تحليلات

آفاق التهدئة بين الهند وباكستان.. بين توازن الردع ومخاطر الانهيار

طباعة

فى لحظة فارقة من مسار الصراع المزمن بين الهند وباكستان، جاء قرار تمديد وقف إطلاق النار فى مايو 2025 كخطوة استباقية لاحتواء التوترات المتصاعدة التى اندلعت فى أبريل 2025 على طول خط المراقبة الفاصل فى إقليم كشمير. فقد شهدت الأسابيع الأخيرة من أبريل اشتباكات متكررة، وقصفًا متبادلًا فى مناطق كيران، وبونش، وكوبوارا، أسفر عن سقوط قتلى وجرحى من الجانبين، وأعاد إلى الواجهة شبح التصعيد العسكرى الشامل.

فى هذا السياق المضطرب، جاء قرار التمديد كمحاولة لفرض تهدئة ميدانية، وتفادى الانزلاق نحو مواجهة أوسع. إلا أن هذا التمديد لم يأتِ نتيجة تفاهم سياسى عميق أو اتفاق رسمى طويل الأمد، بل جاء كاستجابة تكتيكية لضغوط ميدانية ملحة. وبينما كان يعتقد أن التفاهم ينتهى فى 18 مايو 2025، أوضح مسئول عسكرى هندى أن الاتفاق "لا يتضمن تاريخًا محددًا للانتهاء"، فى تأكيد على أن وقف إطلاق النار سيستمر ما لم تحدث خروقات ميدانية واسعة، وهو ما يكرس الطبيعة غير المعلنة والمفتوحة للتهدئة الراهنة.

ومن ثم، يثار التساؤل: هل نحن أمام تهدئة مفتوحة تدار بميزان الردع والوقائع الميدانية، أم إن هشاشتها ستفضى عاجلًا أم آجلًا إلى انهيار تدريجى يعيد المنطقة إلى مربع الاشتباك؟

التهدئة الحالية.. مؤشرات الواقع السياسى والميداني:

تشكل المرحلة التى تلت التفاهم الميدانى بين الهند وباكستان اختبارًا حاسمًا لوقف إطلاق النار، الذى لا يزال قائمًا دون اتفاق مؤسسى أو ضمانات سياسية، ويدار فعليًا بتوازنات ميدانية هشة واتصالات عسكرية محدودة. لذا، فإن تحليل مؤشرات هذه المرحلة ضرورى لتقييم قابلية التهدئة للاستمرار أو الانهيار.

1-   هدوء ميدانى حذر دون إطار رسمي:

رغم أن وقف إطلاق النار لم يترافق مع إعلان مشترك أو توقيع رسمي، فإن الواقع الميدانى على الأرض يعكس انخفاضًا واضحًا فى مستوى الاشتباكات على طول خط المراقبة. إذ لم تسجل منذ 12 مايو 2025 خروقات كبرى، واقتصرت الحوادث على تحركات محدودة لم تتحول إلى تصعيد مفتوح. هذا الهدوء، فى حد ذاته، يمثل مؤشرًا إيجابيًا، لكنه لا ينبع من أى التزام سياسى أو تفاهمات استراتيجية، بل من توازن ردع ميداني، ما يجعله عرضة للتراجع حال تغير الظروف.

2-   استئناف قنوات الاتصال العسكرية:

يأتى استئناف الاتصالات العسكرية بين البلدين، كأحد أبرز العوامل التى ساعدت على ضبط الوضع، حيث أعيد تفعيل قنوات الاتصال المباشر بين الجيشين، سواء عبر الخط الساخن أو عبر الاجتماعات الميدانية. هذه القنوات ساهمت فى تفادى سوء الفهم ومنع التصعيد التلقائي. إلا أن هذه الآلية، رغم فعاليتها النسبية، تظل تقنية ومحدودة التأثير، ولا يمكنها وحدها أن تنتج استقرارًا طويل الأمد دون دعم سياسى واضح من كلا الطرفين.

3-   ارتياح نسبى فى المناطق الحدودية:

شهدت المجتمعات المحلية على جانبى خط المراقبة هدوءًا نسبيًا انعكس فى استئناف الحياة اليومية، وعودة بعض الأنشطة الزراعية والخدمية، إضافة إلى دخول مساعدات إنسانية فى بعض المناطق المتضررة. ومع ذلك، لا يزال هذا الارتياح هشًا، وسط حالة من القلق الشعبى العام من انهيار مفاجئ يعيد الأمور إلى نقطة الصفر.

4-   غياب مسار سياسى أو أمنى موازٍ:

لم تواكب التهدئة الميدانية أى خطوات سياسية من الجانبين، سواء فى شكل لقاءات رسمية، أو إطلاق حوار أمني، أو حتى رسائل تهدئة متبادلة. بل على العكس، تمسك الخطاب السياسى الهندى بمواقف متشددة، بما فى ذلك تصريحات تعتبر كشمير بكاملها جزءًا من السيادة الهندية، وترفض أى صيغة تفاوضية مع باكستان خارج هذا الإطار. هذا الفراغ السياسى يُضعف مناعة التهدئة، ويجعلها عرضة لأى متغير مفاجئ.

5-   انقسام بين الجناحين العسكرى والسياسى فى الهند:

فى حين أبدت القيادة العسكرية الهندية استعدادًا للتعامل الواقعى مع وقف الأعمال العدائية، وحرصت على استمراره، بدا أن الجناح السياسي، خاصة فى الحزب الحاكم، يستخدم الملف الكشميرى ضمن سياق الخطاب الانتخابى والتعبئة الداخلية، مما يخلق انقسامًا واضحًا فى الموقف الرسمي، قد يؤثر سلبًا على استمرارية التهدئة.

وقف إطلاق النار.. عوامل الاستمرار والانهيار:

رغم استمرار وقف إطلاق النار بين الهند وباكستان، فإن التهدئة تظل عرضة للتقلب بفعل محددات معقدة تتداخل فيها العوامل السياسية والعسكرية، الداخلية والخارجية. وفى ظل غياب إطار تفاوضى واضح، فإن هذه المحددات هى التى سترسم ملامح المرحلة المقبلة، سواء نحو تثبيت التهدئة أو الانزلاق نحو التصعيد.

1-   التصعيد السياسى فى الهند:

تسود داخل الهند أجواء سياسية مشحونة، ويعتمد الحزب الحاكم على خطاب قومى متشدد يعكس تمسكه بمواقف حازمة تجاه باكستان. وقد أكد رئيس الوزراء ناريندرا مودى أن بلاده لن تتردد فى استئناف العمليات العسكرية إذا استمرت باكستان فى دعم الجماعات المسلحة، ما يؤكد وجود توجه سياسى واضح لتوظيف الملف الأمنى كأداة فى إدارة الداخل.

2-   دور المؤسسة العسكرية الباكستانية:

ثمة دور محورى فى رسم السياسات الأمنية، تحتفظ به المؤسسة العسكرية فى باكستان، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات مع الهند. ومع تصاعد التوترات الأخيرة، برز هذا الدور مجددًا وسط غياب تماسك سياسى داخلى وضعف أداء الحكومة المدنية، ما يبقى احتمال تبنى المؤسسة موقفًا أكثر تشددًا واردًا فى أى لحظة.

3-   غياب الحوار السياسى المباشر:

على الرغم من التهدئة الميدانية، لم تسجل أى تحركات سياسية أو دبلوماسية بين الطرفين، ما يجعل وقف إطلاق النار الحالى هشًا. وتجمع التحليلات على أن العلاقات الثنائية لا تزال بعيدة عن العودة إلى طبيعتها أو حتى إلى حالة "اللاحرب واللاسلم" المستقرة نسبيًا.

4-   الدعم الدولى وسط غياب آليات الاستمرار:

لعبت الولايات المتحدة دورًا محوريًا فى التوصل إلى وقف إطلاق النار بين الهند وباكستان فى مايو 2025. ومن جانبها، أعربت الصين عن دعمها الكامل للتهدئة، ودعت إلى تعزيز زخم وقف إطلاق النار وتجنب تكرار النزاعات، مع التأكيد على استعدادها للعب دور بناء فى تحقيق سلام دائم فى المنطقة.

ورغم هذا التدخل الدولى الفعال، إلا أن غياب آلية متابعة دائمة أو إطار رقابى ملزم يجعل الهدنة الحالية معرضة للتراجع، خاصة فى حال تصاعد التوترات أو حدوث خروقات كبيرة.لذلك، فإن استمرار الضغط الدولى والمتابعة الحثيثة من قبل القوى الكبرى يعدان ضروريين لضمان استدامة التهدئة وتحقيق سلام طويل الأمد بين الجانبين.

5-   نشاط الجماعات المسلحة فى كشمير:

رغم الهدوء النسبى بين الجيشين، فإن وجود جماعات مسلحة فى كشمير يظل عنصرًا غير قابل للضبط الكامل من الطرفين. إذ إن أى عملية عنف أو هجوم داخل الإقليم – حتى لو لم يكن برعاية رسمية – قد يؤدى إلى رد فعل عسكرى واسع، وبالتالى انهيار التهدئة. كما أن غموض العلاقة بين هذه الجماعات وبعض الأجهزة الأمنية يبقى احتمال التصعيد قائمًا، خصوصًا إذا استخدمت الأحداث كذريعة لتبرير الرد.

6-   الاعتبارات الاقتصادية فى البلدين:

تعانى باكستان من أزمة اقتصادية خانقة، فيما تواجه الهند تباطؤًا فى بعض القطاعات الصناعية والزراعية فى المناطق الحدودية. فى هذا السياق، توفر التهدئة مناخًا أكثر استقرارًا للاستثمار والتجارة، ولو فى نطاق محدود، وهو ما قد يشكل دافعًا لبعض الدوائر الاقتصادية لدعم استمرار وقف إطلاق النار. ومع ذلك، فإن تأثير هذه الاعتبارات يظل ضعيفًا ما لم يترجم إلى ضغط سياسى داخلى منظم.

المرحلة المقبلة.. خيارات مفتوحة بين التهدئة والتصعيد:

فى ضوء التهدئة الحالية، والمؤشرات الميدانية والسياسية المحيطة بها، يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمسار وقف إطلاق النار بين الهند وباكستان خلال المرحلة المقبلة:

1-   السيناريو الأول: استمرار التهدئة بفعل توازن الردع:

يفترض هذا السيناريو أن يستمر الهدوء الميداني، مدعومًا بتوازن الردع بين الجيشين، واستمرار الاتصالات العسكرية عبر قنوات غير معلنة. وقد لا يتم الإعلان عن أى تفاهمات جديدة، لكن سيحرص الطرفان على تجنب التصعيد المفتوح، خاصة فى ظل الضغط الدولى واعتبارات الاستقرار الداخلى لدى كل منهما. هذا السيناريو يبقى على الوضع الحالى ضمن حالة "اللاحرب واللاسلم"، ويعطى الهدنة طابعًا عمليًا دون غطاء سياسى واضح.

2-   السيناريو الثاني.. انهيار تدريجى للتهدئة:

حال تعرض خط المراقبة لخرق كبير، سواء من خلال عملية مسلحة أو قصف مدفعى واسع النطاق، قد تتدهور التهدئة تدريجيًا، خاصة مع غياب آلية رقابة دولية أو إطار سياسى ملزم. وتزداد احتمالات هذا السيناريو فى حال استخدمت كشمير مجددًا كورقة فى الخطاب القومى داخل الهند، أو إذا شهدت باكستان ضغطًا داخليًا يدفع الجيش للرد. هذا السيناريو يفتح الباب أمام عودة الاشتباكات المتقطعة وربما التصعيد المحدود.

3-   السيناريو الثالث.. انفتاح نحو مسار تفاوضى غير مباشر:

رغم ضعف هذا الاحتمال فى المدى القريب، إلا أن تحولًا مفاجئًا فى الميدان أو مبادرة قوية من طرف دولى مؤثر قد يدفع الطرفين نحو مسار حوار غير مباشر. قد يأخذ هذا الشكل اجتماعات عسكرية برعاية خارجية أو وساطة سرية تهدف إلى تقليل التوترات وإنشاء خطوط حمراء متبادلة. ويتطلب نجاح هذا السيناريو التزامًا سياسيًا حقيقيًا من الطرفين، وهو ما يبدو غائبًا حتى الآن.

خلاصة القول، فى ضوء المعطيات الحالية، يبدو أن السيناريو الأقرب للتحقق هو استمرار التهدئة الهشة، حيث تسود حالة من اللاحرب واللاسلم تدار عبر أدوات الردع والتدخلات الدولية الطارئة. ورغم أن هذا المسار قد يجنب المنطقة حربًا شاملة، إلا أنه لا يمثل استقرارًا مستدامًا ما لم يكسر الجمود السياسى وتبنى آليات أكثر مؤسسية لمراقبة وقف إطلاق النار.

طباعة

    تعريف الكاتب

    سارة عبدالسلام

    سارة عبدالسلام

    باحثة فى العلوم السياسية