أفكار على مسار التنمية(5): مرض الركود التضخمي بين المُسكنات والعلاج
11-10-2021

د.وليد عبد الرحيم جاب الله
* خبير الاقتصاد والمالية العامة، عضو الجمعية المصرية للاقتصاد والإحصاء والتشريع

في 17 أكتوبر 1973، وافق وزراء أوبك على استخدام النفط كسلاح لمُعاقبة الغرب على دعم إسرائيل لتبدأ المملكة العربية السعودية، وليبيا، ودول عربية أخرى حظر الصادرات النفطية للدول المُساندة للكيان الصهيوني، بينما رفضت بعض الدول العربية المُشاركة في تلك المُقاطعة النفطية. ورغم أن الأثر الكمي لقرار المُقاطعة كان محدوداً، حيث لم ينخفض الإنتاج العالمي بأكثر من 5%، إلا أن أسعار النفط ارتفعت بنحو أربعة أضعاف. وإذا كانت المُقاطعة النفطية لم تستمر لأكثر من شهرين، إلا أن أسعار النفط لم تنخفض، ودخل العالم في التعامل مع مُستويات جديدة أكثر ارتفاعاً لأسعار النفط.

ومع الترحاب الشديد من البُسطاء في العالم بقرار المُقاطعة، إلا أنه أصابهم بأضرار كبيرة، حيث إن ارتفاع أسعار البترول ترتب عليه زيادة تكاليف النقل والإنتاج بالدول الصناعية، لترتفع أسعار كل شيء عالميا بصورة انخفضت معها القوة الشرائية لكل سكان العالم الذي دخل في مرحلة ركود تضخمي، أضرت الجميع باستثناء عدد محدود من الدول النفطية.

فعندما ارتفعت أسعار البترول، ارتفعت أسعار المُنتجات، فتراجعت مُشتريات المواطنين، فانخفض الطلب، فأبطأ المُنتجون من نشاطهم وتراجعت إيراداتهم، ليفقد الملايين أعمالهم ورواتبهم، مما دفع لانخفاض أكبر في الطلب، ليدخل العالم في دائرة من ركود شديد، كان بمثابة رصاصة الرحمة لنظام اقتصادي مُتهالك.

فالنظام الاقتصادي القائم على الأفكار الكينزية لتدخل الدولة، والذي يُعتبر في ذاته نموذج اقتصاد حر أقرب ما يكون للاشتراكية، انتشر في العالم منذ بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، بالتوازي مع نجاحات الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي. ولكن مع دخول حقبة السبعينيات، احتاج هذا النظام لتجديد، وكانت تداعيات ارتفاع أسعار البترول في السبعينيات وما ترتب عليها من ركود تضخمي هي السبب الأخير لإنهاء حقبة الاقتصاد الكينزي، لينتظر العالم لحظة فارقة، وهي تولي مارجريت تاتشر رئاسة وزراء المملكة المُتحدة عام 1979، وتولي الرئيس ريجان حكم الولايات المُتحدة عام 1981، واللذين قادا عملية علاج  اقتصادي شامل بدفع العالم نحو النموذج النيوليبرالي، الذي يدعو لتقليص دور الدولة لأدنى حد، وانسحابها كلياً من النشاط الاقتصادي، وترك السوق تصحح نفسها، مع تقرير تقسيم عمل جديد أطلق عليه اسم "العولمة" بأن تتخصص كل دولة في إنتاج ما تتميز به ويُمكنها إنتاجه بأقل تكلفة، ثُم تتم عملية تبادل تجاري تُحقق مصالح الجميع. وقد اقترنت تلك العولمة بتنظيمات ثقافية، ومؤسسات دولية تُرسخ من وجودها، فأصبحنا أمام روشتة علاج واحدة تُقدمها المؤسسات الدولية لعلاج كافة المُشكلات الاقتصادية، تقوم على أن تلتزم الدول بمعايير مُعينة في كل شيء وإلا سيتراجع تصنيفها بصورة تؤثر على تفاعلاتها العالمية، وسترفضها شعوبها بعد أن تجاوزت ثقافة العولمة حدود الدول لتصل إلى المواطنين بصورة مُباشرة عن طريق شبكة الإنترنت وما يرتبط بها من وسائل إعلام وتأثير حديث.

لسنا في مجال تقييم النموذج النيوليبرالي، ولا العولمة، ففي كل الأحوال لم يكن أمام معظم دول العالم سوى التعامل مع ذلك الواقع ومُحاولة المُقاربة بينه وبين واقعها المحلي، وصناعة النجاح بما يُمكن من أدوات وآليات. القضية هنا أن النموذج النيوليبرالي والذي بدأ مُنذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي أصابه القدم، ويحتاج إلى تجديد مُنذ فترة، ولكن لا تزال الفرق التي تحكم الكيانات الاقتصادية في العالم ترفض أن يكون هناك تجديد كبير، وتُصمم على أن السوق سوف تُصحح نفسها.

الجديد الآن هو ذلك الركود التضخمي الذي يطرق باب العالم. فبعد نحو عام ونصف العام من التوقف شبه الكامل للكثير من قطاعات النشاط الاقتصادي العالمي، وبعد حزم مُساعدات أثقلت كافة دول العالم بديون قياسية، نجد أن التعافي الاقتصادي يتم بصورة سريعة وعشوائية غير مُتجانسة، ويؤثر فيه صراع يصل لدرجة الحرب الاقتصادية بين الولايات المُتحدة والتنين الصيني الرافض لاستمرار نظام القطب الواحد للعالم، ومُصمم على خلق بدائل جديدة للتعاون الدولي.

فى خضم كل ذلك، نجد أن التاريخ يُعيد نفسه، حيث ترتفع أسعار البترول والغاز والطاقة عموما بصورة قياسية تُذكرنا بما تم ارتباطا بالمقاطعة النفطية في السبعينيات، لنجد أنفسنا أمام مُستويات أسعار قياسية لكل شيء، ستدفع العالم إلى حالة من الركود التضخمي الذي سيدفع العالم لدائرة مُفرغة من الخسائر، وسيؤثر بالسلب على الجميع. هناك مُسكنات يُمكن القيام بها، مثل الضغط على دول النفط والغاز لكي ترفع من مُعدلات إنتاجها لتنخفض أسعار الطاقة، مما تنخفض معه تكاليف الإنتاج والتجارة العالمية، إلا أن المؤكد أن العلاج الحقيقي يتمثل في الاعتراف بأن النموذج النيوليبرالي أصبح في أمس الحاجة لمزيد من الحلول الكينزية القديمة، والأفكار الجديدة للوصول إلى فكر ونموذج اقتصادي جديد وأكثر جدوى وعدالة يحكم تنظيم الاقتصاد خلال العقود القادمة.


رابط دائم: