القدرات العسكرية الصينية والتوازن الإقليمي
6-7-2011

د. محمد عبدالسلام
* مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، المدير الأكاديمي لمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة في أبو ظبي، حاليا، رئيس تحرير‮ "‬السياسة الدولية‮" ‬من‮ ‬2011‮ ‬إلي‮ ‬2012‭.
والواقع أن الوضع العسكري الصيني يبدو محيرا إلي حد كبير. فعلي الرغم من أن عمليات تطوير القوة العسكرية الصينية تثير نوعا من القلق لدي الدول المحيطة بها في أقاليم جنوب آسيا، وشرق آسيا، إضافة إلي الدول ذات المصالح 'والأساطيل' و'القواعد' في تلك المنطقة. وعلي الرغم من أن التصريحات الرسمية الصينية تبدو 'تهديدية' بصورة ما، خاصة بالنسبة لليابان وتايوان والهند، فإن التحركات العسكرية الفعلية لها تبدو محسوبة بدقة، علي نحو لاتظهر فيه الصين  وكأنها راغبة في استخدام قوتها المسلحة فعليا ضد الأطراف الأخري المناوئة لها. كما لا يبدو في إطارها أن التصريحات الرسمية تعبر عن استراتيجية هجومية أو نوايا حادة، بدرجة يمكن اعتبار الصين معها  من جانب أطراف الإقليم  'خطرا مباشرا أو عاجلا'، باستثناء تايوان.

في هذا الإطار، وبعيدا عن النظريات الخاصة بالصعود الصيني، يصعب تصور أن السلوكيات التسليحية، والتصريحات التهديدية، من جانب الصين، يمكن أن تقود إلي وقوع حرب، وإنما يمكن أن تتسبب في حالة من حالات عدم الاستقرار الإقليمي في المناطق المحيطة بالصين، مع تدعيم التوازنات الحالية فيها، والتي تقوم علي شبكة من التحالفات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وكل من الهند واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، علي نحو يؤدي إلي حالة من الحرب الباردة، التي لا تصل إلي الصدام المباشر، لاعتبارات مختلفة يمكن توضيحها -بالتركيز علي الصين كفاعل- في النقطتين التاليتين:

أولا- القوة العسكرية الصينية :

إن الصين تمثل هدفا عسكريا شديد الصعوبة، فهي تتمتع بحماية دفاعية طبيعية، إذ إن مساحتها تصل إلي 9.6 مليون كيلو متر مربع، كما أن عدد سكانها يصل إلي 1.3 مليار نسمة. ومع مثل تلك المؤشرات، يصعب أن يتم بناء استراتيجية مضادة تقوم علي الهجوم علي تلك الدولة أو التأثير في كتلتها الحيوية. فعلي الرغم من أنه تم التمكن تاريخيا من المساس الحاد بأرض وشعب الصين، علي غرار ما تشير إليه فترة 'حرب الأفيون' أو الاحتلال الياباني خلال الحرب العالمية الثانية، فإن تطور القوة العسكرية، وظهور الأسلحة النووية، وتماسك الدولة الصينية، كل ذلك يغير مثل تلك المعادلات التاريخية تماما. بل إن تعبيرات ذات دلالات استراتيجية، مثل 'التنين النائم'، تشير إلي أن الفكرة المسيطرة علي الاستراتيجيات المضادة لها حاليا هي عدم استفزازها بشكل زائد.

وعلي العكس من ذلك تماما، فإن ما يثار في السنوات الأخيرة يتعلق باحتمالات أن تقوم الصين ذاتها بعمليات عسكرية استفزازية ضد أطراف أخري في المنطقة، مثل تايوان. ومن هنا، يأتي القلق الذي تبديه التقديرات الرسمية الأمريكية إزاء تصاعد عمليات التطوير العسكري في الصين(2)، من زاوية ما إذا كان ذلك يمكن أن يمكنها من التفكير في سيناريوهات سيئة لا تفكر فيها حاليا، تجاه المشكلات السياسية أو الأمنية المعلقة، أو أن يمكنها ذلك من توسيع نطاق نفوذها العسكري، وقدرتها علي التأثير في تطورات 'أقاليم الجوار البعيد'، مثل جنوب الهادي أو وسط آسيا أو شمال شرق آسيا، أو جنوب آسيا، أو ربما تمكنها من امتلاك قوة قادرة علي تحييد الوسائل العسكرية الهجومية التي تعتقد 'الدول المهتمة بالصين' أنها المسئولة عن الحفاظ علي الحكمة الصينية، كالصواريخ طويلة المدي، أو الغواصات النووية، أو أسلحة الفضاء.

إن القوة العسكرية الصينية تبدو مخيفة بصفة عامة، ويعود ذلك إلي عوامل مختلفة، أهمها بالطبع القوة البشرية، فعدد أفراد القوات المسلحة الصينية يصل إلي 2.5 مليون جندي، وهو ما يشكل الجيش الأكبر عالميا من حيث القوة العددية. ولا تأتي أهمية القوة العددية. من حجم القوات النظامية فقط، فالقوة البشرية المؤهلة للخدمة العسكرية في الصين، من الرجال فقط، تتجاوز 300 مليون نسمة، يصل منهم نحو 9 ملايين سنويا إلي سن التجنيد 'الإجباري'. وعلي الرغم من أن مسألة الأعداد قد فقدت الكثير من تأثيراتها في ظل تطور نظم التسليح الحديثة، واعتماد الجيوش علي القوات الجوية، وفي ظل وجود الأسلحة النووية، فإن القوة العددية للجيش الصيني لا تزال موضع اهتمام.

لكن التقديرات الأمريكية الأخيرة للقوة الصينية تمس القطاعات الأكثر تقدما فيها مباشرة، باعتبارها مصدر الاهتمام إزاء العسكرية الصينية. فقد حدد التقرير السنوي لوزارة الدفاع الأمريكية عن القوة العسكرية للصين، الصادر في أغسطس 2010، أربعة مجالات للتطور العسكري 'المقلق'، وهي الصواريخ الباليستية متوسطة المدي، القادرة علي إصابة أهداف برية وبحرية، والغواصات القتالية الجديدة، وامتلاك نظم تسليح وتكنولوجيات متقدمة في مجال الدفاع الجوي، إضافة إلي حيازة طائرات مقاتلة حديثة، مثل سوخوي 29 . لكن ما ركزت عليه معظم تحليلات الدفاع المتقدمة، ومن أهم تلك التطورات، ما يلي:

1- القيام ببناء حاملات طائرات متطورة، بقدرات ذاتية، وبميزانيات عسكرية تصل إلي 20 مليار دولار. ومع امتلاكها قوات مشاة بحرية، وتطويرها صواريخ كروز، وحيازتها لطائرات خفيفة، يسود اتجاه بأن الصين تقوم ببناء قوة بحرية قادرة علي العمل عبر البحار، علي مسافات أبعد مما كان متصورا تقليديا بالنسبة لها.

2- القيام بتطوير أنظمة صاروخية متقدمة لاستهداف الأقمار الصناعية العسكرية، وأنظمة صاروخية مضادة للصواريخ العابرة للقارات. وهو مجال عمل يجعل الصين أكثر تقدما، من الناحية العسكرية، من دول مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا واليابان، علي نحو طرح مسألة تجاوزها لنطاق فكرة 'القوة الإقليمية العظمي'.

3- قيامها بتوسيع نطاق تحالفاتها العسكرية الخارجية في منطقة جنوب وجنوب شرق آسيا، المحيطة بالهند، والقريبة من تايوان. وقد تمت الإشارة في بعض المصادر إلي احتمالات قيامها بالحصول علي تسهيلات عسكرية خارج المنطقة الاسيوية من الأساس، في إفريقيا تحديدا.

ولقد أدي ذلك إلي ارتفاع التقديرات الخاصة بنفقات الدفاع الصينية. فبينما تعلن الحكومة الصينية أن ميزانياتها العسكرية لا تتجاوز 70 مليار دولار، تقرر واشنطن أن نفقات الدفاع الصينية قد وصلت إلي 150 مليار دولار، وهو ما تنفيه الصين بشدة، فكل الأطراف تدرك أن نفقات الدفاع هي المؤشر الرئيسي لاتجاهات بناء وتطوير القوة المسلحة. وبينما يعتقد بعض المحللين أن الصين تقوم في المجال العسكري بما قامت به في المجال الاقتصادي، وهو 'التحديث الصامت' و'النمو التدريجي'، تقرر الصين أنها تحافظ علي الحد الكافي للدفاع. وفي كل الأحوال، لا تقرن عمليات تطويرها العسكرية بما تقوم به دولة مثل إيران، علي سبيل المثال، وهو 'الاستعراض' المستمر لقدراتها، حتي لو كانت تجريبية. لكنها في كل الأحوال، لا يمكنها ان تنفي أنها تقوم بعملية بناء عسكري متقدمة وسريعة، بدأت تؤثر بشدة في التوازنات القائمة في الأقاليم الفرعية المحيطة بها.

رابط دائم: