"العقل السياسي":|كيف لا نستطيع فهم سياسات القرن الـ21 الأمريكية بعقل القرن الـ18 ؟
8-8-2011

جورج لاكوف
*

عرض : إيمان العيوطي

 George Lakoff،The Political Mind: Why You Can't Understand 21st-Century American Politics with an 18th-Century Brain، Penguin Group، 2008.

لتفسير تأثير التيارات السياسية الأمريكية  في السياسات الأمريكية علي الصعيدين الداخلي والخارجي، اعتمد "جورج لاكوف" في كتابه العقل السياسي .. كيف لا نستطيع فهم السياسات الأمريكية خلال القرن الحادي والعشرين بعقل القرن الثامن عشر علي النظريات العلمية للعقل وكيف يعمل. ولذا، يقدم الكاتب نظرة معمقة للحياة السياسية الأمريكية، مستفيدا من التطورات الحادثة في دراسات العقل لجعل السياسات التقدمية، باعتبار الكاتب ديمقراطيا تقدميا، أكثر تأثيرا في السياسات الأمريكية، بعد سيطرة المحافظين عليها لمدة تقرب من العقود الثلاثة.

ينقسم الكتاب إلي ثلاثة أجزاء رئيسية،  الجزء الأول بمثابة إطار نظري. أما الثاني والثالث، فيتناولان موضوع الكتاب بشيء من التفصيل، اعتمادا علي ما قدمه الكاتب من أفكار نظرية وعلمية في الجزء الأول من الكتاب. ففي الجزء الأول، يتحدث الكاتب عن الاكتشافات العلمية الحديثة، التي تتعلق بعمل المخ، والتي أوضحت أن 98% من التفكير يتم في اللاوعي ، وهذا التفكير اللاواعي يحدث بطريقة تلقائية لا يتم التحكم فيها. ويري الكاتب في هذا الجزء أن الأخلاق والسياسة هي مجموعة من الأفكار غير المجردة،  والتي يعمل معظمها في اللاوعي،  والعقل يتعامل معها متأثرا بعوامل عديدة تؤثر في القرارات والاختيارات. ولذا، يخلص إلي أن المحافظين خلال العقود الثلاثة الماضية كانوا علي وعي بهذا،  ولذلك كانت أفكارهم أكثر نظاما وتوضيحا .

وعن فكرة الكتاب الرئيسية بأننا لا نستطيع تفسير سياسات القرن الحادي والعشرين بعقلية القرن الثامن عشر،  يرفض الكاتب الاعتماد علي الرشادة التي كانت سائدة في القرن الثامن عشر لتفسير السياسات السائدة في القرن الحادي والعشرين،  مثل "لماذا يصوت المرشح ضد مصالحه أحيانا"، رغبة منه في تجاهل تأثير العواطف والانحيازات في القرارات. فرشادة القرن الثامن عشر لا توضح السلوك السياسي، لأن رؤيته للرشادة خاطئة. فهو يري أن الرشادة والعواطف متناقضتان. لكن الرشادة تحتاج إلي العواطف، فبدونها لن يستطيع المرء أن يشعر ما إذا كان القرار الذي سيتخذه سيجعله سعيدا أم غير سعيد، واثقا أم قلقا. وليس كل العواطف غير رشيدة، كما كانت تذهب الرؤي القديمة للقرن الثامن عشر،  ولكن العواطف مادامت منضبطة، فقد أضحت رشيدة. ولذا، يؤكد الكاتب أهمية الأخذ في الاعتبار الجانب اللاواعي والعاطفي في التفكير .

وانطلاقا من هذا، دعا "لاكوف" إلي ضرورة "تغيير العقول" لاسيما التيار الديمقراطي،  بعد تمكن التيار المحافظ خلال السنوات الماضية من التعبير عن قيمه بشكل متميز،  لسيطرته علي الإعلام والمناقشات السياسية،  مما مكنه من أن يكون له كبير الأثر علي الناخب الأمريكي. ولذا، دعا الكاتب إلي ضرورة جعل الفكر التقدمي أكثر تأثيرا. فالفكر التقدمي يري أن وراء كل سياسة تقدمية توجد قيمة أخلاقية.

ويري الكاتب أنه إذا كانت رؤية السياسة الأفضل تتعلق بقدر القوة والسلطة علي التحكم في المال والموارد،  فإنه لابد من توافر وعي جديد بأن الإجادة السياسية تتعلق بالأخلاق القادرة علي التأثير في مشاعر الشعوب. بمعني  أن أي نظام أخلاقي سيحكم وسيكون له تأثير في الرأي العام،  وبالتالي في نتائج الانتخابات.

وفي القسم الثاني، يقدم "لاكوف" إطارا فكريا جديدا للديمقراطيين يتواءم مع التطورات الأخيرة في عمل العقل، بعد تمكن المحافظين من التأثير في العقل الأمريكي طوال السنوات الماضية. وهنا، يتساءل الكاتب: كيف يستطيع الديمقراطيون استخدام هذه المعلومات لإعادة القيم الأمريكية الرئيسية والمؤسسات الديمقراطية? وما هي الخطوات التي يجب علي الديمقراطيين اتخاذها حتي يكونوا علي وعي جديد بقيمهم ومن ثم التأثير في المواطنين?

وعلي الديمقراطيين تأكيد قيمهم التقدمية من خلال الاستفادة من خبرة المحافظين من استغلال اللغة والأفكار والرموز بصورة متواترة  للترويج لنموذجهم المحافظ من جهة، وإعاقة النموذج التقدمي من جهة أخري،  لاسيما وأن الأمريكيين مزدوجو المفاهيم، بمعني أن لديهم مفاهيم محافظة وتقدمية. وينطلق الكاتب في الترويج للأفكار الديمقراطية التقدمية - مثل تقليل نسبة الكربون في الهواء لتقليل التلوث البيئي والاحتباس الحراري - من خلال تكرارها في الإعلام خلال النقاش العام، مما يحدث تغييرا في عقل المواطن الأمريكي بشكل تراكمي،  بما يجعل تلك الأفكار تحظي بتعاطف شعبي.

ويري الكاتب أنه يجب أن يحدث تنوير جديد لينتج وعي جديد، ينبع هذا الوعي الجديد من الرؤية الأخلاقية للديمقراطية،  والتي في قلبها الشعور بالغير، أي رؤية العالم من حيث ما يراه الآخرون،  والمسئولية  أيضا. فمبادئ الديمقراطية من حرية وعدالة ومساواة ليست للأمريكيين فقط، بل للجميع. ويري أن هناك صعوبة في التخلص من الآراء المضللة والهدامة التي تأتي تحت تأثير الصدمة. فلقد استغل المحافظون الجدد الصدمة التي حدثت للمجتمع الأمريكي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وتم فرض مبدأ  "الحرب علي الإرهاب"  لتسيطر علي العقل الأمريكي،  وإقناعه بأن الحرب هي الوسيلة الوحيدة لحماية الولايات المتحدة. وأصبح من يقف ضد الحرب هو ضد الدولة وضد حماية الولايات المتحدة.

لذلك، يدعو الكاتب لإقامة مناقشة واعية حول الحرب علي الإرهاب، تقوم علي توضيح أن الحرب كانت من أجل شركات البترول ومصالحها وأرباحها ،بالسيطرة علي ثاني أكبر دولة بها احتياطيات بترولية في العالم، في إشارة إلي العراق التي غزتها الولايات المتحدة في مارس 2003 ،  وأن الاتفاقيات البترولية الموقعة مع العراق جعلته يمتلك البترول ولكن لا يتحكم فيه، مع الدعوة إلي تقليل الاعتماد الأمريكي علي النفط الخارجي بالبحث عن بدائل أقل تلويثا للبيئة، وذلك للحفاظ علي كوكب الأرض من الاحتباس الحراري.

وهذا الوعي الجديد، حسبما يري "لاكوف"، يتطلب إنشاء إطار مفاهيمي جديد واضح ومتفق عليه، خاصة أن معظم المفاهيم والأفكار السياسية والأخلاقية المهمة - مثل قيم الحرية والعدالة والمساواة والأمن والمحاسبة، وهي مفاهيم محل انقسام داخل الفكر الأمريكي - هناك اختلاف في تفسيرها بين مختلف التيارات. فنفس المفهوم يختلف بين المحافظين والديمقراطيين، وقد تصل رؤية كل منهما للمفهوم إلي مرحلة التناقض.

فعدم الاتفاق وتنازع المفاهيم والأفكار السياسية بين التيارات السياسية الأمريكية هو سمة السياسة الأمريكية.  فعلي سبيل المثال، يركز المحافظون علي المسئولية الفردية. أما التقدميون، فيركزون علي الاستقلال والمسئولية الجماعية، جنبا إلي جنب مع المسئولية الفردية. ويرون أن القيود القانونية تعمل لصالح الحرية وليس ضدها، فهي تحمي الشعب من الأضرار غير الأخلاقية وغير المسئولة لحرية السوق. ويظهر الاختلاف أيضا حول مفهوم المحاسبة، فهو بالنسبة للتقدميين محاسبة الشعب للمسئولين، لكن المحافظين يرون أنه محاسبة المسئول الفعلي. فمثلا ما حدث في سجن أبو غريب بالعراق، تمت محاسبة المسئولين الصغار عنه، وليس وزير الدفاع الذي أعطي الأمر بذلك.

وفي الجزء الثالث والأخير من الكتاب، يذكر الكاتب أنه قد حان الوقت لجعل الأبحاث الخاصة بالعقل محل اهتمام،  وأن تتم الاستفادة منها في حقل العلوم السياسية. فالعقل عامل غير محايد لفرضه فهما معينا للحقيقة، فليس الأفراد يفهمون الحقيقة بالطريقة نفسها. وبالتالي، فإن العقل وطريقة فهمه للأمور له تأثير كبير علي القرارات السياسية ونتائجها.

ويري الكاتب من جهة أخري أن اللغة تلعب دورا هائلا لكونها وسيلة الاتصال الفكري،  ولأنها تعكس فهم المرء للحقيقة. لذا، يري الكاتب ضرورة الحذر عند استخدام اللغة في السياسة، فاللغة لديها قوة سياسية، وهي تستخدم لتغيير العقول للجيد أو للسيئ، فهي لا تعبر  فقط عن المشاعر، بل لها دور في تغيير المشاعر، وتعبر عن الهوية، بل لها دور أيضا في تغييرها. فاللغة تجمع الشعب أو تفرقه، فهي تستطيع أن تغير الذاكرة وتشكلها، وتغير التاريخ وقصص الماضي .

وفي النهاية، يري الكاتب أنه إذا أخذت الأبحاث الجديدة المتعلقة بدارسة عمل العقل في الاعتبار عند صياغة القرارات السياسية، فإن القيادات السياسية ستصبح أكثر وعيا بالأطر المفاهيمية التي تستخدمها، وسيكون النقاش العام للقضايا  ذا تأثير كبير في الحياة السياسية. فالرؤية القديمة للتنوير لم تعد صالحة الآن وغير كافية لفهم السياسة، وهي لا تهدد فقط الديمقراطية، بل تجعل الكثير من القيادات السياسية والناشطين الاجتماعيين غير فاعلين.

ويخلص الكاتب إلي أهمية مرحلة جديدة من التنوير تتناسب مع مقتضيات القرن الحادي والعشرين لفهم عقل القرن الجديد، لأن أفكار الرشادة التي كانت سائدة في القرن الثامن عشر لم تعد صالحة. ويؤكد أنه لا مفر من فكر جديد يتلاءم مع اكتشافات العلم الحديث الخاصة بعمل العقل.

ويتساءل الكاتب عما سيتغير إذا عرف عقل القرن الحادي والعشرين وأخذ في الاعتبار التغير في فهم طريقة عمله. ويري أن تشكيل الآراء حول القضايا المختلفة سوف يتم في نقاشات مفتوحة، وأن القيادات السياسية سوف يأخذون في الاعتبار القيم التي تقف خلف الأطر المفاهيمية المستخدمة لديهم، ويتجنبون استخدام الأطر التي تخدم قيم الاتجاه المقابل، وأنهم سيكونون علي وعي بالقاعدة الأخلاقية التي تعتمد عليها سياساتهم، وأن الصحفيين سيكونون أكثر وعيا عند تناول القضايا السياسية. فإذا ناقشوا اتجاها سياسيا لقضية معينة، فإنهم سيعرضون الاتجاه الآخر للقضية ذاتها، وأن الحملات السياسية لن تتبع استطلاعات الرأي، ولكن ستستخدمها للتحقق من قدرتها علي تغيير الرأي العام نحو الرؤية الأخلاقية للقائمين عليها للعالم، وأنه ستكون هناك حاجة لسياسة خارجية تركز علي الشعوب وليس فقط علي الدول. كما ستكون هناك حاجة إلي سياسة خارجية تؤكد قضايا، مثل الفقر، والجوع، وحقوق المرأة والطفل، والصحة العامة، والحفاظ علي البيئة العالمية، وحقوق المياه، وأيضا الاهتمام بالملكيات العامة العالمية من ثروات، وهواء وأنهار وغيرها. لذلك، يري الكاتب أنه يجب أن يكون هناك فهم جديد للقضايا التي تهم الجنس البشري .

ويعتبر هذا الكتاب مرشدا للأحزاب والجماعات السياسية التي تسعي لتكوين أحزاب في مصر بعد ثورة 25 يناير، فلابد أن تضع أطرا فكرية خاصة بها محددة الأفكار فيما يتعلق بتصوراتها لإحداث نهضة علمية في مصر لدستور مصر الجديد، ولعلاقات مصر الخارجية، ولتطوير التعليم والبحث العلمي، وللتأمين الصحي، ولمواجهة التلوث البيئي، وتكرارها في الإعلام ليتشكل رأي عام تجاه تلك القضايا. فالفترة القادمة ستحدد من سيستطيع أن يؤثر في عقول وقلوب المصريين .


رابط دائم: