تدويل الثورة:| بين التخطيط والارتجال
24-8-2011

د. بهجت قرني
* ‬أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة‮.‬

الأربعاء 24 أغسطس 2011

تدويل الثورات العربية - بمعنى تمددها خارج الحدود - لم يصبح اختياراً بل قدراً محتوماً، حتى دون التعرض الآن لآثار تدخل "الناتو" في حسم نتيجة الثورة في ليبيا، أو تداعيات تجميد الأموال ودعوات التنحي تجاه سوريا، أصبح "الخارج" جزءاً لا يتجزأ من الثورات العربية - ولكن السؤال المهم كيف يتعامل "العرب" مع هذا القدر المحتوم، بل ويوجهونه لصالحهم.

وفي الحقيقة، فإن التدويل هو الآن على المستوى الشعبي في العالم. من الـ CNN إلى BBC إلى TV5 - التليفزيون الدولي للفرانكوفنية -، لم أر قط مثل هذا التركيز على المنطقة العربية. حتى الباعة في محل بقالة صغير والعامل في محطة البنزين يسألونك بأدب عندما يشعرون أنك في المنطقة، أما مراسلو الإعلام الدولي، فالتحدي هو كيفية الهروب منهم.

"الربيع العربي" تزداد صدارته إذن في الإعلام العالمي، وحتى الآن إيجابياً ومع كثير من التفاصيل أثبتت هذه الأحداث العربية مرة أخرى سمتين رئيسيتين للإعلام العالمي في القرن الحادي والعشرين: 1- تقلَّصت الفجوة بين العالم الافتراضي وعالم المعيشة اليومية، فأخبار باب العزيزية وما أثير حول اعتقال أولاد القذافي تأتي في الوقت نفسه تقريباً في لحظة وقوعها على أرض الميدان. 2- تقلَّصت أيضاً الفجوة بين الشأن "الداخلي" و"الخارجي"، وخريطة "جوجل" تبين الآن في أية أحياء من طرابلس يتم القتال مقارنة بالأحياء التي تم السيطرة عليها من جانب الثوار. أصبحت الثورة دولية في أدق تفاصيلها، ولن يحدث تراجع عن "تدويل" هذه الثورات مهما انتهى بها المصير بالرغم من أن بعض الإعلاميين، وحتى المتخصصين في علم الاجتماع أو علم السياسة تعاملوا مع موضوع التدويل هذا كأنه لغز، إلا أنه ليس كذلك، على الأقل بالنسبة للثورات الكبيرة:

أصبحت شعارات الثورة الفرنسية في الحرية والإخاء والمساواة شعارات عالمية منذ نهاية القرن الثامن عشر وحتى الآن، وبالنسبة للثورة البلشفية الروسية في 1917، كان من أوَّل قرارات لينين عقد اتفاقية فلادفستوك مع ألمانيا والتي بموجبها خرجت روسيا من الحرب العالمية الأولى. ونستطيع تكرار الأمثلة، ولكن ما يهمنا هو الثورات العربية الحالية، وخاصة في أكبر دولها مصر، ولنأخذ مثل التدويل مما يحدث على الحدود المصرية - الإسرائيلية ووضعية سيناء.

في السيكولوجية الجماعية المصرية لم تتجاوز وضعية سيناء سمة الصحراء البعيدة، حتى بعد احتلالها من جانب إسرائيل في سنة 1967، وباستثناء بعض آبار البترول التي تم البدء في استغلالها من جانب بعض الشركات الأجنبية، يشعر غالبية المصريين بالجهل عن موارد هذه المنطقة وحتى عن سكانها، هي "الربع الخالي" المصري.

وما التنازلات الضخمة التي قدمها السادات في اتفاقية كامب ديفيد في سنة 1978، إلا انعكاس - عن وعي أم لا - لهامشية سيناء في الإدراك المصري العام، وفي كشف حساب السادات للأرباح والخسائر - ونزع سلاح سيناء، كان اهتمامه الأول استعادة آبار البترول وبالذات فتح قناة السويس من جديد والحصول على عائدات المرور الدولية. ولكن شعور غالبية المصريين تجاه هذه المعاهدة كان مختلفاً، ليس أساساً بسبب سيناء، ولكن بسبب إسرائيل، وهناك قصة معروفة للبعض فقط عن تحفظات الأمين العام الحالي للجامعة العربية - نبيل العربي - الذي كان عضواً في وقد المباحثات حول كامب ديفيد، فقبل توقيع الاتفاق بساعات قليلة طلب لقاء السادات، وحاول أن يشرح له بكل أدب ودبلوماسية بعض البنود المجحفة تجاه إسرائيل وتأثيراتها القانونية، ولكن السادات - الذي أظهر الملل في الاستماع وهو ينفخ في غليونه - قام بطرده من الغرفة مؤنباً "أن بيروقراطيي وزارة الخارجية غير قادرين على فهم حركات التاريخ الكبرى والتصور الاستراتيجي العالمي". التصور الأساسي إذن كان العلاقات مع إسرائيل، وإذا حضرت سيناء فهي كمصدر للدخل، من آبار البترول في عهد السادات، ثم من السياحة وتطوير شرم الشيخ في عهد مبارك، وحتى دون توزيع لجزء من هذا الدخل على سكان سيناء وتعميرها.

تعود سيناء - بمعنى إسرائيل - إلى المقدمة الآن، من جراء المناوشات على الحدود وقتل ضابط وخمسة جنود الذي ألهب المشاعر المصرية المكبوتة ضد إسرائيل وجعل من أحمد الشحات - الذي تسلق أكثر من 15 دوراً ليخلع العلم الإسرائيلي ويضع مكانه العلم المصري - بطلاً وطنياً في صورة "سبيدرمان المصري"، تجد الثورة المصرية الآن أهم أبعادها الوطنية في مواجهة عمليات القتل الإسرائيلية، بل ارتفعت الصيحات بإلغاء كامب ديفيد. وهكذا تدخل الثورة المصرية الباب الأكبر للتدويل، بما لهذا الإلغاء المطلوب - إذا تم فعلاً - من آثار مباشرة على العلاقات المصرية - الإسرائيلية، على منطقة الشرق الأوسط ككل، وعلى علاقات مصر بالعالم الغربي وخاصة الولايات المتحدة. فلا ننسى أن واشنطن كانت الشريك الرئيسي في اتفاقية كامب ديفيد، وتقوم بمراقبة الحدود المصرية - الإسرائيلية، وكل هذا دون ذكر بند "اللوبي الصهيوني" الذي سينتهز الفرصة لفك أي ارتباط بين واشنطن والقاهرة، في وقت تحتاج فيه الثورة المصرية كل مظاهر التأييد الخارجي: اقتصادياً، سياسياً، ومعنوياً.

ليس هُناك نصوص مقدسة، سواء في كامب ديفيد أو غيرها. وهناك في الواقع مبدأ قانوني دولي معترف به يسمح بالنظر إلى بنود المعاهدات "في ضوء الظروف المتغيرة"، وقد يسمح هذا لمصر بطلب إعادة النظر في اتفاقيات توريد الغاز لإسرائيل وبعض بنود كامب ديفيد بعد ثلاثة وثلاثين عاماً من عقدها، ويتم كل هذا ليس بالهتافات والارتجال، ولكن بالتخطيط والتدبير، وبعد معرفة بواسطة لجنة تحقيق جادة من المسؤولين بدقة عن إشعال النار في سيناء وما مصير هذه المنطقة في ضوء تحرشات "جيش الإسلام" ومحاولة نتنياهو الهروب من مواجهة متاعبه الداخلية.

--------------------------------------

* نقلا عن صحيفة الاتحاد الإمارتية الأربعاء 24 أغسطس 2011


رابط دائم: