللاجئين في وجه أوروبا، بل وتساومها إما على استضافتهم، أو على الأقل تقديم الدعم الأوروبي سياسيا وماديا لتحمل هذا العبء.

كما أشار الرئيس السيسي في كلمته إلى أن مصر رغم التحديات الاقتصادية الصعبة التي تواجهها لم ترض بمحاصرة اللاجئين في مخيمات أو معسكرات بل اعتبرتهم ضيوفا يعيشون على أراضيها بين مواطنيها، بل وسمحت لهم دون تمييز عن المواطنيين المصريين بالالتحاق بالمدارس العامة والعلاج في مستشفيات الدولة، وحتى الحصول على لقاحات كوفيد-19 دون أية تفرقة أو استثناء.

آفاق التعاون بين مصر وشعوب شرق ووسط أوروبا:

إن العلاقات المصرية مع دول فيشجراد ليست وليدة اليوم، بل تمتد إلى عشرينيات القرن الماضي، والتي شهدت إقامة العلاقات الدبلوماسية بين مصر ودول التجمع تباعا. كما أن تاريخ مصر المعاصر يذكر صفقات الأسلحة التشيكية، ومساهمات تشيكوسلوفاكيا (السابقة) بالعناصر الفنية في بناء السد العالي، وأيضا مساهمات المجر في تطوير مرفق السكك الحديد في مصر. كما أن التعاون مع بولندا ممتد منذ أكثر من مئة عام، بل ويتنوع ليشمل جوانب ثقافية وصحية، منها نشاطات المركز البولندي للآثار بالقاهرة، وحتى إهداء بولندا أكثر من مئة ألف جرعة من لقاح استرازنيكا للشعب المصري في سبتمبر الماضي، علاوة على مشروع المنطقة الصناعية البولندية سالفة الذكر.

لذا، فالتعاون مع دول فيشجراد يمثل إحدى محطات تعزيز دوائر التعاون بين مصر ودول أوروبا كافة، والتي بدأت بتدعيم المحور المصري-اليوناني- القبرصي في شرق المتوسط، وهو ما أعقبه التوجه نحو دول البلقان ووسط أوروبا متمثلة في دول فيشجراد، بحيث لا تقتصر شراكات مصر التنموية والاقتصادية على دول غرب أوروبا فحسب، ولا حتى تقتصر على الشراكة مع الاتحاد الأوروبي بصورته الجماعية.

وتعد مصر حاليا بمثابة الشريك الأهم لدول فيشجراد في الشرق الاوسط وشرق البحر المتوسط، حيث كانت بولندا قد دخلت في صدام كبير مع إسرائيل عام 2019 بسبب تصريحات لرئيس الوزراء الإسرائيلي -آنذاك- بنيامين نتنياهو ووزير خارجيته إسرائيل كاتز التي علقا بها على ضلوع وتواطؤ العديد من البولنديين مع ألمانيا النازية لإبادة اليهود في المحرقة، وهو ما ترتب عليه إلغاء قمة فيشجراد مع إسرائيل والتي كان من المزمع إقامتها في القدس في العام نفسه. وكانت إسرائيل تعول على عقد القمة في القدس تحديدا لتعديل وجهات النظر الأوروبية بشأن السياسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، بالإضافة إلى مباحثات تخص قضايا تكنولوجية وتنموية. أما رؤية دول فيشجراد فيشوبها التشكك والاحتقان تجاه القوى الإقليمية التى تتعمد تصدير مشكلة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، خاصة في إطار استياء دول التجمع من إصرار تلك القوى على إحياء خطابات ماضوية تحمل حساسية خاصة وذكريات مريرة ترتبط بأحداث ارتكبت ضد شعوب دول التجمع في الماضي، وهو ما يجعل الماضي والحاضر يندمجان ليخلقا حالة من التوتر الشديد لم تسمح لتلك القوى بالتقارب مع دول فيشجراد إلا من خلال الاجتماعات الوزارية المحدودة، وليس القمم الرئاسية.

ومما تقدم، نستخلص أن مصر حاليا هي الشريك الأهم لمجموعة فيشجراد في الشرق الأوسط وشرق البحر المتوسط، خاصة في ضوء دعوة الرئيس السيسي للمشاركة بالقمة لمرتين يفصلهما سنوات قليلة. ونجح الرئيس السيسي في كلمته أمام القمة في الإشارة إلى أن التنمية والتعاون التكنولوجي -في مجالات التعليم العالي والتدريب والمهني وغيرها، مما يحسن من الأوضاع الاقتصادية للشعب المصري وشعوب المنطقة- ستؤدي بالضرورة إلى تراجع الأسباب التي تدفع بالشباب إلى خوض رحلات الموت باتجاه أوروبا.

إن مشاركة مصر في قمة فيشجراد وكلمة الرئيس المصري لقادة التجمع التي خاطبت مخاوفهم وعرضت أيضا تطلعات وطموح الشعب المصري تعد خطوة مهمة في سبيل تحقيق التوازن في علاقات مصر الخارجية وإصرارها على خلق محاور تنموية جديدة اقتصادية وتكنولوجية تتوافق مع تطلعات الشعب المصري نحو مستقبل أفضل.

مصادر:

- إعلان فيشجراد بشأن الهجرة غير الشرعية الصادر في ديسمبر 2020

https://www.visegradgroup.eu/download.php?docID=457

- توقيع اتفاقية تأسيس المنطقة الصناعية البولندية في اقليم قناة السويس

https://gate.ahram.org.eg/News/2761141.aspx

- إلغاء قمة فيشجراد وإسرائيل

https://www.dw.com/en/visegrad-group-cancels-israel-summit-after-poland-row/a-47563872

- الاستجابة الأوروبية للاجئين من منظور الأمن الانساني، مجلة السياسة الدولية، ملحق اتجاهات نظرية، عدد يوليو 2016.


رابط دائم: