أزمة العقارات الصينية .. هل تدفع لتجديد الفكر الاقتصادي؟
28-9-2021

د.وليد عبد الرحيم جاب الله
* خبير الاقتصاد والمالية العامة، عضو الجمعية المصرية للاقتصاد والإحصاء والتشريع

لماذا لم يُحقق التوسع السريع المُتنوع حالة استدامة النمو لكيان إيفرجراند عملاق التطوير العقاري الصيني؟، وهل يدفع ذلك نحو إعادة النظر في مُسلمات الاقتصاد الحديث، والتي من أهمها أن تدبير التمويل وزيادة حجم النشاط، وتنوعه هُم أساس النمو المُستدام القادر على امتصاص الصدمات الاقتصادية؟

إيفرجراند كيان بحجم دولة:

بدأت إيفرجراند وتركزت أنشطتها في قطاع العقارات المُربح بطبيعته والأكثر قُدرة على تدبير التمويل الذي شجعها على التوسع في أنشطها العقارية بتمويلات، أهمها القروض المصرفية، وبيع وحدات تحت الإنشاء، وهو ما أدى بالفعل لزيادة حجم نشاط الشركة لتحتل المركز 122لأكبر مجموعة في العالم من حيث الإيرادات، وفقاً لتصنيف "فورتشن جلوبال" لعام 2021، كما أنها نجحت في تُشغيل نحو 200 ألف شخص بمشروعاتها بصورة مُباشرة خلاف ما تم تشغيلهم بصورة غير مُباشرة، وشكلت نحو 3,2% من وزن الاقتصاد الصيني. وفي سبيل تحقيق الاستقرار والحد من المخاطر، نوعت الشركة من أنشطتها لتدخل مجالات، مثل صناعة السيارات الكهربائية، والأطعمة والمشروبات، وتجارة التجزئة، والاستثمار الرياضي، وغيرها من المجالات بنسب متفاوتة، ولكن كل ذلك لم يُحقق للشركة الصلابة الكافية لمواجهة تبعات ديونها التي وصلت إلى نحو 300  مليار دولار.

النمو يحتاج لإدارة وتوقع مخاطر:

القضية هنا أن الشركة أدارت عملية توسع ضخمة جداً ومُتنوعة باستخدام كل ما هو مُمكن من أدوات تدبير التمويل ليمتد نشاطها من قطاع التشييد والبناء إلى قطاعات الصناعة، والتجارة، والخدمات، ولكن مع تدخل الحكومة الصينية بإجراءات تنظيمية لضبط السوق العقارية، والحيلولة دون وقوع فقاعة عقارية، واجهت الشركة صعوبة كبيرة في إدارة عملية سداد التزاماتها وسط مُعدلات نمو أقل، ولم تنجح قطاعات الشركة المُختلفة في امتصاص أزمة قطاعها العقاري، وتمكينها من إدارة عملية تباطؤ آمن.

وبالنظر لسلوك إيفرجراند الاستثماري الجامح، نجد أنه سلوك مشروع مُنذ البداية لا يُخالف أي ضوابط، وهو ما مكنها من الحصول على تمويل وشراكات مع نحو 112 بنك، و128 مؤسسة تمويل، جميعها قيمت مخاطر الاستثمار، وفقاً لما هو قائم من قواعد للسوق. ولكن المُشكلات تولدت مع تطبيق الصين سياسة الخطوط الحُمر الثلاثة لتمويل شركات التطوير العقاري في أغسطس 2020، والتي بموجبها أصبح يتعين على المُطورين العقاريين الالتزام بسقف 70% للخصوم مُقابل الأصول، وسقف 100% لصافي الديون لحقوق الملكية، وسيولة نقدية لتغطية الاقتراض قصير الأجل لفترة سنة على الأقل. وهذه الضوابط خلقت حالة من الصعوبة الشديدة في توفيق أوضاع الشركة بسبب كبر حجمها وتشعب قطاعاتها، سيما أنها لم تنجح في الحصول على مُشترين بأسعار عادلة للكثير من أصولها في ظل علم المُشترين المُحتملين بأن الشركة مُجبرة على البيع، وأن الوقت ليس في مصلحتها، ومع الوقت تراجعت الثقة في قُدرة الشركة على توفيق الأوضاع فانخفضت قيمة أسهمها، وتصنيفها الائتماني، مما كبدها خسائر أكبر.

الأزمة المالية بين إيفر جراند، وليمان برازر:

الأزمة عند إيفرجراند خلقتها ضوابط جديدة وضعتها الحكومة الصينية على القطاع العقاري، بينما كان تخلف ضوابط المُشتقات المالية السبب الرئيسي لأزمة بنك ليمان برازر في الولايات المُتحدة الأمريكية، الذي بدأت منه الأزمة المالية عام 2008/2007، والتي نشأت بسبب توسع القطاع العقاري بدون ضوابط، مما ترتب عليه خلق فقاعة عصفت بالجميع. وقد تنبهت الصين بوضع الضوابط لعدم حدوث فقاعة، وهو أمر جيد، وقد نجحت بالفعل العديد من الشركات في توفيق أوضاعها مع تلك الضوابط الجديدة، ولكن الحجم الكبير لأنشطة والتزامات إيفرجراند جعلها تواجه صعوبات أكثر تعقيداً في توفيق أوضاعها بصورة أثرت فى كيان الشركة ذاته.

مخاطر النمو السريع المُتنوع:

تُظهر أزمة إيفرجراند كيف أن تنوع الأنشطة لا يكفل بالضرورة حائط صد، بل إنه ربما يتحول إلى عبء إذا انكشف الموقف المالي، وأن التمويل وإن نجح في صُنع النمو إلا أنه لم ينجح في الحفاظ عليه، مع حتمية تصحيح السوق لنفسها وقتاً ما. فالسوق في الاقتصاد الحر لابد أن يأتي لها يوماً وأن تُصحح نفسها، وارتباط إيفرجراند بتشابكات مالية مع نحو عدد كبير من البنوك والمؤسسات المالية لم يدفعهم لنجدتها، ولم يؤثر فيهم بصورة كبيرة بعد تطبيقهم لمقررات بازل المُتتالية لكفاية وتعزيز صلابة البنوك، واستباق الصين حركة التصحيح بوضع ضوابط لم يمنع من حدوث الأزمة، التي اكتفت فيها مؤسسات التوقعات والتقييم الدولية أن خفضت توقعاتها وتقييماتها  للشركة بعد أن كانت تسير في مسار إيجابي قبل الأزمة، مما أضر أكثر بالمركز المالي للشركة. ولكن هل ستقف دولة الصين في موقف المُتفرج؟ بالتأكيد عند تقرير ضوابط القطاع العقاري كان لدى الصين العديد من سيناريوهات التعامل مع تفاعلات تلك الضوابط، وربما أن تأخر الصين في دعم إيفرجراند هو أحد البدائل التي ستُحقق للصين مكاسب، أو على الأقل تُحقق أضرار للمُنافسين بأكبر من الضرر الصيني، وفي اللحظة المناسبة سيظهر الخيار الجذري الصيني للحفاظ على إيفرجراند بعيداً عن المُسكنات الحالية.

الدرس المُستفاد:

 هو أن خيار خلق التمويل لتحفيز النمو، وزيادة حجم وتنوع النشاط الاقتصادي من بين الأسس التى تصلح لبناء التنمية، ولكن لابد أن تتم بدون اندفاع، وبأكبر قدر من المُناورة ودراسة المخاطر، وبإدارة تكفل لصانع القرار الاقتصادي خيارات القدرة على الانطلاق والتباطؤ، والتوقف والتراجع، حتى يتم الحفاظ على المُكتسبات من تقلبات آليات الاقتصاد الحر الذي يظل خلق التشابكات والدخول في تحالفات اقتصادية كبرى بمنزلة الضمانة المُتاحة حالياً للتعامل مع تقلباته، في ظل احتياجه للتجديد وتطوير الآليات مُنذ سنوات.


رابط دائم: