"رقعة الشطرنج " |جوزيف ناي يحدد الأبعاد الجديدة للقوة فى القرن الـ 21
14-8-2011

إيمان عبد العظيم
* كاتبة صحفية

رسم جوزيف ناي، المفكر الأمريكي الشهير وصاحب النظريات السياسية الرائجة عن "القوة الناعمة"، مستقبل القوة في القرن الحادي والعشرين، حيث يرى أنها تنتقل عبر طريقين، الأول من الغرب إلى الشرق، والثاني من الدولة إلى الجهات الفاعلة غير الرسمية ، كما حدث في ميدان التحرير بوسط العاصمة المصرية القاهرة.هذان الملمحان لانتقال القوة في القرن الـ 21 ناقشهما جوزيف ناي في ندوة خاصة بمركز شتهام هاوس Chatham House البريطاني حول كتابه "مستقبل القوة" "The Future Of The Power".


أفضل طريقة لاستيعاب انتقال القوة داخل الدولة إلى الفاعلين غير الرسميين، كما يقول ناي، هي التفكير في طبيعة "ثورة المعلومات" التي شهدناها خلال آخر ثلاثين أو أربعين عاما الماضية ، فقد انخفضت تكاليف "الحوسبة"، والاعتماد على الكمبيوتر، وبالتالي أصبح في مقدرة الجهات الفاعلة ذات الإمكانيات المتواضعة في استغلال تلك الثورة لخدمة أغراضها.

لمزيد من الفهم، يضرب ناي مثالا يشرح فيه تأثير ذلك بقوله: "عندما كنت في إدارة الرئيس الأسبق جيمي كارتر، كنا نتعامل مع سياسات منع الانتشار النووي، وكان أحد أسرارنا الضخمة أننا كنا قادرين علي تصوير أي مكان علي سطح الأرض بوضوح متر واحد، وكلفنا هذا بلايين الدولارات. أما الآن، فيمكنك الدخول علي محرك البحث "جوجل" على الإنترنت والحصول علي صور أفضل مجانا".

هذا التطور الهائل الذي أحدثته تكنولوجيا المعلومات لا يعني أن مفهوم الدولة القومية سينهار، ولكن يعني – كما يرى ناي - أن الحكومات أصبحت مجرد ممثل علي خشبة المسرح التي ازدحمت بهؤلاء الذين أصبحوا قادرين على التمثيل. وبعض هؤلاء الممثلين جيدون، مثل منظمات "أوكسفام" الإغاثية، والبعض الآخر سيئ مثل "تنظيم القاعدة"، وفق رؤية المفكر الأمريكي.

لكن ما هو مثير للاهتمام في تحول القوة على صعيد هذا المحور- يقول ناي- هو القوة التي يتم توفيرها لهؤلاء الفاعلين غير الرسميين. فتنظيم القاعدة في 2001 قتل من الأمريكيين أكثر مما استطاعت أن تقتلهم القوات اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية عام 1941 ، مما يعني "خصخصة الحرب" ، وهو المفهوم الأكثر حداثة في عالم السياسات.

 جيل التغيير

من الأمثلة الأخرى التي توضح الطريقة التي ساعدت بها ثورة المعلومات في تحويل ميزان القوى للفاعلين غير الرسميين هو التغيير الذي يشهده الشرق الأوسط. ويقول ناي " اعتدنا سماع أن الشرق الأوسط ليس فيه خيار وسط  بين الحكم الاستبدادي والتطرف الديني ، ولكني أعتقد أن ثورة المعلومات خلقت جيلا وسطا جديدا كما نرى في ميدان التحرير في القاهرة ، وما فعلته التكنولوجيا المتطورة مثل تويتر والفيس بوك ، حيث مكنتهم من التغلب علي مشاكل العمل الجماعي والتنسيق فيما بينهم".


أيضا، يمكننا التفكير في "ويكليكيس" ، فإن سرقة الوثائق السرية من الحكومة ليست أمرا جديدا ، فربما يكون هذا النوع من السرقات قديما قدم الحكومات ذاتها، أو قدم عمليات التجسس. لكن ما أحدثه ويكليكس هو جمع مستودع كامل من البرقيات السرية لوزارة الخارجية الأمريكية، ووضعها على قرص صلب مثل الذي توضع عليه أغاني نجمة البوب الأمريكية ليدي جاجا، ونشره علي الفور بكل أنحاء العالم كان هو الأمر الجديد والمختلف.
وهناك مثال آخر يضربه المفكر الأمريكي، يتعلق برسم كاريكاتيري في مجلة نيويوركر منذ نحو عقد تقريبا ، وكانت صورة لكمبيوتر ولكلبين يجلسان أمامه، ويلتفت أحد الكلبين للآخر قائلا: " لاتقلق"، على الإنترنت لا أحد يعرف أنك كلب.


هذا الرسم الكاريكاتيري لم يكن فقط فكاهة رائعة ، وإنما كان له بعد سياسي ، وهو أنك لا تعرف على الإنترنت من هو الذي يهاجمك. وهذا المثال يتضح أكثر فيما حدث عبر "دودة ستكسنت"، وهي فيروس أصاب بعض أجهزة الطرد المركزية في البرنامج الإيراني النووي، مما أدى إلى تدمير بعضها، ولم يعرف أحد حتى الآن مصدر ذلك الفيروس. وبالتالي فخلال عام أو عامين، ستكون هناك "دودة ستكسنت" موجهة إلى لندن أو الجزء الجنوبي في أمريكا، ولا نعرف من الذي هاجمنا، فربما تكون حكومة أخرى أو بعض المتطرفين أو عصابة إجرامية أو الإرهاب الإلكتروني.

الأمثلة السابقة هي وسيلة لفهم كيف أدى ظهور مجموعات وأشخاص يستطيعون القيام بتغيرات كبيرة في عالم السياسة والقوة في هذا القرن.

 " عودة الانتعاش"

أما المحور الثاني، فهو انتقال القوة من الغرب إلى الشرق، وأفضل طريقة لفهم – كما يقول ناي- هذا التحول هي تخيل صورة العالم في عام 1800 ، حيث كانت تمتلك آسيا أكثر من نصف سكان العالم ونصف إنتاجه المحلي. ولكن لو نظرنا  للصورة نفسها في عام 1900، فسنجد أنه لا يزال نصف سكان العالم بآسيا، ولكنها تملك فقط 20% من إنتاج العالم ، وهذا بسبب الثورة الصناعية في أوروبا وأمريكا الشمالية.

ولكن ما يشهده هذا القرن هو عودة آسيا للمعدلات الطبيعية (تقريبآ نصف سكان العالم ونصف إنتاجه) ، ولهذا يطلق المفكر الأمريكي على هذا القرن لقب "عودة الانتعاش" إلى آسيا. وهذا الانتعاش بدأ باليابان مرورا بكوريا ، ثم إلى دول جنوب شرق آسيا، بداية من سنغافورة وماليزيا, ويتركز الآن في الصين التي يبلغ معدل نموها 10%، وعلي نحو متزايد يتركز في الهند التي ارتفعت معدلات نموها لـ8 أو 9%.


السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ستمثل الصين خطرا سيؤدي إلى انفجار كبير؟ ، فالرواية الشائعة للإجابة على هذا السؤال تقول إن الولايات المتحدة تنحدر، والصين تزدهر، وكثير من الناس يقولون إنها وصفة محفوفة بالمخاطر. أنصار هذا الرأي يرجعون في التفسير إلى "الحرب البيلوبونسية" ، عندما كان "المجتمع اليوناني" مجزأ في القرن الخامس قبل الميلاد ، حيث صعود أثينا، والقلق الذي أحدثته  في أسبرطة ، الأمر الذي أدى لنشوب الحروب بينهما. وكذلك اشتعلت الحرب العالمية الأولى، حيث كان النظام الأوروبي مجزأ ، وقامت الحرب بسبب ازدهار القوة في ألمانيا ، والقلق الذي خلقته في بريطانيا، وبالتالي صعود الصين سيخلق انفجارا مشابها.

لكن ناي يرى تلك الاستعارات التاريخية سيئة لعدة أسباب, أولها أنه لا يعتقد أن الولايات المتحدة تنحدر. وفي هذا الشأن، يقول ما هو تعريف الانحدار "  دورة حياة الدول تختلف عن حياة الإنسان ، وهذه الدورة غير معروفة، فروما استمرت ثلاثة قرون ونصف قرن من أوج القوة حتى  الانحدار النهائي. لكن هذا يقودني إلى مفتاح آخر لفهم قصة انتقال القوة في القرن الـ21 لرواية انحدار أمريكا وصعود الصين .


إن هناك خلطا – كما يقول ناي - بين شيئين مختلفين للغاية ، وهما " الانخفاض النسبي والانحدار المطلق" . ففي الأخير، تفقد الدولة مواردها وقدرتها، مثلما حدث لـ "روما القديمة" . أما الولايات المتحدة ، فلا يمكن تطبيق صورة الانحدار المطلق لروما عليها ، وإنما يمكن القول إنها تمر بحالة من "الانخفاض النسبي"، فالاقتصاد الأمريكي لم ينهر، والتكنولوجيا والتجارة الأمريكية لا تزال في الصدارة .


إن نهوض القوى الأخرى، كالصين والبرازيل والهند، ليس معناه إلغاء قوة الولايات المتحدة، ولكن خفضها نسبيا. ويدلل ناي على رأيه بالقول إن الصين لن تتفوق علي الولايات المتحدة في الطاقة بصفة عامة .
ويضيف: قد يتساءل البعض كيف أقول ذلك، في حين أن جولدمان ساكس أخبرنا بأن حجم الاقتصاد الصيني أوشك أن يعادل حجم الاقتصاد الأمريكي؟


هذا طبيعي – كما يقول المفكر الأمريكي - فلو أنك تملك 1,3 مليار نسمة ومعدل النمو يقرب الـ10 % ، فسيحدث ذلك عاجلا أم آجلا، ولكن إجمالي حجم الاقتصاد ليس بالضرورة أن يكون مؤشرا جيدا لتطور الاقتصاد أو إجمالي قوتها الاقتصادية ، لأنها عادة تقاس بمتوسط دخل الفرد. فحتى جولدمان ساكس وآخرون يقولون إن الصين لن تلحق بركب الولايات المتحدة ، خلال العقود الثلاثة القادمة.


ورغم أن الصين تسعى لزيادة قوتها " الصلبة" خاصة العسكرية والاقتصادية، كما يقول ناي، فإنها تسعى لزيادة قوتها الناعمة حتى تمنع التحالفات ضدها.  لذلك، فإن بكين تنفق البلايين على معاهد كونفوشيوس، وتحاول إنشاء فضائيات جديدة. لكن المشكلة أن الصين تجهل أن الصفقة الرابحة للقوة الناعمة تؤسسها قوة المجتمع المدني وليس الإجراءات الحكومية .


فلو نظرت إلي القوة الناعمة الأمريكية – والكلام لناي - فستراها تنشأ من الجامعات والمؤسسات البحثية والفكرية وهوليوود ، بالإضافة للسياسات الحكومية، في حين أن الصين لا تستطيع إطلاق عنان مجتمعها المدني بسبب الحكومة الاستبدادية. ولهذا السبب، لا يعتقد ناي أن الصين أوشكت أن تفوق الولايات المتحدة.

"موازين القوى"

يرسم جوزيف ناي في ختام ندوته خريطة ميزان القوة في القرن الـ21 مستعيرا وصف رقعة الشطرنج ثلاثية الأبعاد. ففى البعد الأول، تبدو الولايات المتحدة مهيمنة عسكريا. ويرى ناي أنها ستظل كذلك لعقد أو اثنين ، ولن تستطع الصين أن تواكبها، أما البعد الثاني، فيشير إلى أن العالم متعدد الأقطاب اقتصاديا ، حيث توجد القوى الأوروبية والأمريكية والصينية.

أما البعد الثالث، فيتعلق بالعلاقات العابرة للقومية التي ساعدت على انتشار القوة خاصة لجهة الفاعلين غير الرسميين .

ويشير ناي إلى أن ثمة تحديات ضخمة تواجه العالم بفعل انتشار القوة في الجهات غير الرسمية، مثل الإرهاب الالكتروني، والتغيرات المناخية، والأوبئة وغيرها.
ويرى المفكر الأمريكي أن الحل الوحيد للتعامل مع تلك المشكلات هو تنظيم شبكات للتعاون على مستوى العالم. ويضيف: " هذا يعني  أن علينا التفكير في القوة مع الآخرين، وليس فقط عليهم".


لمزيد من التفاصيل في النص الأصلي:

The Future of Power  http://www.chathamhouse.org/sites/default/files/19290_100511nye.pdf


رابط دائم: