تحركات السراج في الأزمة الليبية
15-8-2017

جمال طه
* خبير في شئون الأمن القومي.
دأب فايز السراج، رئيس "حكومة الوفاق" في ليبيا، على صناعة الأزمات، عقب كل لقاء يجمعه بقائد الجيش الوطني الليبي، خليفة حفتر. ولا يمكن الجزم بما إذا كان السراج متآمراً، أم ضحية سعى الميليشيات المسلحة التي تدعمه لإجهاض ما يتم الاتفاق عليه ، فقد حاولت تلك المليشيات التي تدعم السراج احتلال الهلال النفطي بعد اتفاق القاهرة في فبراير 2017، وعقب لقاء أبوظبى في مايو الماضي ارتكبت مذبحة براك الشاطئ.
 
السراج يتخوف من تسوية الأزمة الليبية، وبالتالى الرجوع للشعب فى إنتخابات رئاسية وتشريعية لاختيار رئيس وبرلمان حتى تستقر الدولة، لأن تعيينه بقرار غربى، دون الإستناد لأية قوى وطنية، لايضمن له مستقبل فى النظام السياسى الليبى، الأمر الذى يفسر إعتماده على الميليشيات، ودعوته المتكررة للقوى الغربية بالتدخل في ليبيا، حيث استدعى السراج الولايات المتحدة الأمريكية، بحجة مواجهة "داعش" في سرت في أغسطس 2016. وأكد الأمين العام لحلف الناتو أنه تلقى طلباً رسمياً من السراج بدعم الحلف، ووافق على إيفاد فريق خبراء لبحث احتياجاته، بالإضافة إلى قبوله تمديد "العملية صوفيا" لمكافحة التهريب لنهاية 2018، وتوسيعها لتشمل تدريب عناصر القوات البحرية، وحرس السواحل، ورفع الكفاءة الفنية والقتالية لوحداتها، ولقاعدة طرابلس البحرية.
 
 لقد أسفرت مبادرة فرنسا التي جمعت الطرفين بحضور ماكرون وغسان سلامة، المبعوث الأممى الجديد، وسفراء مصر، وفرنسا، وبريطانيا، وأمريكا بليبيا عن اتفاق باريس 25 يوليو 2017، والذي تمثلت أهم بنوده في: الحل السياسي عبر المصالحة الوطنية، ووقف إطلاق النار عدا ما يتعلق بمكافحة الإرهاب، وتوحيد مؤسسات الدولة، ودمج المسلحين بالمؤسسات الأمنية، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، وبناء دولة مدنية ديمقراطية، وأخيرا التداول السلمي للسلطة.
 
وبدأت مبادرة باريس التي انتهت بالتقريب بين موقفي الطرفين بعدة خطوات عملية، حيث التقي قادة عسكريون من فرنسا وبلجيكا بقادة من الجيش الليبي في نادي ضباط باريس لبحث آلية منع تسلل العناصر الإرهابية من السواحل الليبية إلى أوروبا.
 وبعد إتمام الاتفاق بين الطرفين، وموافقة الولايات المتحدة وعدم اعتراض روسيا، أصيبت إيطاليا بصدمة، بسبب إتمام فرنسا للمبادرة دون تنسيق معها، أو مراعاة لمصالحها، مما عرض حكومة جنتيلوني لهجوم من المعارضة، وأدى ذلك لتعبئة سياسية ضده في البرلمان الإيطالي.  
 
وفي الوقت الراهن، تواجه إيطاليا مأزقاً سياسياً، نتيجة لفشل اختياراتها، فقد راهنت تلك الدولة على دعم " الوفاق " فلم يمنحها البرلمان الثقة، واطمأنت لتلبية احتياجاتها من الطاقة التى تستورد 80% منها من المثلث النفطى الذي تسيطر عليه الميليشيات، فتمكن الجيش الوطني من تحرير المنطقة، مما دفع إيطاليا للتخطيط لتدريب ميليشيات مصراتة وتحويلها لقوات نظامية، لكنها انقسمت بين مؤيد لـ"الوفاق "، وداعم لحكومة خليفة الغويل، رئيس حكومة الإنقاذ، واعتزمت إيطاليا التدخل في الوسط والجنوب التابعتين لـ " الوفاق " لوقف تسلل المهاجرين، لكن قوات حفتر سيطرت عليها مؤخراً.  
   
لقد وافق البرلمان الإيطالي على طلب السراج بإرسال وحدات بحرية إلى المياه الإقليمية الليبية، بحجة مكافحة التهريب والاتجار بالبشر. وفي هذا الحين، قضى خبراء السفينة "كوماندانتي بروزيني" المختصة في حراسة السواحل بقاعدة طرابلس خمسة أيام، حيث عاينوا خلالها القطع البحرية الليبية، وحددوا احتياجاتها من قطع الغيار، لتتولى السفينة الورشة «تيرا ميتي» تنفيذ برنامج الصيانة المقرر، وتضمنت الخطة إرسال 6 قطع بحرية و12 زورقاً حماية، وطائرات مراقبة وتجسس "جلف ستريم"، رصدت بكثافة فوق طرابلس، ومحيط الجبل الغربي، وترهونة، ومصراتة.
 
حظي التدخل الإيطالي على موافقة إخوان ليبيا الذين رفضوا اتفاق باريس، وتأييد  عبد الرحمن السويحلى، رئيس المجلس الأعلى الدولة، لأنه يعرقل إحتمالات تقدم حفتر لطرابلس، لكنه أثار ردود فعل وطنية معاكسة، حيث رفضه البرلمان، واندلعت المظاهرات في طرابلس، وذهبت بعض المنشورات إلى اتهام السراج بالخيانة، وشبهت أخري المرحلة الراهنة بعودة الاستعمار الإيطالى. 
 
لقد استعدت إيطاليا جيداً للتدخل العسكري في ليبيا، فأقر البرلمان في العام الماضي نصاً تشريعياً يتيح إرسال قوات خاصة إلى مناطق النزاع للقيام بمهام سرية لمكافحة الإرهاب تحت مظلة المخابرات، حتى لا تحتاج إلى موافقة البرلمان، ونشرت أول قوة عسكرية في مصراتة في أكتوبر الماضي لدعم عملية البنيان المرصوص لتحرير سرت، وكلفت الجنرال باولو سيرا، المستشار الأمني للمبعوث الدولى لليبيا بتوثيق العلاقات مع التنظيمات المسلحة وقوات مصراتة.
 
تعد إيطاليا هي الدولة الوحيدة التي أعادت فتح سفارتها بطرابلس، وهي أيضا البعثة الوحيدة العاملة هناك. فقد وقعت مذكرة تفاهم مع السراج فى فبراير 2017، لتعزيز مكافحة الهجرة، وتدريب حرس الحدود، ودفعت بقوات خاصة نهاية ابريل، وتعرضت أحد تشكيلاتها لهجوم من «داعش» فى أثناء تحركها من مصراتة إلى سرت، وسقط قتلى وجرحى..
 
 أما الداخلية الإيطالية في روما، فقد رعت العديد من اتفاقات المصالحة بين القبائل الليبية، لضمان دعمها لحكومة الوفاق، بين قبيلة «التبو»، و قبيلتى «الطوارق وأولاد سليمان» فى الجنوب، وبين مصراتة والزنتان فى الغرب، وتعهدت بدفع تعويضات المتضررين، واستعانت بتونس كوسيط، واستضافت رئيسى البرلمان ومجلس الدولة «عقيلة، والسويحلى»، للمصالحة بينهما، وذلك لتهميش المشير خليفة حفتر، وقد استضافت أيضا مدينة صقلية المنتدى الاقتصادي الإيطالي/الليبي، والتقى وزير الداخلية الإيطالي  عمداء البلديات الليبية بطرابلس في يوليو 2017، ووعدهم بالمساعدة.   
 
لقد كشفت روما، منذ فبراير 2015، عن نيتها للتدخل العسكري في ليبيا، وحاول جنتيلوني، رئيس الوزراء، إقناع ترامب في أبريل الماضي بالقيام بدور أكبر في ليبيا، لكن الأخير لم يتحمس، متعللاً بأن الولايات المتحدة لديها ما يكفي من أدوار.
مما سبق، يبدو أن تدخل إيطاليا في ليبيا لم يتم رداً على المبادرة الفرنسية فحسب، وإنما كمحاولة للانفراد بليبيا، بعيداً عن الناتو، ففى أثناء بحث طلب السراج بالتدخل خلال قمة الناتو ببروكسل في مايو 2017، دعا جنتيلونى الحلف للتريث حتى يتم التوافق الوطني وإنشاء هيكل أمنى متكامل، ولم يفسر لماذا لم يتريث هو عملاً بنصحه!!. والمريب في الأزمة أن تنحاز روسيا إلى جانب إيطاليا، رغم كل ما تربطها من علاقات مع حفتر، فقد عرض ليف دينجوف، رئيس لجنة الاتصال بالخارجية والبرلمان «الدوما»، التعاون مع روما لمنع تدفق المهاجرين، متجاهلا ملابسات تدخلها العسكري، ومناخ الرفض لها داخليا وخارجياً، وكان كل ما يعنيه المشاركة في تحرك طرف قد يهيمن، ولو بالاحتلال، على المنطقة الغربية من ليبيا، مما قد يفسر أسباب قلق حفتر ومسارعته بزيارة موسكو، حفاظاً على دعمها له.
 
نقدر حجم التهديدات التى تتعرض لها ايطاليا جراء موجات الهجرة عبر المتوسط، وانها تجاوزت ربع مليون خلال الـ18 شهراً الأخيرة، لكن ذلك لايبرر عودتها لعصر إنتهاك سيادة الدول، وإستعمار اراضيها، حتى لو إستندت الى طلب «كرزاى ليبيا»، الذى لم يعرضه على البرلمان، وحكومتة لم تحصل على الثقة، حتى تمثل الدولة في شأن سيادى.
والأمر في مجمله بقدر ما يمثل تهديدات وتدخل في الشأن الليبي، فإنه في الوقت ذاته يحمل تهديدات للأمن القومي المصري، والمؤكد أن مصر لن تسمح للاستعمار القديم بالعودة للعبث في جوارها الإقليمي المباشر. 
 
 

رابط دائم: