مقالات رأى

«جنيف 2» والمصير السوري!

  • 30-1-2014

طباعة
كانت سوريا الأسوأ حظا فيما يتعلق بزمان الزلازل والهبات العربية التي توالت منذ بداية العقد الحالي، حتى رغم أن الحصاد كان فيه الكثير مما هو مأسوف عليه في معظم الأحوال، ولكن قلاقل التاريخ دائما صعبة، ومؤلمة، وحادة، ولا يتحملها من دول وأفراد إلا من كانت فيه عناصر القوة الطبيعية من هوية وتماسك وترابط اجتماعي وسياسي. وربما منذ بداية الاستقلال في الدولة السورية فإنها عاشت في حلم كبير أن تكون بؤرة دولة عربية عظمى، ولكنها من داخلها كان ينخر فيها ولاءات أقل من دولة واحدة، كانت انكماشا كبيرا عما كانت عليه الولاية السورية الكبرى في العهد العثماني. الولاءات التحتية كانت دائما من سمات «المشرق العربي»، ولكنها عرفت كيف تتعايش كما جرى في لبنان رغم حربين أهليتين، وكان القهر العسكري والحزبي يستطيع في أحيان أن يبقي الرابطة داخل الدولة، كما جرى في العراق وسوريا. الأردن وحده رغم هزات وقلاقل، بقي متماسكا تحت العرش الهاشمي الذي ثبت أنه رباط ليس بالقليل، رغم الضغوط الكبرى للقضية الفلسطينية.
 
سوريا لم تتحمل عاصفة «الربيع العربي»، وثبت أن الحكم البعثي فيه قدر كبير من العبث، ولكن فيه قدرا أكبر من العنف والقسوة، والاستعداد اللامتناهي للمضي قدما في القتل والترويع حتى يصل إلى آخر المدى. في الدول التي جاءتها العاصفة، جرى التجاوب معها، لم تنته دولة إلى أفضل مما كانت عليه، ولكن الدول بقيت بشكل أو بآخر وظلت، ولا تزال تحاول أن تخرج من العاصفة. الكل يعرف أن الماضي لا يعود مرة أخرى، ولكن الكل ينتظر ما إذا كان ممكنا بناء مستقبل جديد. سوريا وحدها قررت كل القوى أن تمضي في الصراع إلى آخره، تستخدم القوى الدولية والإقليمية بمهارة لكي تحصل على ما يكفي لاستمرارها في الصراع. وبشكل ما، فإن سوريا جرى عليها ما جرى في قصة الملك سليمان والسيدتين اللتين جاءتا له برضيع تزعم كل واحدة منهما أنها تملكه. قراره الحكيم بقسمة الرضيع قسمين كان كاشفا، فالأم وحدها رفضت القسمة، فكان القرار بمنحها الحق، أما في الحالة السورية فقد كانت هناك أكثر من سيدة، وكلها وافقت على تقطيع الرضيع.
 
البداية كانت في درعا، وكانت المسألة كما كان الحال في بقية الدول مظاهرات سلمية، ولكن العنف كان كاسحا، والانقسام في الجيش كان سريعا، وسرعان ما باتت الأقاليم تئن من أوزار مدن وقرى. وفي لحظات لم تعد المسألة بين الاستبداد والمعارضة الساعية للحرية، إذا بالأمر فيه من «القاعدة» وأمثالها ما يكفي لكي تنفجر الدولة كلها. في ليبيا جرى التدخل الدولي، وبعد سقوط النظام بقيت ليبيا هشة نعم، ولكنها بقيت، وفي اليمن جرى التدخل الإقليمي، وسقط النظام، وبقي اليمن أكثر هشاشة، ولكنه بقي. في سوريا حدث التدخل الدولي والإقليمي، ولم يسقط النظام، وزادت سوريا هشاشة على هشاشتها، وضعفا على ضعف. تمزقت الدولة، ومعها أقاليم، ونضحت الولاءات التحتية للأعراق والأديان والجماعات والأقليات، ولا يزال بشار الأسد وجماعته يعتقدون أنهم يقودون دولة بالفعل. ولم يعد معلوما ما إذا كان التدخل الدولي في النهاية سوف يتركها دولة مرة أخرى، أم أنه سوف يكون علينا مواجهة واقع جديد. لاحظ هنا الفارق بين مؤتمر «جنيف1» والمؤتمر الثاني «جنيف2»، في الأول كانت القضية مماثلة لقضايا دول الربيع الأخرى، وهي تشكيل حكومة انتقالية تقوم بوضع دستور تتفاوض عليه الأطراف المختلفة للصراع، وبعدها تبدأ الدولة الجديدة عملها على أمل أن تكون أكثر ديمقراطية من سابقتها. كان واضحا أن انعقاد المؤتمر الأول شاهد على أن طرفي الصراع لا يستطيعان الانتصار في الحرب، وكان الحديث عن حكومة انتقالية هو السبيل لخلق أرضية ما وسط يمكن التوصل إلى نتيجة بعدها. كان مفهوما للمعارضة أن معنى ذلك الخلاص من نظام البعث وبشار الأسد معا، أما نظام البعث وبشار فقد كان يعني استيعاب جماعة المعارضة في السلطة، فيبقى البعث ومعه بشار أيضا. لم يبد ممكنا لكلا الطرفين تحقيق هدفه فتصور أنه يحتاج إلى جولة أخرى من الصراع، فقد يحسم الميدان ما لم تحسمه الدبلوماسية. ولم يترك النظام البعثي طريقا إلا وسلكه، فاستعان بحزب الله اللبناني في الحرب السورية، ونظر إلى الناحية الأخرى حينما دخلت الطائرات الإسرائيلية لضرب صواريخه، ولم تكن لديه مشكلة في التخلي عن سلاحه الكيماوي، أخذ من روسيا وإيران ما يستطيع، ودفع دفعة كبرى مستغلا انقسامات المعارضة ودخول جماعة القاعدة إلى قلبها لكي يسحق المعارضة، ولكنه فشل مرة أخرى في إحراز نصر. جاءت لحظة للتعادل مرة أخرى فكان «جنيف2» مطلوبا، ربما لكي يلتقط الجميع الأنفاس، أو تجد القوى الدولية والإقليمية فرصة لعقد صفقة شاملة، ولكن الطريق إلى عودة الدولة السورية لا يزال بعيدا، بل إنه بات أكثر بعدا من قبل.
 
في «جنيف2» كان الهدف هو العمل على تشكيل حكومة انتقالية تمثل كل الأطياف ومحايدة ولطيفة وتستطيع أن تأخذ بيد الجميع لكي يسهموا في بناء سوريا الجديدة. هذا الهدف لا يزال باقيا، ولكنه مؤجل حتى يتم تحقيق سلسلة من الأهداف كان أولها وقف إطلاق النار في سوريا كلها، ولكن ذلك بات هدفا بعيدا، فما بات مطلوبا هو وقف إطلاق النار جزئيا في مناطق بعينها، وأحيانا بشكل مؤقت حتى يمكن للمساعدات الإنسانية أن تمضي. الحالة ببساطة باتت كارثية، فأحوال اللاجئين والقتلى والجرحى وتداخلها بين المدن والقرى والمناطق، وما بين سوريا ولبنان، وسوريا والعراق، جعل الإمساك بالخيوط الدبلوماسية صعبا، وتحتاج إلى صبر أيوب حتى يمكن تحقيق نجاح واحد فيه يتيح لعدد من العائلات النجاة من الموت. المدهش أن قضية كبيرة ومعقدة مثل الأسلحة الكيماوية تم حلها بسرعة، وسلاسة، وتم وضعها في إطار برنامج زمني للتطبيق، مثل ذلك ليس منتظرا حدوثه حينما يتعلق الأمر بالبشر السوريين بحيث ينتهي الوضع المميت في حلب، أو يتم حل مشكلة اللاجئين في الداخل، أما الملايين التي ذهبت إلى الخارج فهذه ربما لن يكون لها حل إلا بعد عقد مؤتمر «جنيف3» أو حتى بعد ذلك. وببساطة، فإن «جنيف2» قد يحاول، ومن الجائز أن ينجح، في أن يضمد بعضا من الجراح السورية البسيطة، وبعدها سوف يكون لكل حادث حديث. الحل الناجع الوحيد الذي يحل المسألة من جذورها أن يجد بشار لديه من الشجاعة ما يكفي للاعتراف بأنه فشل في إدارة سوريا، واستمراره في الإدارة يعني آلاما طاحنة تحتاج إلى أكثر من «جنيف» لعلاجها.
 
----------------------------------------------
* نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية، الأربعاء، 29/1/2014.
طباعة

تعريف الكاتب