تحليلات

المشهد السياسي والأمني في الإكوادور على وقع أزمة التعديلات الدستورية

طباعة

تمر الإكوادور بواحدة من أكثر مراحلها السياسية حساسية منذ عقدين، بعد أن أقدمت حكومة الرئيس دانييل نوبوا على طرح سلسلة من التعديلات الدستورية الجوهرية التي تمس ركائز النظام السياسي ومبدأ السيادة الوطنية، وخاصة المقترح المتعلق بالسماح بوجود قواعد عسكرية أجنبية داخل أراضي الدولة. وقد جاء هذا التوجه في وقت تشهد فيه البلاد انفلاتًا أمنيًا غير مسبوق، مما جعل الحكومة تبرر خطواتها بأنها وسيلة ضرورية لاستعادة السيطرة على الوضع الداخلي. ومع ذلك مثّل رفض الشعب لهذه التعديلات تحولًا عميقًا في المعادلة السياسية، كاشفًا عن تباعد كبير بين السلطة والشارع، وعن حساسية المجتمع الإكوادوري تجاه أي شكل من أشكال الوجود العسكري الأجنبي. ومن هنا، تمثل هذه الأزمة نموذجًا واضحًا لتشابك الأمن والسيادة والسياسة في سياق دولة تتلمس طريقها نحو الاستقرار.

أولًا- الأزمة في الإكوادور.. سياقات أمنية وخلفيات سياسية:

تأتي الأزمة السياسية في الإكوادور ضمن إطار أوسع من التحديات الأمنية والاجتماعية التي تواجه البلاد. فقد شهدت السنوات الأخيرة تصاعدًا ملحوظًا في معدلات العنف والجريمة المنظمة، مما أثر على الاستقرار الداخلي وأثار مخاوف بشأن قدرة الدولة على حماية مواطنيها. هذا السياق المعقد يشكل خلفية حيوية لفهم أسباب الأزمة، والمسارات التي اتخذتها الحكومة والشعب في مواجهة المخاطر الأمنية والسياسية.

1-   تصاعد العنف والجريمة المنظمة في الإكوادور:

شكلت موجة العنف التي اجتاحت الإكوادور خلال السنوات الأخيرة الخلفية الأساسية للأزمة الراهنة. فقد شهدت المدن الساحلية وفي مقدمتها "جواياكيل" انتشارًا واسعًا للعصابات المرتبطة بتجارة المخدرات العابرة للحدود، الأمر الذي أعاد البلاد إلى واجهة المشهد الأمني في أمريكا اللاتينية، إذ تُصنّف هذه المدينة الصغيرة من بين أخطر مدن العالم، بمعدل جرائم قتل يبلغ 146 جريمة لكل 100 ألف نسمة في عام 2024، وفقًا لمرصد الإكوادور للجريمة المنظمة، وهو ما يجعلها متقدمة بفارق كبير على مدن مثل مكسيكو سيتي، التي بلغ معدل جرائم القتل فيها العام الماضي 10 جرائم لكل 100 ألف نسمة، بينما بلغ المعدل في ولاية "ريو دي جانيرو" 22 جريمة([1]).

وقد أدى انهيار منظومات الأمن في بعض المناطق الساحلية إلى بروز عصابات قوية، مثل"Los Choneros" و"Los Tiguerones"، التي نسجت علاقات مع كارتلات مكسيكية كبرى، هو ما نتج عنه ارتفاع معدلات القتل بنسبة وصلت إلى أكثر من 300% خلال خمس سنوات فقط، حتى باتت الإكوادور تُصنّف ضمن الدول الأكثر عنفًا في المنطقة،وأصبحت أجزاء من البلاد مناطق محظورة في قبضة العصابات، حيث لم يعد سائقو الشاحنات قادرين على توصيل المنتجات الأساسية بسبب مطالبهم بأموال الحماية، حيث أضحت الحافلات تُستهدف بقنابل المولوتوف، وقُتل صيادون في محاولات ابتزاز واضحة.

ومع ازدياد عمليات الاغتيال، والاختطاف، والابتزاز، تراجعت قدرة أجهزة الشرطة على فرض الأمن، مما خلق شعورًا عامًا بالعجز المؤسسي دفع الحكومة إلى البحث عن حلول استثنائية تتضمن تعاونًا عسكريًا خارجيًا(.([2]

2-   تمهيد الضغوط الداخلية الطريق نحو الاستفتاء:

في خضم تفاقم أزمة العنف والجريمة المنظمة في الإكوادور، لجأت حكومة نوبوا إلى مقاربة أمنية طارئة، ترى أن قدرات الدولة الداخلية لم تعد كافية لمواجهة شبكات تهريب المخدرات والعصابات التي تستغل الفوضى الأمنية والإهمال المؤسسي. في هذا الإطار قدّم نوبوا في أواخر 2024 مقترحًا لتعديل الدستور: تحديدًا تعديل المادة 5 التي تحظر إقامة قواعد عسكرية أجنبية على الأراضي الإكوادورية، حيث تنص على أن "الإكوادور أرض سلام. لا يجوز إنشاء قواعد عسكرية أجنبية أو منشآت أجنبية لأغراض عسكرية. ويُحظر نقل القواعد العسكرية الوطنية إلى قوات مسلحة أو أمنية أجنبية". وينص مقترح الرئيس الإكوادوري على تعديل هذه المادة بغية السماح بشراكة دفاعية، وتعاون استخباراتي، ونشر قوى عسكرية مشتركة لمكافحة الجريمة العابرة للحدود([3]).

رافق هذا المقترح مشروع لإعادة صياغة الدستور، وتقليص عدد أعضاء البرلمان (من نحو 151 نائبًا إلى 73)، وكذلك إلغاء التمويل العام للأحزاب، وقد شهدت الإكوادور ثلاثة دساتير منذ عودتها إلى الديمقراطية في عام 1979، إلا أن نوبوا قال إن الوقت قد حان "لإعادة بناء" البلاد، مشيرًا إلى أن الدستور الحالي لا يمنح الحكومة الأدوات الكافية لمكافحة الجريمة([4]).

وبررت حكومة نوبوا هذه التعديلات بأنها ضرورية لاستعادة الفعالية، وخفض التكلفة، وتسهيل اتخاذ القرار، خاصة في ظل ما وصفته بـ"حالة طوارئ أمني:، إلا أن الشارع نظر إليها بوصفها محاولة لتوسيع سلطات الرئيس على حساب المؤسسات الأخرى.

3-   خلفيات الاستفتاء ومسارات التصويت:

كان البعد السيادي من أكثر العناصر تأثيرًا في تشكيل الموقف الشعبي. فقد تعامل المواطن الإكوادوري مع فكرة القواعد الأجنبية باعتبارها عودة محتملة إلى حقبة من التبعية السياسية التي حاولت البلاد التخلص منها لسنوات. وبذلك اكتسبت الأزمة طابعًا أعمق من مجرد جدل أمني، لتتحول إلى صراع حول هوية الدولة ودورها في محيطها الإقليمي.

وجاء الاستفتاء في نوفمبر 2025 وسط حالة من الاستقطاب السياسي، إذ حاولت الحكومة إقناع الناخبين بأن التعديلات هي الطريق الوحيد لإنقاذ البلاد من الانهيار الأمني. ومع ذلك، اتسمت الحملات الشعبية المضادة بزخم كبير، حيث نظمت منظمات المجتمع المدني ونقابات العمال وقطاعات من المعارضة حملات دعت للتصويت بـ “لا”.

وأظهرت النتائج رفضًا واسعًا لجميع المقترحات في الاستفتاء الذي طرحه الرئيس الإكوادوري دانيال نوبوا، خاصة تلك المتعلقة بالقواعد العسكرية والدستور الجديد، وفيما يتعلق بقضية الجمعية التأسيسية، حصل التصويت بـ"لا" على 61.55% من الأصوات الصحيحة مقابل 38.45% لـ"نعم"، وهي نسب مماثلة لمقترح القواعد العسكرية الأجنبية، حيث حصل التصويت بـ"لا" على 60.50% من الأصوات الصحيحة والتصويت بـ"نعم" على 39.50%.. وفي مسألة إزالة التمويل العام للأحزاب، فازت "لا" بنسبة 57.96% مقارنة بـ 42.04% لـ "نعم"، وكان السؤال الوحيد الذي كان الهامش فيه أصغر هو السؤال حول تقليص عدد أعضاء الجمعية، حيث حصل على 53.41% لـ "لا" و46.59% لـ "نعم".

جاء ذلك في وقت كانت حكومة نوبوا تؤكد أن هذا الإجراء ضروري لمكافحة الجريمة المنظمة والعصابات العابرة للحدود.وقد اعتُبر هذا الرفض بمثابة "تصويت على عدم الثقة" في حكومة نوبوا، ورسالة واضحة بأن الشعب لا يقبل التعدي على السيادة مهما كانت الظروف. كما أظهرت النتائج الفجوة العميقة بين رؤية الحكومة للأمن ورؤية المجتمع، حيث يرى الإكوادوريون أن الحلول الأمنية يجب أن تنبع من الداخل وليس من تدخل خارجي(.([5]

4-    تأثير ورسائل الرفض الشعبي للاستفتاء:

يفسّر الرفض الشعبي الواسع لمقترح إلغاء الحظر على قواعد عسكرية أجنبية في البلاد، ما يمكن تسميته "الحس السيادي" -أي شعور جماعي بأن القرار السيادي هو ملك الشعب ولا يجوز المساومة عليه، حتى إذا كانت الدوافع أمنية. هذا الحس له جذور تاريخية، ويعكس مخاوف شعبية من العودة إلى ما يعتبرونه حقبة من التبعية أو النفوذ الخارجي، إذ إنه يمكن القول إن هذا الرفض لم يكن مجرد موقف سياسي، بل له بعد رمزي يرتبط برفض تاريخي للوجود العسكري الأجنبي، منذ تجربة قاعدة "مانتا" التي استخدمتها الولايات المتحدة حتى عام 2009، قبل أن يحظر دستور 2008 أي وجود لقواعد أجنبية على أرض الإكوادور بشكل نهائي([6]).

ولأن القواعد الأجنبية غالبًا ترمز في الوعي العام إلى النفوذ الأجنبي، والحروب بين الدول، والتدخل الخارجي  فإن موافقة شعب على وجودها تعني، بالنسبة لجزء كبير من المجتمع، تخلّيًا عن حق أساسي في تقرير مصير الوطن.

ويأتي ذلك بعد أن شهدت الإكوادور لعقود سياسية تقلبات بين حكم يميني مؤيد للغرب، ويساري معارض له. في هذا السياق، فإن وجود قواعد أجنبية -خاصة إذا كانت لدولة ذات تأثير عالمي- يُعتبر ركيزة قد تُستخدم لتدخل خارجي سياسي أو احتجاجات داخلية لتوجيه السياسة الوطنية وفق أجندات خارجية.وقد حذر عدد من المعارضة من أن السماح بعودة القاعدة ليس فقط لأغراض أمنية، بل قد يُستخدم كوسيلة ضغط على القرار السيادي، أو كـ"بطاقة تفاوض" في العلاقات الدولية.

ومن هذا المنطلق فإن الشعب الإكوادوري، من خلال التصويت بـ"لا"، لم يرفض فقط قاعدة عسكرية، بل حاولوا إرسال رسالة واضحة وهي السيادة فوق كل اعتبار، والتدخل الأجنبي غير مرحّب به حتى في أوقات الأزمات.

ومع ضبابية المشهد، وجد الرئيس نفسه أمام فراغ سياسي داخلي يتطلب إعادة هندسة فريقه التنفيذي، وهو ما دفعه إلى تنفيذ تعديل حكومي واسع شملستوزارات ضم وزارات المالية والاقتصاد، والعمل، والتعليم، والصحة، والزراعة، والتنمية البشرية، فضلاً عن إقالة المتحدثة باسم الحكومة، بهدف استعادة زمام المبادرة سياسيًا وأمنيًا.

ثانيًا- الإكوادور بعد الاستفتاء.. تداعيات داخلية وانعكاسات إقليمية:

تجاوزت الأزمة التي فجرتها مبادرة الرئيس بشأن القواعد العسكرية حدود النقاش الدستوري، لتتحول إلى نقطة انعطاف حاسمة أثرت في الحكومة والبرلمان والمشهد السياسي برمّته. فقد كشفت الأزمة هشاشة التوازن بين السلطات، وأظهرت محدودية قدرة الدولة على إدارة التحديات الأمنية المتفاقمة دون الدخول في صدامات مؤسسية. وإلى جانب ذلك أفرزت الأزمة تحولات داخلية عميقة أعادت تشكيل موازين القوى، ودفعت الحكومة إلى اتخاذ خطوات استثنائية في محاولة لاحتواء التوتر السياسي والاجتماعي، بما في ذلك التعديل الحكومي الواسع والسعي لإعادة ترتيب العلاقة مع البرلمان والرأي العام، إلا أنه مع ذلك يشير الرفض الواسع لمقترحات الرئيس إلى أزمة عميقة قد تمتد تداعياتها إلى مختلف القطاعات في البلاد.

ولا تقتصر آثار الأزمة في الإكوادور على الداخل الوطني، بل تمتد لتلقي بظلالها على العلاقات الخارجية للبلاد، وخاصة مع الولايات المتحدة، التي تعد شريكًا استراتيجيًا في مجالات الأمن والاقتصاد.وعلى الصعيد الإقليمي، تضع الأزمة الإكوادور في موقع حساس بين تيارات متباينة داخل أمريكا اللاتينية؛ فبينما تسعى بعض الدول لتعزيز التعاون الأمني مع واشنطن، تتبنى دول أخرى سياسات قائمة على رفض أي وجود عسكري أجنبي على أراضيها. هذا المشهد المعقد يعكس تحديات كبيرة أمام الإكوادور في صياغة سياستها الخارجية وموقعها الإقليمي.

1-   إعادة تشكيل موازين القوى السياسية:

قد يؤدي فشل الاستفتاء إلى إضعاف موقع الحكومة سياسيًا، ويوفر للمعارضة فرصة لتعزيز حضورها بوصفها “حامية السيادة” في مواجهة ما تعتبره نزعة رئاسية لتمديد الصلاحيات والمساس بالمبادئ الدستورية، الأمر الذي قد يؤدي إلى تفكك التحالفات البرلمانية الداعمة للحكومة، وصعود قوى جديدة تتبنى خطابًا أكثر تشددًا تجاه سياسات الرئاسة، مطالبةً بمراجعة الأداء الحكومي وبتقييد قرارات السلطة التنفيذية.

وتعد أحد أبرز التداعيات المتوقعة بعد رفض الاستفتاء الشعبي وتصاعد الأزمة الداخلية، تزايد الدعوات داخل البرلمان لفرض رقابة أقوى على الرئاسة بعد اتهامات بتجاوز الصلاحيات الدستورية ومحاولة تركيز السلطات في يد الرئيس، فضلا عن احتمال إعادة تموضع الكتل البرلمانية، حيث تشكّلت تحالفات جديدة بين أحزاب المعارضة وأطراف من الأغلبية السابقة، مما خلق وضعًا سياسيًا معقدًا حدّ من قدرة الحكومة على تمرير قراراتها بسهولة([7]).

2-    تصاعد التوتر بين الرئاسة والبرلمان:

تسببت الأزمة في توسيع الشرخ بين المؤسستين التنفيذية والتشريعية، خاصة بعد اتهام الأغلبية البرلمانية للرئيس بالسعي لتجاوز الدستور عبر مبادرته الأمنية. وقد ينعكس هذا التوتر في عدة مظاهر، أبرزها اتهام البرلمان للرئاسة بمحاولة إعادة صياغة النظام السياسي لمصلحتها، من خلال مساعي تعديل الدستور وتوسيع النفوذ الأمني للرئيس، وتعليق أو تعطيل تمرير مشروعات حكومية، إذ يرى البرلمان أن عمليات إعادة الهيكلة المقترحة تستهدف تقليص دوره وإضعافه.

وقد تؤدي هذه الأزمة إلى تبادل الاتهامات بشكل علني، مما يسهم في زيادة الاستقطاب وإضعاف الثقة بين مؤسسات الحكم، وإعاقة القدرة على تبني سياسات متسقة لمواجهة الأزمات القائمة.ويؤدي هذا التوتر بدوره إلى تراجع ثقة الرأي العام بالمؤسسات، وفتح النقاش حول مستقبل النظام السياسي، وحدود سلطة الرئيس في فترات الأزمات الأمنية.

3-    تفاقم الأزمة بين الرئاسة والمحكمة الدستورية:

تصاعدت التوترات بين الرئيس دانييل نوبوا والمحكمة الدستورية في الإكوادور بشكل مستمر، بعد أن أوقفت المحكمة عدة مواد من القوانين الأخيرة التي أقرّها حزب الرئيس، معتبرةً أنها تنتهك الحقوق الأساسية والمبادئ الدستورية. وشملت المواد المعلقة قوانين الأمن الداخلي، والتنصت على المواطنين، واستخدام الهويات المزيفة، إضافة إلى منح العفو المبكر لأفراد الشرطة والجيش، وهو ما اعتبره الرئيس ضروريًا لمواجهة ما وصفه بـ "النزاع المسلح الداخلي". هذا الصدام أدى إلى مهاجمة الرئيس للمحكمة، ووصفها بأنها "عقبة أمام السلام"، مما يعكس تصاعد حدة الخلاف بين السلطة التنفيذية والقضائية.

ويزيد رفض الاستفتاء الشعبي لعام 2025، من تعقيد هذه الأزمة، إذ لم يحصل الرئيس على تفويض شعبي لإجراء التعديلات الدستورية التي كان يسعى إليها، بما في ذلك إنشاء قواعد عسكرية أجنبية وتشكيل جمعية تأسيسية جديدة، حيث يمثل هذا الرفض ضربة سياسية لنوبوا ويقوّي موقف المحكمة الدستورية، التي تفرض مراقبة صارمة على أي تعديل دستوري. وبهذا يصبح أي مسعى لإصلاح الدستور أكثر تعقيدًا، ويعكس الانقسام العميق بين الرئيس والمؤسسات القضائية، ويهدد الاستقرار السياسي في البلاد([8]).

4-   استمرار المعضلة الأمنية في الإكوادور:

بالرغم من الخطاب الأمني الحاد الذي تبنته الحكومة، فإن الأزمة كشفت التناقض البنيوي بين الرغبة في الحفاظ على السيادة ورفض التدخل الخارجي، وبين الحاجة إلى دعم أمني واستخباراتي لمواجهة العصابات. وقد نتج عن ذلك استمرار التهديد الأمني دون تراجع ملموس، رغم التعديلات الحكومية وتغيير القيادات الأمنية، فضلًا عن تصاعد التوتر الاجتماعي نتيجة عدم قدرة الدولة على تقديم حلول سريعة للعنف والجريمة المنظمة.

وقد تتسبب هذه الأزمة في موجة اضطرابات جديدة إذا لم تنجح الحكومة في إيجاد مخرج من هذا التناقض بين الخطاب الوطني ومتطلبات مكافحة الجريمة العابرة للحدود.وبذلك أصبحت الأزمة الأمنية تتغذى من الأزمة السياسية، والعكس صحيح، في حلقة متبادلة من التوتر يصعب كسرها دون إصلاحات مؤسسية أعمق.

5-    تنامي الضغوط الاجتماعية والاقتصادية:

لم تتوقف تداعيات الأزمة عند حدود السياسة والأمن، بل يمكن أن تمتد لتطال الوضع الاقتصادي والاجتماعي، حيث يمكن أن تتراجع ثقة المستثمرين بشكل ملحوظ نتيجة عدم الاستقرار السياسي وتزايد احتمالات المواجهة بين مؤسسات الدولة، ذلك فضلا عن ارتفاع معدلات التضخم، في ظل اضطراب سلاسل التوريد وتأثر القطاعات الإنتاجية بالوضع الأمني المتدهور.

كما يتوقع أن تتزايد الاحتجاجات الشعبية بسبب تراجع مستويات المعيشة وشعور المواطنين بفقدان الأمان، وهو ما يضع الحكومة تحت ضغط مستمر، ويضعف قدرتها على اتخاذ قرارات حاسمة قد تُعيد الثقة إلى المشهدين الاقتصادي والسياسي.

6-    تداعيات الاستفتاء على العلاقات مع واشنطن:

يشكل رفض الاستفتاء الشعبي لعام  2025، خاصة السؤال المتعلق بإمكانية إنشاء قواعد عسكرية أجنبية على الأراضي الإكوادورية، تحديًا كبيرًا للعلاقات بين الإكوادور والولايات المتحدة، فقد أظهر تجاوز نسبة رفض المواطنين 60%، محدودية الدعم الشعبي لتوسيع التعاون الأمني والعسكري المباشر، وأضعف موقف الحكومة أمام واشنطن في أي اتفاقيات عسكرية مستقبلية، كما يزيد من صعوبة تنفيذ أي خطط تتعلق بتوسيع الوجود العسكري الأمريكي على الأراضي الإكوادورية. هذا الموقف الشعبي يعكس أيضًا حساسية المواطنين تجاه أي تدخل أجنبي في الشئون الوطنية ويضع الحكومة أمام تحدٍ في موازنة مصالحها مع إرادة الشعب.

رغمذلك تستمر قنوات التعاون بين البلدين عبر برامج الأمن والاستخبارات والهجرة، وزيارات المسئولين الأمريكيين رفيعي المستوى، مما يتيح استمرار الشراكات دون انتهاك الدستور أو إثارة مخاوف المواطنين. كما تعمل المكاتب الأمريكية القائمة كحلقة وصل مع الحكومة الإكوادورية في قضايا، مثل مكافحة غسل الأموال وتهريب المخدرات، مما يظهر إمكانية الحفاظ على التعاون الأمني دون الحاجة إلى إقامة قواعد عسكرية دائمة. ومع ذلك فإن الحكومة الإكوادورية تحتاج إلى تبني سياسات أكثر توافقًا مع إرادة الشعب، لتجنب الاحتكاكات الداخلية التي قد تضعف صورتها أمام الشركاء الدوليين وتؤثر على قدرتها في الاستفادة من الدعم الأمريكي.

على الصعيد الإقليمي، تعكس الأزمة الحساسية المستمرة لدى الرأي العام في أمريكا اللاتينية تجاه أي وجود عسكري خارجي على أراضيها، وتطرح تساؤلات حول مدى قبول الحكومات الإقليمية بتوسيع التعاون الأمني مع الولايات المتحدة، خاصة في ظل التاريخ الطويل للتدخلات الأمريكية في المنطقة.  وقد ترى بعض الدول المستقلة أو المحايدة، مثل بوليفيا وفنزويلا فرصة لتعزيز خطابها المناهض للتدخل الخارجي، بينما تواجه الدول الأكثر تعاونًا، مثل كولومبيا وبيرو ضغوطًا شعبية لتبرير الشراكات الأمنية الأمريكية أمام مواطنيها.  كما تشير الأزمة إلى ضرورة إعادة تقييم الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، حيث يمكن استمرار الدعم الأمني والتقني، لكن أي محاولة لتوسيع الوجود العسكري المباشر قد تواجه رفضًا شعبيًا واسعًا، مما يتطلب مقاربة أكثر احترامًا للسيادة الوطنية والتوازنات السياسية المحلية.

7-   إعادة تعريف الأمن الإقليمي في أمريكا اللاتينية:

تتجاوز الأزمة السياسية في الإكوادور حدودها الوطنية لتلقي بظلالها على الديناميات الإقليمية في أمريكا اللاتينية، إذ تعيد فتح النقاش حول دور المؤسسات الإقليمية مثل اتحاد دول أمريكا الجنوبية(UNASUR) ومنظمة الدول الأمريكية(OAS) في إدارة الأزمات العابرة للحدود.  ومع تصاعد ظاهرة الجريمة المنظمة وتهريب المخدرات عبر المحيط الهادئ، أصبح واضحًا أن اعتماد الدول الإقليمية على الدعم العسكري الأمريكي وحده ليس كافيًا لضمان الأمن، وأن هناك حاجة لتطوير آليات إقليمية مستقلة تعزز السيادة الوطنية وتحقق فعالية أكبر في مكافحة الجريمة العابرة للحدود.

في هذا السياق، يمكن أن تشمل الحلول الإقليمية المستقلة تعزيز وحدات التنسيق الاستخبارية بين الدول، وتطوير أنظمة مشتركة لمراقبة الحدود البحرية والجوية، بالإضافة إلى زيادة التعاون بين الشرطة والقوات الخاصة الإقليمية. كما أن تبادل المعلومات وتوحيد جهود التدريب والتخطيط العملياتي قد يسهم في تقليل الاعتماد على الشراكات الثنائية مع الولايات المتحدة، مع الحفاظ على القدرة على مواجهة التحديات الأمنية المعقدة بشكل جماعي، وقد كشفت الأزمة في الإكوادور أن أي استراتيجية أمنية ناجحة في أمريكا اللاتينية تحتاج إلى توازن بين التعاون الدولي واحترام السيادة الوطنية، بما يضمن توافق سياسات الدول مع مطالب شعوبها.

خاتمة:

تكشف الأزمة الحالية في الإكوادور عن تعقيدات كبيرة في العلاقة بين الأمن والسياسة، حيث يتداخل تنامي نفوذ الجريمة المنظمة مع هشاشة المؤسسات وغياب التوافق السياسي. وبينما يسعى نوبوا إلى تعزيز التعاون الأمني مع الولايات المتحدة باعتباره مخرجًا من الأزمة، يرى جزء كبير من المجتمع أن هذا الخيار يحمل مخاطر تمس السيادة الوطنية وتعيد البلاد إلى مسارات التبعية الخارجية. وقد أدت هذه الانقسامات إلى أزمة سياسية داخلية عميقة تجلت في استفتاء شعبي رافض، وتعديل حكومي واسع، وتوتر بين مؤسسات الدولة.

ومن هذا المنطلق، تبدو الإكوادور أمام مفترق طرق استراتيجي حاسم، إذ يتعين عليها الموزانة بين تعزيز الشراكة الأمنية مع الولايات المتحدة للاستفادة من خبراتها وقدراتها الاستخباراتية، أو الانخراط بشكل أعمق في مشروعات الأمن الإقليمي المستقل التي تعزز السيادة الوطنية وتقلل من الاعتماد الخارجي. وتكمن أهمية هذا التوازن في تحديد موقع الإكوادور المستقبلي داخل القارة، ليس فقط على صعيد السياسات الأمنية، بل أيضًا في علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع دول الجوار.

المراجع:


[1]Ecuador’s crackdown on gangs fractures criminal networks and fuels bloodshed, Reuters, October 29, 2025, available at: https://www.reuters.com/world/americas/ecuadors-crackdown-gangs-fractures-criminal-networks-fuels-bloodshed-2025-10-29/

[2]Murder, cocaine and tears: Ecuador confronts a perilous descent, Buenos Aires Times, August 11, 2023, available at: https://www.batimes.com.ar/news/latin-america/murder-cocaine-and-tears-ecuador-confronts-a-perilous-descent.phtml

[3]Nicole D'Souza, Ecuador president proposes constitutional reform permitting establishment of foreign military bases, JURIST News, September 17, 2024, available at: https://www.jurist.org/news/2024/09/ecuador-president-proposes-constitutional-reform-permitting-establishment-of-foreign-military-bases/

[4]Ecuadorian voters reject hosting foreign military bases and rewriting constitution in referendum, Euronews, November 17, 2025, available at: https://www.euronews.com/2025/11/17/ecuadorian-voters-reject-hosting-foreign-military-bases-and-rewriting-constitution-in-refe

[5]Genevieve Glatsky and José María León Cabrera. Ecuador Votes No to Hosting U.S. Military Base, The New York Times, Nov. 18, 2025, available at: https://www.nytimes.com/2025/11/18/world/americas/ecuador-us-military-base-vote-trump.html

[6]Last US forces abandon Manta military base in Ecuador, Merco Press, September 19th 2009, available at: https://en.mercopress.com/2009/09/19/last-us-forces-abandon-manta-military-base-in-ecuador

[7] Redacción Primicias, El presidente Daniel Noboa buscará esquivar las urnas para impulsar nuevos cambios a la Constitución,November 29, 2025, available at:  https://www.primicias.ec/politica/presidente-daniel-noboa-opciones-nuevos-cambios-constitucion-110554/

[8]Peoples Dispatch, Tensions rise in Ecuador as President Noboa protests against the Constitutional Court, peoplesdispatch, August 14, 2025, available at: https://peoplesdispatch.org/2025/08/14/tensions-rise-in-ecuador-as-president-noboa-protests-against-the-constitutional-court/

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    نورهان أبو الفتوح

    نورهان أبو الفتوح

    باحثة فى العلوم السياسية