الأميركيون... لماذا لا يتظاهرون؟
17-8-2011

ديفيد ميير
* أستاذ علم الاجتماع والعلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا

هناك دائماً ما يذهل المراقب أمام مشهد الناس وهم يخرجون إلى الشارع للاحتجاج ورفع مطالبهم، ففي ميدان التحرير بالقاهرة تجمع الناس للمطالبة برحيل مبارك، وفي أثينا أقام المتظاهرون مشنقة رمزية أمام البرلمان، مهددين بإسقاط الحكومة الاشتراكية التي فرضت عليهم إجراءات تقشفية قاسية في وقت وصلت فيه نسبة البطالة إلى 15 في المئة، وأخيراً احتشد الشباب والمراهقون في شوارع لندن وانخرطوا في موجة من العنف والتخريب دون أن نعرف إلى حد الآن ماذا يريدون، لكن سواء تعاطفنا مع هذه الحركات الشعبية، أو عارضناها فإن ذلك يعتمد بالأساس على التوجهات السياسية للمراقب.

فالمحتجون الذين ينسجمون مع تطلعاتنا وينطقون باسمها غالباً ما يتحولون في أنظارنا إلى أبطال بينما الذين يتحدون قناعاتنا ويعبرون أن أفكاراً مغايرة يصبحون أشخاصاً مغرراً بهم، أو إرهابيين في أسوأ الحالات؛ ومهما يكن الأمر يخرج الناس إلى الشارع رافعين الشعارات لإظهار مدى استيائهم والتعبير عن غضبهم، وعندما ينجحون في تحقيق مطالبهم، نتحدث عن التكتيكات التي ساهمت في نجاحهم والأسباب التي صنعت انتصارهم كما في الحالة المصرية وغيرها، لكن ماذا عن الولايات المتحدة؟ لماذا لا نشهد احتجاجات في الشوارع على غرار باقي الدول؟ فاستطلاعات الرأي تظهر أن أقل من النصف بقليل يؤيد أداء أوباما، وهي على كل حال تبقى نسبة أكبر من تلك التي يحصل عليها الكونجرس، أو أي حزب من الأحزاب السياسية الأميركية، كما أن البطالة بلغت نسبتها 9 في المئة، ولا تخفى على أحد حالة الغضب التي تعتمل لدى الأميركيين بعدما اخترقت البطالة كل الفئات وأثرت سياسة خفض الإنفاق على الخدمات التي تقدمها الولايات للمواطنين، فضلاً عن انشغال الشباب بارتفاع رسوم الجامعات، والاستياء من حكومة عاجزة عن حل كل تلك المشاكل، فلماذا بعد كل ذلك، لا يخرج الأميركيون للتظاهر في الشارع؟

إن أقرب شيء إلى الحركة الاجتماعية في الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة هي حركة "حفلة الشاي"، وهي عكس الجميع تطالب الحكومة بالقليل والكف عن التدخل.

ومؤخراً نسمع عن "حركة الشاي" من النواب "الجمهوريين" في الكونجرس، الذين باتوا في الكثير من الأحيان ينطقون باسمها. والسبب وراء هذا الجمود البادي على التحركات الأميركية أن الغضب وحده والاستياء بمفرده لا يصنعان حركة احتجاجية، بل يحتاج الأمر إلى جهد تنظيمي فعال. وإذا كان الغضب عاملاً مهماً في تأجيج المظاهرات ودفع الناس إلى الخروج، فإنه مجرد مورد واحد بيد المنظمين يوظفونه ويوجهونه بالطريقة التي يريدون.

ومع أن العديد من المثاليين والمبالغين في حماسهم، قد يذهبون بعيداً ويغامرون بحياتهم من أجل معتقداتهم وأفكارهم، فإن أغلب الناس براجماتيين ويخضعون تحركاتهم لحسابات دقيقة، فالناس تحتج عندما يعتقدون أن المشاكل التي يعانون منها قابلة للحل، وبأن جهودهم في الشارع قد يحالفها النجاح. لكن هذه الحسابات الدقيقة نادراً ما يقوم بها المحتجون أنفسهم، بل هي نتاج التفاعل مع المحيط، فما يبدو في الظاهر هبات تلقائية للاحتجاج السياسي تعكس في العمق العمل المضني الذي قام به المنظمون والجهد الكبير الذي استُثمر على مدى سنوات في رعاية وتشجيع العمل النضالي والنشاط السياسي على مستوى القاعدة.

فالنشطاء على سبيل المثال، يركزون على بعض الاستفزازات الحكومية، أو الأخطاء القاتلة التي يعتقدون أنها ستحرك الشارع، وهم يرعون الإحساس بالصوابية الأخلاقية لتأجيج التحرك، بالإضافة إلى تعزيز الشعور بأن التغيير ممكن، والأهم من ذلك يشير المنظمون إلى الآخرين الذين يناضلون، مذكرين العناصر الجديدة بأنهم ليسوا وحدهم وبأنهم مجتمعون يستطيعون التغيير.

وفي أميركا هناك تاريخ طويل من العمليات الاحتجاجية والجهر بالمطالب ترجع إلى النشأة الأصلية لحركة الشاي في بوسطن 1773 عندما تحولت الاحتجاجات على الضرائب البريطانية إلى ثورة تحرر حقيقية انتهت هي نفسها بحكومة لن يكون من السهل الإطاحة بها.

فالنظام السياسي الأميركي الذي نشأ منذ ذلك الوقت على أيدي الآباء المؤسسين مصمم لتصريف الاستياء الشعبي نحو المؤسسات السياسية التي تعمل على امتصاصه والتعامل معه. وضمن هذا الإطار، وضع "جيمس ماديسون"، العقل المدبر للدستور الأميركي، تصوره الخاص لنظام يحتضن المعارضة ويمنح المستائين والناقمين الأمل في تحقيق مطالبهم من خلال العمل من داخل النظام واستغلال مؤسساته المختلفة، لذا يتوقع المحتجون في الشارع أن تجد مطالبهم طريقها إلى ردهات السلطة. وقد رأينا مؤخراً كيف يعمل هذا النظام على تصريف الغضب إتاحة فرصة التغيير للمحتجين من داخل المؤسسات. فعندما بدأ "سكوت ولكر"، حاكم ولاية ويسكونسن، ولايته الأولى تقدم بمقترح موازنة مثير للجدل، يحرم فيه اتحادات القطاع العام من امتيازاتهم والعمال من الأموال الضرورية، فجاء رد فعل المواطنين سريعاً، حيث نظم المدرسون والإطفائيون وضباط الشرطة مسيرات واعتصامات ومظاهرات للتعبير عن معارضتهم للتقشف، وبمساعدة النواب "الديمقراطيين" في الولاية الذين خرجوا منها وقت التصويت على الموازنة حرموا كونجرس الولاية من النصاب القانوني اللازم لإقرارها، لكن عندما فشل النشطاء في ثني الحاكم عن موقفه حولوا جهدهم إلى المؤسسات، حيث طالبوا بموجب القانون الأميركي بسحب الثقة من مجموعة من المسؤولين في الولاية، مجبرين الولاية على تنظيم انتخابات جديدة لإعادة شغل المناصب الشاغرة، وبدلاً من المسيرات نظم "الديمقراطيون" حملات انتخابية يتحدون فيها النواب "الجمهوريين" من خلال جمع الأموال وإعداد المنشورات والإعلانات وتعبئة الناس للتصويت، فكانت النتيجة أن "الديمقراطيين" حصلوا على اثنين من المقاعد الستة التي طالبوا بإعادة التصويت لها، وأجبروا "الجمهوريين" على تقديم تنازلات بشأن الموازنة.

فما يدفع الناس إلى الاحتجاج والاحتشاد في الشوارع والميادين ليس مجرد الشعور الطاغي بالاستياء وعدم الرضا عن السياسات سواء تعلق الأمر في أميركا بالهجرة، أو بالدين الوطني، ذلك أن الحركات الاجتماعية هي نتيجة العمل التنظيمي الجاد والمتواصل تشهد على ذلك العديد من الأمثلة في التاريخ الأميركي أهمها "روزا باركس" التي امتنعت في الخمسينيات عن تغيير مقعدها في الحافلة لأنها سوداء، فتلك السيدة لم تكن مجرد خياطة بسيطة، بل كانت عضواً ناشطاً في العديد من المنظمات المحلية المدافعة عن الحقوق المدنية وشاركت في العديد من ورش العمل حول النضال السلمي.

من دون العمل التنظيمي تبقى التحركات الفردية ضرباً من البطولة المثالية لا تفضي إلى الفعالية السياسية التي تتطلب الصبر وجهداً تنظيمياً متواصلا للتأثير في السياسات العامة والتمكن من تغييرها.

ويبدو حالياً أن التنظيم الحركي في الولايات المتحدة يكاد يقتصر على التيار "اليميني" الذي يجتمع تحت مظلة واسعة تطلق على نفسها تيار "حفلة الشاي"، حيث عملت التنظيمات المحافظة على مدى السنوات الماضية على تكريس أفكارها المتخوفة من الحكومة تؤازرها في ذلك تمويلات سخية من الشركات الكبرى، التي تلتقي معها في المصالح، وبدورها يعمل نُشطاء الحركة على دعم وصول الشخصيات المحافظة إلى الكونجرس كما شهدنا ذلك في انتخابات التجديد النصفي للعام 2010، عندما تمكنت "حفلة الشاي" من دخول الكونجرس لأول مرة، وما كان لها ذلك دون العمل التنظيمي الذي تحركه القاعدة الشعبية.

-------------------------------------

 (*) نقلا عن صحيفة الاتحاد الإماراتية


رابط دائم: