مقالات رأى

التكامل الأوروبي يواجه أزمة بقاء

طباعة


بالعام ،1993 أسهمت جميعها في توسيع نطاق المجالات التكاملية في هذا الاتحاد . لقد وجدت معظم الدول الأوروبية هذه التجربة جاذبة، فقررت الانضمام إلى عضوية هذا الاتحاد خلال مراحل مختلفة من مسيرته المديدة، فتطور عدد الدول المنضوية تحت لوائه من ست دول في العام 1952 إلى سبع وعشرين دولة في العام 2007 . هدفت التجربة الأوروبية إلى توحيد السياسات المطبقة في دول الاتحاد، وذلك وفق صيغة مبهرة، تقوم في الأساس على قبول الدول الأعضاء التنازل عن أجزاء محددة من سيادتها الوطنية لمصلحة مؤسسات التكامل فوق الوطنية التي تم إنشاؤها، على أن تقوم هذه الأخيرة بصنع السياسات الموحدة التي تلتزم الدول الأعضاء بتطبيقها، وذلك في المجالات التي تنازلت بشأنها الدول عن اختصاصها بصنع السياسات .

ظل الاتحاد الأوروبي يجسد أكثر تجارب التكامل الإقليمي نجاحاً على مستوى العالم، ومن دون منازع، وبلغت مستويات الابتكار التكاملي في مؤسساته وممارساته حدوداً تثير خليطاً من الإعجاب تارة والقلق تارة أخرى، ذلك أن السياسات الموحدة التي صنعتها مؤسسات التكامل الأوروبي تمثل في واقع الأمر ابتعاداً عن الكثير من المسلمات المستقرة في إطار الدولة الوطنية . تجسد تجربة الاتحاد الأوروبي في جوهرها الإقلاع عن كل ما هو معهود وموثوق، والانتقال إلى كل ما هو مبتكر وغير مجرب في مفاهيم حيوية مثل الدولة والسيادة والسياسة والحكومة، الأمر الذي جعل رحلة تطور الوحدة الأوروبية محفوفة بكافة أنواع المصاعب والمخاطر .

يواجه الاتحاد الأوروبي في الستين من عمره أزمة خطيرة غير مسبوقة في تاريخ هذا الكيان العتيد . يمكن للمرء أن يتصور أن لدى القادة الأوروبيين الدراية الكافية التي تمكنهم من التعامل مع قوى الصراع بين النزعة الوطنية من جهة والنزعة الوحدوية من جهة أخرى، ولكن يبدو أن الحالة التي يمر بها الاتحاد مختلفة هذه المرة، لا تقتصر على مجرد مواجهة تحدي إقناع الدول الأعضاء بتقديم تنازلات السيادة الوطنية المطلوبة، بل تتعدى ذلك إلى إنقاذ القناعة لدى الشعوب والحكومات الأوروبية بأن فكرة التكامل بين دول الاتحاد لاتزال وجيهة في الأساس . تثير أزمة الاتحاد الأوروبي الكثير من المخاوف بخصوص قدرة هذه المنظومة فوق الوطنية على البقاء .

لم يحظ الاتحاد الأوروبي بالموافقة المتحمسة للولايات المتحدة على وجوده في الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي، بل وجدت واشنطن فيه منافساً حقيقياً لمكانتها على قمة النظام الدولي الأحادي القطبية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي . ولم يعط هذا الأخير بدوره الاتحاد الأوروبي الكثير من مؤشرات القبول كجار كبير، خاصة حين قررت عشر دول أوروبية شرقية الانضمام إلى منظومة التكامل الأوروبي، بعد أن كانت هذه الدول تدور في فلك موسكو قبل نحو عشرين سنة، الأمر الذي تعتبره روسيا تقهقراً لنفوذها أمام تمدد نفوذ الاتحاد الأوروبي . لن يزعج فشل منظومة الاتحاد الأوروبي الكثير من القوى الكبرى على صعيد الاستراتيجيات السياسية على الأقل، وربما تتطلع العديد من هذه القوى إلى تراجع قوة التكتل الأوروبي على المستوى العالمي .

توضح الأزمة الحادة التي تعصف بالاتحاد الأوروبي بعض الإشكاليات الأساسية في بنية هذا الكيان . فمن ناحية أولى، يبدو أن الاتحاد الأوروبي ليس أكثر من مجرد اتحاد من الدول الوطنية المستقلة، ولم ينجح في واقع الأمر في تذويب الدولة الوطنية كوحدة بناء أولية في الاتحاد، وربما الأصح القول إنه لم يسعَ إلى تحقيق ذلك ابتداء . لا تزال هناك دول ودساتير وحكومات أوروبية قائمة، ويؤثر أداؤها مفردة في محصلة الأداء الجمعي للاتحاد بطرق غير مباشرة ولكنها جوهرية . ومن ناحية ثانية، يبدو مفهوم “المجتمع المدني الأوروبي” غائباً من واقع الاتحاد الأوروبي، في الوقت الذي لا يزال المجتمع المدني هو الحاضر بقوة في كل دولة مفردة من الدول الأعضاء . إن الصعوبات التي تصنعها الاختلافات اللغوية والثقافية الكبيرة بين أقاليم الاتحاد الأوروبي حقيقية، ولا يمكن الاستهانة بالمشاعر السلبية التي تتملك الأوروبيين تجاه بعضهم وفق نظرة “نحن” و”هم” . ومن ناحية ثالثة، ركزت جهود بناء الاتحاد الأوروبي خلال العقود الستة الماضية على إقامة المؤسسات التكاملية، وأبقت على التكامل بين الشعوب الأوروبية خارج نطاق حساباتها المباشرة . تبدو الآن الشعوب الأوروبية منقسمة على الرغم من وجود كل من الهياكل التكاملية والسياسات الموحدة، وتفجر الصعوبات الاقتصادية الحادة أزمة الثقة من قبل الشعوب الأوروبية الأقل ثراء تجاه تلك الأكثر ثراء .

هل يمكن أن يتفكك الاتحاد الأوربي في عمر الستين، وهل يمكن أن تفنى عملة اليورو في سن العاشرة؟ هل كانت رؤية القادة الأوروبيين في منتصف القرن الماضي طموحة وغير واقعية؟ هل وصل الاتحاد الأوروبي إلى أقصى حدود قدرة السير ضد الكيفية المعهودة والموثوقة في إدارة المجتمعات البشرية في إطار الدولة الوطنية؟ هل تشعر النرويج بالرضى عن قرارها البقاء خارج عضوية الاتحاد الأوروبي حتى الآن، وهل لا تزال تركيا راغبة في الحصول على العضوية فيه على الرغم من التحديات التي تعصف به؟ هل خذلت الظروف الدولية الواقعية إمكانية الاستمرار في تنفيذ نظرية التكامل الإقليمي والسياسات الموحدة؟ وهل يمتلك القادة الأوروبيون المعاصرون الرؤية النافذة التي يمكن أن تسعف هذا الاتحاد، أو على أقل تقدير تضمن عدم سقوطه بشكل مدوي يتسبب بتحطيم الأداء الاقتصادي والاستقرار السياسي في القارة الأوروبية؟

لا توجد إجابات سهلة عن مثل هذه الأسئلة وغيرها، ومن المحتمل أن يعطي جهد التفكير فيها مردوداً من الثراء الفكري لا يقل عن ذلك الذي كان ينتج عن مراقبة وتحليل الصعود المتنامي للاتحاد الأوروبي . لقد كاننت تجربة إنشاء وبناء وصيانة الاتحاد الأوربي مليئة بكافة القيم النبيلة التي حرصت الحكومات الأوروبية من خلالها على تحقيق مصالح شعوبها في المقام الأول، ومن المؤسف أن تمر هذه التجربة بأزمة الثقة في فرص نجاة مؤسسات التكامل في المستقبل .

---------
* نقلا عن دار الخليج، الثلاثاء، 15/5/2012.

طباعة

تعريف الكاتب

علي الغفلي

علي الغفلي

رئيس قسم العلوم السياسية (جامعة الإمارات)