مقالات رأى

هل يعارض المرشد الإيراني الاتفاق النووي مع الغرب؟

طباعة
يشتعل الجدل في أميركا حول مصير الاتفاق النووي بين إيران والغرب والموقّع في فيينا منتصف شهر تموز الماضي، لجهة إقراره أو رفضه. ولا يخلو أسبوع من تصريحات للرئيس الأميركي باراك أوباما أو وزير خارجيته جون كيري تؤكد على أهمية الاتفاق وتحقيقه للأهداف التفاوضية الأميركية، على خلفية التصويت المرتقب للكونغرس على الاتفاق الشهر المقبل. الجديد في الأمر أن اتجاهاً جديداً يتبلور في وسائل الإعلام الأميركية عبرت عنه مقالات عدة نشرت خلال الأيام القليلة الماضية تشكك في موقف المرشد الإيراني علي خامنئي من الاتفاق، وتلمح إلى إمكانية رفض الاتفاق إيرانياً بإيعاز من المرشد كما سقطت اتفاقات نووية سابقة مع الغرب عامي 2003 و2004. من المعلوم أن المرشد يتربّع على قمة السلطة الإيرانية ويستطيع تقرير مصير الاتفاق النووي ببيان مقتضب منه بالموافقة أو الرفض. وهنا لا يمكن مقارنة صلاحياته غير المحدودة تقريباً مع صلاحيات الرئيس الأميركي، الذي سيضطر إلى الاشتباك مع الكونغرس الأميركي لإقرار الاتفاق الشهر المقبل. من هنا فامتناع السيد علي خامنئي عن تأييد الاتفاق النووي منذ توقيعه وحتى الآن يوفر أرضية ممكنة للإثارة، بالتلميح إلى أن المرشد يعارض الاتفاق نظراً لتجاوز خطوطه الحمر التفاوضية في مسودة الاتفاق الأخير (رفع العقوبات الاقتصادية بالكامل وفوراً ورفض تفتيش المنشآت العسكرية تحت أي ظرف).
 
معارضة المرشد للاتفاق النووي: بناء سردية
 
تستنطق السردية المصاغة بحرفية عالية شخصيات إعلامية إيرانية قريبة من المرشد مثل حسين شريعتمداري رئيس تحرير صحيفة «كيهان»، حتى تؤكد ذاتها. يُعدّ شريعتمداري بنظر كثير من المراقبين متحدثاً غير رسمي للمرشد الإيراني طيلة العقد الأخير على الأقل، إذ يقول علناً ما يحجم المرشد عن إعلانه لاعتبارات سياسية مختلفة. نشر شريعتمداري مقالاً في «كيهان» السبت الماضي بعنوان «الحل الوحيد»، داعياً إلى رفض الاتفاق النووي لأنه يهدّد أسس ومبادئ الثورة الإسلامية. وقال شريعتمداري النافذ في الإعلام الإيراني لقربه المعلوم من المرشد: «أي شخص يتفحّص في تصريحات المرشد سيضطر إلى الاستنتاج أن المرشد الأعلى واعٍ بأوجه القصور في الاتفاق وتداعياته الكارثية، ويمكن القول بأن المرشد بالطبع ليس سعيداً على الإطلاق بالمسودة الحالية للاتفاق». واستطرد شريعتمداري: «كل الخبراء والمسؤولين من دون استثناء يعترفون بأن أجزاء من صفقة فيينا وقرار مجلس الأمن الرقم 2231 لا تتوافق مع أسس ومبادئ الثورة والنظام، بل إنها تهددها، وإنه إذا تم تطبيق الاتفاق فربما تدمّرها». ويخلص شريعتمداري في نهاية مقاله إلى القول: «لا يوجد سوى خيارين وحيدين، إما الموافقة الكاملة أو الرفض الكامل، وفي ضوء ما تقدم لا يتبقى إلا الرفض الكامل للاتفاق النووي». ثم زادت الإثارة والأقاويل المتعلقة برفض المرشد للاتفاق، بعد تصريح عباس عراقجي نائب وزير الخارجية للموقع الإلكتروني للراديو والتليفزيون الإيراني يوم الأحد الماضي ومفادها أن «المرشد كان على علم بالخطوات التفاوضية خطوة بخطوة»، حيث أزيلت تصريحاته من على الموقع الالكتروني بعد أقل من ساعة! وكان مما لفت الانتباه كثيراً أنه لا المرشد ولا مكتبه أنكرا ما كتبه شريعتمداري في مقاله الناري، بل إن خطبة المرشد بعد المقالة بيومين (يوم الاثنين الماضي) أكدت حتى أن آراء شريعتمداري لا تخصّه وحده بالضرورة.
 
علق المرشد في خطبته على الاتفاق النووي بين بلاده والغرب مستخدماً تعبيرات متشائمة ملاحظاً أن «القرار بالموافقة على الاتفاق أو رفضه مازال أمراً غير واضح سواء في طهران أو واشنطن». وكما فعل منذ التوقيع على الاتفاق منتصف شهر تموز الماضي، فقد تجنب المرشد تأييد الاتفاق، إلا أنه شدد لهجته خطابياً بمواجهة أميركا في لهجة هي الأعنف منذ التوصل للاتفاق النووي الشهر الماضي. «أميركا لا تملك أوراق اعتماد في المنطقة كما اعتادت في السابق، إنهم يريدون ترميم هذه الأوراق وهي نيتهم في بلدنا أيضاً. لديهم وهم أنه في سياق المفاوضات النووية سيجدون الوسيلة لاختراق البلد. لقد سددنا طريقهم.. لن نسمح بتأثير اقتصادي لهم في إيران ولا بتواجد سياسي ولا بتأثير ثقافي. بكل الوسائل وحمداً لله وســـائلنا قوية اليوم سنواجهـهم ولن نسمح بذلك».
 
غموض جهة الإقرار مؤسسياً
 
تعود سردية معارضة المرشد للاتفاق النووي لترسم لنفسها بعداً مؤسسياً، مستغلة الغموض السائد حول جهة إقرار الاتفاق النووي إيرانياً، لتذكر بأن آية الله أحمد جنتي رئيس «مجلس صيانة الدستور» الذي يراقب أعمال البرلمان وفقاً للدستور الإيراني، أعلن يوم كتابة مقالة شريعتمداري في «كيهان» أن المجلس بانتظار تعليمات المرشد حول التصويت على الاتفاق إن كان في البرلمان أم في مجلس الأمن القومي. وبعد كتابة مقال شريعتمداري السبت الماضي، وقع 201 عضو من أعضاء البرلمان الإيراني (من أصل 290 عضواً) عريضة يطالبون فيها بعرض الاتفاق على البرلمان للبتّ فيه. وبرغم ذلك لا يبدو الطريق القانوني لإقرار الاتفاق النووي واضحاً، إذ لم يعلن المرشد رأيه بصراحة في الاتفاق فحسب، بل ولم يحدد الجهة المنوط بها شكلياً إقرار الاتفاق أو رفضه. سيحتاج البرلمان إلى جلسة أو أكثر وإلى مناقشة مستفيضة قد تكون محرجة، ولكنها لا تلزم المرشد بموقف معلن حيث سيحتفظ بخيوط القرار كالمعتاد من خلف الستار، وفي كل الأحوال سيــتم ذلك بعد إقرار الكونغرس للاتفاق وليـــس قبلها. أما تحويل الإقرار إلى مجلس الأمن القــــومي كما يريد الرئيس روحاني، فسيلزم المرشد بإظـــهار موقفه المؤيد للاتفــاق، ومردّ ذلك أن قرارات مجلس الأمن القومي تصبح نافذة قانوناً فقط عند موافقة المرشد.
تفسير الغموض والتضارب
 
روّج لسردية معارضة المرشد للاتفاق النووي «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى» الممول من اللوبي الإسرائيلي، وتلته صحيفة «وول ستريت جورنال»، وكلاهما معارض للاتفاق النووي مع إيران بالأساس. يقول تقليب النظر في السردية المصوغة بعناية أن الهدف من وراءها الضغط على الإدارة الأميركية لانتزاع تأييد علني من المرشد للاتفاق، وهي تعلم أن هذا الهدف غير ممكن التحقق فعلياً ونظرياً. تستغلّ سردية معارضة المرشد للاتفاق النووي ثلاثة عناصر لاكتساب مصداقيتها:
أولها غموض مواقف المرشد المعلنة من الاتفاق فعلاً ـ لأسبابه التي سنأتي عليها حالاً ـ وثانيها غموض جهة الإقرار الشكلي للاتفاق: مجلس الأمن القومي أم البرلمان، وثالثها القرب المعروف لشريعتمداري من المرشد والمعاني التي حملها مقاله الناري الأخير في «كيهان».
 
بمعنى آخــــر، تحاول السردية نقل السجال الأميركي الصاخب حول الاتفاق إلى الملــــعب الإيــــراني لتشديد الضغوط عليه وعلى إدارة أوباما في آنٍ معاً.
 
بالمقابل، لا تعتقد هذه السطور بأن المرشد يعارض الاتفاق النووي في إيران، لعلمه المؤكد بأنه الأفضل لإيران في ضوء موازين القوى الراهنة. ومن ناحية أخرى، لا يمكن منطقياً قبول سردية أن المرشد يعارض الاتفاق النووي مع الغرب، حتى مع تجاوز بعض خطوطه الحمراء، ومردّ ذلك أن أي فريق تفاوضــــي إيراني لا يمكنه أن يوقع على اتفاق دولي بهذه الأهمــــية من دون موافقة المرشد الصريحة والمباشرة. ومن ناحية ثالثة، لا بدائل جيدة في الواقع أمام إيران سوى إقرار الاتفاق، الذي يسمح بإعادة اندماجها في المجــــتمع الدولي ورفــــع العقوبات عن كاهل اقتـــصادها وتحقيق التقارب بين النظام والشعب المؤيد بأغلبيته للاتفاق.
 
أما إذا كان الأمر متعلقاً بتفسير التصريحات حصرياً لاستنتاج مواقف نهائية للمرشد، فقد أعلن السيد خامنئي طيلة فترة المفاوضات الشاقة عن تشككه في نيات الغرب، ولم يمنع ذلك الفريق التفاوضي الإيراني من التوصل لاتفاق في النهاية.
أما في موضوع قرب شريعتمداري غير المنكور من المرشد؛ وبالتالي الخلوص إلى نتيجة مفادها أن مقاله المذكور يشي بمعارضة المرشد للاتفاق، فالرد عليه سهل نسبياً، إذ أن المقربين سياسياً من المرشد حالياً مثل علي أكبر ولايتي وزير الخارجية السابق، وحسن فيروزابادي رئيس أركان الجيش الايراني وعلي أكبر صالحي رئيس هيئة الطاقة النووية، يؤيدون الاتفاق علناً وبوضوح. كيف يمكن إذن تفسير الغموض الذي يبديه المرشد حيال الاتفاق؟
 
يستهدف المرشد الإيراني ثلاثة أهداف بغموضه حيال الاتفاق النووي:
 
أولاً استعداء المعارضين للاتفاق في أميركا للحفاظ على «الرصيد الثوري» لإيران لأطول فترة ممكنة ولكن من دون المخاطرة بانهيار الاتفاق، لعلمه بأن المعارضين للاتفاق في الكونغرس سيخسرون الشهر المقبل أمام أوباما و «الفيتو» الرئاسي. ثانياً التحسب لاحتمال توافق أميركي داخلي على طلب تعديلات إضافية على الاتفاق لإرضاء المعترضين الأميركيين، وساعتها تستطيع إيران أن تطلب المثل عبر قرار من البرلمان الإيراني الذي لم يقر الاتفاق بعد. ثالثاً إظهار قوة مركز المرشد في الداخل الإيراني، في مواجــــهة المؤســـسات والتيارات المختلفة قبيل البدء في تنفيذ الاتفاق النووي.
 
-------------------------
* نقلا عن السفير اللبنانية، 20-8-2015.
طباعة

تعريف الكاتب

مصطفى اللباد