بعد دخول عقوبات مجلس الأمن الدولي ضد إيران حيز التنفيذ، حظرت القرارات (1737/2006 – 1747/2007 – 1803/2008 – 1929/2010) صادرات وواردات المواد النووية والصاروخية الحساسة، وجمدت أصول الأشخاص والكيانات المرتبطة بها، وقيدت السفر، كما شددت الرقابة على النشاط المالي وصادرات السلع ذات الاستخدام المزدوج، وسمحت بتفتيش أو احتجاز أو تدمير الشحنات الإيرانية الجوية والبحرية المشكوك في حملها مواد محظورة.
التأثير النفسي والاقتصادي للعقوبات:
في السنوات الأخيرة انخفضت اعتمادية ميزانية إيران على النفط، وأصبحت غالبية الميزانيات الجارية تُغطى من الإيرادات الحكومية الناتجة عن الضرائب والرسوم وغيرها من الموارد. لذلك، فإن تأثير انخفاض مبيعات النفط لن يكون بشدة الماضي نفسها.
ومع ذلك لا يمكن تجاهل تأثير العقوبات الأممية على حجم الصادرات النفطية، والتي تمثل عصب النمو الاقتصادي الإيراني، ثم إن انخفاض العائدات النفطية سيؤثر على سياسات البنك المركزي ويؤدي إلى تقلبات في سعر الصرف، مما يضعف الإنتاج الوطني ويزيد التضخم.
غير أن عقوبات مجلس الأمن لا تراقب صادرات النفط بشكل مباشر، وهو ما يعطي إيران فرصة لتنشيط الممرات البديلة، والاعتماد على الأسواق الإقليمية والجيران الاقتصاديين، مثل العراق، وتركيا، وباكستان، وآسيا الوسطى، والقوقاز من خلال نظام المقايضة، مثل تجارة الغاز مقابل السلع مع العراق أو الذهب مقابل النفط مع تركيا. وقد أصبحت هذه الآليات البديلة تشكل نظامًا موازيًا للاقتصاد العالمي خارج هيمنة الدولار.بالإضافة إلى التنشيط من سرعة تنفيذ مذكرة التعاون الـ 25 سنة مع الصين، وتعزيز الدبلوماسية الاقتصادية عبر المشاركة النشطة في الاتفاقيات الإقليمية.والتي قد تدعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، التي حافظت على الإنتاج والتوظيف خلال القيود المفروضة، إذ تمثل هذه المؤسسات 94% من الوحدات الصناعية في إيران، وتشكل 43% من الوظائف الصناعية و60% من إجمالي التوظيف.
في السياق نفسه تبنى محمد رضا یوسفي شيخ رباط، الأستاذ المساعد في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة المفيد للعلوم الإنسانية، وعضو الجمعية العلمية للاقتصاد الإسلامي في إيران، بأن أوروبا قد تتجاوز حدود العقوبات وقطع العلاقات التجارية مع إيران، التي هي بالفعل في أدنى مستوى لها على مدار العقود الثلاثة الماضية، لذلك فإن الأثر الأساسي للعقوبات والضغوطات الأوروبية مع وجود العقوبات الأمريكية التي لم تصل بعد إلى شدة فترة رئاسة ترامب الأولى قد يتجاوز الجانب الفني، ليصبح نفسيًا وسياسيًا أكثر منها اقتصاديًا خاصة أن إيران بالفعل طورت مناعة اقتصادية عبر ما يُعرف في الأدبيات الإيرانية باقتصاد المقاومة.
تأثير العقوبات على القطاع المصرفي:
قبل فرض التدابير الاقتصادية، كانت إيران تستخدم نظام سويفت لإجراء حوالات مالية دولية تقدر بنحو 40 مليار دولار سنويًا للتجارة والاستيراد، لكن بعد حزمة العقوبات الدولية والأمريكية الشديدة ضد إيران بسبب برنامجها النووي في 2012، منعت بعض البنوك الكبرى مثل بنك ملي وبنك صادرات إيران من الوصول إلى نظام سويفت جزئيًا، مما أدى إلى تقليص الحوالات إلى أقل من 5% مع صعوبة دفع مستوردات حيوية، مثل الأدوية والمعدات الصناعية، وبالتالي تعطل جزء كبير من النشاط الاقتصادي والتجاري.
والآن ومع عودة عقوبات مجلس الأمن ستمنح العقوبات الأمريكية شرعية قانونية، ومن ثم ستُقطع جميع البنوك الإيرانية الكبرى رسميًا عن سويفت، وليس فقط جزئيًا وستكون البنوك الأجنبية ملزمة قانونيًا بعدم التعامل مع أي بنك إيراني،حتى لو لم تتعامل مع أمريكا سابقًا، وهذا يجعل استخدام الطرق البديلة أكثر تكلفة وأقل أمانًا، حيث ستزداد التكاليف على كل تحويل دولي من 5–8% إلى ربما10–12%بسبب الوسطاء وشبكات التحويل غير الرسمية.
وبالتوازي ستتجمد الأصول الإيرانية بزيادة تصل إلى 5-8 مليارات دولار أو أكثر.ولن تتمكن البنوك من الوصول إلى الاحتياطيات الأجنبية بسهولة، بما فيها حسابات المراسلة.وهذا سيفضي إلى انخفاض قدرة البنوك على دعم السيولة المحلية، وإضافة ضغط على ميزانية الدولة والعملة الصعبة، ومن ثم زيادة التقلبات في سعر الصرف.
وعلى الرغم من أن البنوك الإيرانية تواجه قيودًا على السيولة، ونسبة الإقراض للشركات الصغيرة والمتوسطة منخفضة نسبيًا، إلا أن العقوبات سترفع الضغط على البنوك المحلية، بسبب محدودية تحويل العملات الأجنبية.في حين قد تنخفض نسبة الإقراض للشركات الصغيرة والمتوسطة لأكثر من 20%، وهو ما سيعزز من تباطؤ الاستثمار والصناعة، وقطع قانوني شامل للبنوك الإيرانية عن النظام المالي العالمي، وقد يجعل التجارة الدولية والتحويلات الرسمية شبه مستحيلة.
بيد أن ذلك قد يفضي إلى اعتماد إيران على حلفائها في مجموعتي بريكس وشنغهاي للتعاون مع استخدام وسائل تحويل غير رسمية كشبكة مدفوعات وطنية داخل إيران (Shetab)، وشبكة التعاملات الدولية (SEPAM)، لكنها لن تكون مجدية في تجارة النفط أو التحويلات الكبيرة بشكل رسمي، سوى من خلال بنوك وسيطة محددة.
تداعيات العقوبات على حلفاء إيران الإقليميين:
لن تقتصر تداعيات العقوبات الدولية على الاقتصاد الإيراني والقطاع المصرفي، بل ستمتد لتشمل ملفات المنطقة الحيوية التي تعد إيران لاعبًا أساسيًا فيها، مثل اليمن، ولبنان، والعراق، وغزة. هذه العقوبات تحمل أبعادًا إقليمية ودولية معقدة، حيث تختبر قدرة طهران على دعم حلفائها في ظل ضغوط خارجية متزايدة.
ففي اليمن، تتلقى جماعة الحوثي –أبرز عناصر محور المقاومة- دعمًا عسكريًا، ولوجستيًا، وماليًا من طهران. ومع عودة العقوبات سيصبح من الصعب تحويل الأموال بشكل مباشر، وهذا سيحد من قدرة الحوثيين على تطوير الصواريخ أو تنفيذ العمليات العسكرية بالكفاءة السابقة. وبالتالي، سيكون الاعتماد الأكبر على وسائل تمويل بديلة، مثل التهريب عبر البحر الأحمر والحدود البرية.
لكن في لبنان سوف تقلص العقوبات قدرة حزب الله على شراء الأسلحة الحديثة وتحويل الأموال لدعم عملياته العسكرية، مما قد يؤدي إلى تباطؤ النشاط العسكري، وزيادة اعتماده على التمويل المحلي أو التهريب لتأمين موارده.بينما في العراق ستحد القيود المصرفية الدولية من قدرة إيران على دعم الميليشيات الموالية لها، وهذا سيرفع كلفة الاعتماد على التمويل المحلي أو تخفيض عملياتها العسكرية، مع احتمالية زيادة التوتر بين الميليشيات والحكومة العراقية.بينما في غزة فقد تؤثر العقوبات على قدرات حماس والجهاد الإسلامي، خاصة فيما يتعلق بالصواريخ والعمليات العسكرية، الأمر الذي سيجبر هذه الجماعات على البحث عن تمويل بديل، سواء محليًا أو عبر وسطاء إقليميين.
والأهم من تلك التداعيات أن العقوبات لن تؤثر فقط على القدرة التمويلية، بل أيضًا على القدرة السياسية لتوحيد هذا المحور، فقلة الموارد تولد تناقضات داخلية بين الفصائل وتضعف التنسيق العملياتي.ومن المرجح أن تحاول إيران تجاوز هذه الأزمة عبر تكثيف خطابها الإعلامي وتفعيل التضامن مع القوى الدولية الرافضة لشرعية العقوبات.
وعلى صعيد آخر، برزت تقارير عدة، أبرزها لمؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، بشأن مدى تأثر دول مجلس التعاون الخليجي وعلى رأسها السعودية والإمارات بالعقوبات المفروضة على إيران، وذهبت إلى أن هذه الدول ستسعى لاستثمار العقوبات، من أجل الحد من النفوذ الإيراني في اليمن، ولبنان، والعراق، وزيادة التنسيق مع الولايات المتحدة، لتقليل قدرة طهران على ممارسة ضغوط إقليمية. أما تركيا فقد تضطر إلى اتباع سياسات حذرة لتسهيل التجارة بالطاقة والغاز الطبيعي، مع الالتزام بالقوانين الدولية لتجنب العقوبات.
فرص التعاون بين إيران وحلفائها الدوليين:
على الصعيد الدولي لن تتبع روسيا والصين العقوبات بشكل كامل بسبب مصالحهما الاستراتيجية في المنطقة. فخلال الأسابيع الأخيرة برز وجه جديد من التعاون الروسي-الصيني مع إيران، حيث عارضت موسكو وبكين رسميا تفعيل آلية الزناد واعتبرتها غير قانونية.
ولأن تنفيذ العقوبات يحتاج إلى المرور عبر لجان العقوبات التابعة لمجلس الأمن، حيث تلعب روسيا والصين دورًا رئيسيًا فيه، وهذا قد يمنحهما قدرة على تعطيل أو إبطاء أي محاولة لفرض العقوبات عمليًا.ونظرًا لضعف أداء مجلس الأمن خلال السنوات الأخيرة وكثرة استخدام الغرب لحق النقض (الفيتو) بشكل غير عادل في ملف غزة، ظهرت دعوات واسعة لإصلاح النظام الدولي.
وفي العلاقات الدولية والاقتصاد، المصلحة المتبادلة هي المعيار الأساسي للدول. ولأن إيران توفر لروسيا سوقا نشطة إقليميا مع تسهيلات في التجارب الميدانية وتطوير أسلحة برية وجوية جديدة إلى جانب حماية وتأمين نفوذها في سوريا والمنطقة، وهذا خلق بينهما قناة تعاون طويل المدى، ولهذا لم يكن مفاجئًا أن تكشف التقارير المسربة الدعم العسكري الروسي لترسانة التسليح الجوي الإيراني.
فقبل أيام كشف تقرير موقعWDMMA لتحليل الأساطيل الجوية العالمية لعام 2025 عن تعزيزات كبيرة في التسليح الجوي الإيراني، ووفقًا لمصادر، مثل Military Factoryحصلت إيران على 24 مقاتلة سوخوي 35 متعددة المهام (جيل 4++)، بعضها نقلته طائرات الشحن الثقيلة أنتونوف 124، والتي تتميز بقدرة فائقة على المناورة ومدى عملياتي يزيد على 3000 كم، مع إمكانية إطلاق صواريخ جو/جو بعيدة المدى وقنابل ذكية دقيقة.
بالإضافة إلى امتلاكها مروحيات هجومية ميل 24، المعروفة باسم الدبابة الطائرة، ومروحيات هجومية حديثة، مثل ميل 28 وكا 52 -مجهولة العدد- والمزودة بأنظمة رادارية متقدمة، ومنظار ليلي، وصواريخ مضادة للدبابات وجو/جو قصيرة المدى، ومدفع عيار 30 ملم، وهذا بلا شك يعزز قدرة إيران على فرض نفوذ جوي أوسع في المنطقة. بالإضافة إلى وجود مخطط لإنتاج مشترك لمروحيات ميل 28 وكا 52 بين إيران وروسيا، وهو ما يشير إلى نقل تكنولوجيا وليس مجرد صفقات شراء، ويضع إيران على مسار تقني واستراتيجي قادر على إعادة رسم قواعد اللعبة في الخليج والشرق الأوسط.ومثل تلك الصفقات لا تعني بالضرورة تحالفًا عسكريًا، بل تؤكد استمرار تقاطع المصالح رغم الاتهامات التي طالت روسيا بالتخاذل.
مخرجات الانسداد الدبلوماسي بين إيران والغرب:
بعد دخول العقوبات الأممية حيز التنفيذ،برزت دعوة وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو إلى اتفاق جديد أفضل لإيران وللعالم، وهذا جعل الأصوات الرافضة للاتفاق النووي تتعالى وترفض فكرة التفاوض مجددًا مع الغرب شكلًا أو موضوعًا، فقد افتتحت صحيفة وطن امروز المتشددة صفحتها الأولى بمقالة تحت عنوان: "الأسوأ من الزناد"، وهو عنوان انتشر كالنار في الهشيم بين المواقع والصحف المحافظة الإيرانية.
ويبدو أن ثمة إجماعًا عامًا، مع بعض التحفظ الإصلاحي، على أن هذا الخطاب يعكس النتيجة النهائية لرؤية الزعيم الإيراني علي خامنئي، الذي كرر مرارا قوله إن "التفاوض مع أمريكا خيانة وحماقة"، فيما عادت الأوساط السياسية الإيرانية تردد: "لقد تكلم السيد من قبل، لكنكم لم تسمعوا ولم تفهموا."خاصة أن الهدف الإيراني من الاتفاق النووي كان رفع جميع العقوبات، مقابل تقليص البرنامج النووي.
لكن ما حدث أن القرار رقم 2231 عُلق ولم يُلغَ كما وعد الغرب إيران. وقد أقر مسئولون في حكومة حسن روحاني بذلك، وأكدوا أن نقض العهود الغربية بدأ منذ إدارة أوباما. فبعد أشهر قليلة من التوقيع، صرح وليالله سيف، محافظ البنك المركزي آنذاك، بأن إيران تقريبا لم تحصل على أي شيء في المجال المصرفي.
لاحقا اعترف روحاني وظريف أيضًا بأن إدارة أوباما لم تنفذ تعهداتها.حتى بعد انسحاب إدارة ترامب في مايو 2018، حتى إقرار البرلمان الإيراني قانون الإجراءات الاستراتيجية في ديسمبر 2020، حيث منحت حكومة روحاني الأوروبيين 31 شهرا لإثبات التزامهم، لكنهم لم يفعلوا.بينما التزمت إيران خمس سنوات وخمس أشهر بالكمال والتمام، ثم بدأت بتقليص التزاماتها مع قانون البرلمان في ديسمبر 2020.وبهذا ذهبت الأوساط السياسية الإيرانية إلى حقيقة أن الاتفاق النووي كان فكرة فاشلة تمامًا.
ولعل هذا التوجه العام يعكس استشرافا مستقبليا لمستقبل التفاوض بين إيران والغرب، حيث تشير المعطيات إلى محدودية فرص استمرار الإصلاحيين في مسار الإقناع للجلوس على طاولة المفاوضات. وفي الوقت نفسه ترتفع فرص تعليق المسار الدبلوماسي على المديين القريب والمتوسط لصالح تبني خيارات القوة الصلبة.وهذايئول أن مقترح التوصل إلى اتفاق جديد ليس خيارًا مطروحًا على جدول الأعمال الإيرانية في الوقت الراهن، لكنه لا يعني نهاية المسار التفاوضي، بل انتقاله من دبلوماسية الاتفاقات إلى دبلوماسية مواجهة الأزمة بالأزمة، أي استخدام أوراق القوة الميدانية كوسيلة ضغط تفاوضي لاحقة.
خاتمة:
في المحصلة يبدو أن عقوبات مجلس الأمن الدولي على إيران ستتباين في عمقها الاقتصادي، لكنها ستترك أثرًا أعمق في البعدين النفسي والسياسي، إذ من المرجح أن تزيد من حدة المواجهة بين طهران وخصومها الإقليميين والدوليين. ومع ذلك قد تُسهم هذه العقوبات في إعادة رسم خريطة التحالفات، من خلال دفع إيران إلى مزيد من التقارب مع حلفائها الاستراتيجيين في الشرق، ولا سيما روسيا والصين، في إطار مناهضة ما تراه طهران هيمنة غربية على النظام الدولي.
في المقابل يتصاعد منطق الأزمة مقابل الأزمة في السلوك الإيراني، في ظل تراجع فرص الحوار الدبلوماسي التقليدي، مما يُنذر بمرحلة أكثر تعقيدًا تتداخل فيها أدوات الردع الاقتصادي مع موازين القوى السياسية والعسكرية. وضمن هذا المشهد تبدو القوى الإقليمية مدفوعة إلى تبني سياسات أكثر تحفظًا لضمان حماية مصالحها الاستراتيجية من ارتدادات الصراع المتنامي بين الشرق والغرب.