يتسبب التنافس القائم بين تركيا وإسرائيل حول سوريا في تهديد إمكانية تحقيق انتقال سياسي مستقر، ويفتح المجال لنشوء توتر إضافي في المنطقة، خصوصًا مع التغييرات الراهنة في ميزان القوى الإقليمي. ومن بين مظاهر هذا التنافس، الهجمات التي شنتها إسرائيل على مواقع عسكرية في سوريا أبريل الماضي. ورغم أن هذه الهجمات ليست جديدة، إلا أنها وقعت في أماكن يُشاع أن تركيا تعتزم إقامة قاعدة عسكرية فيها. ويرى المراقبون أن التطورات العسكرية في سوريا قد تؤدي إلى احتمال حدوث صراع مسلح بين تركيا وإسرائيل. في خضم تلك التوترات، دعا الرئيس الأمريكي ترامب رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو للتفكير جيدًا قبل اتخاذ أي خطوات تجاه أردوغان. بعد ذلك، تم الكشف عن عقد اجتماع فني بين البلدين في أذربيجان بهدف وضع آلية لتجنب الصدامات. ومن جهته، أوضح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أن المناقشات الفنية مع إسرائيل تهدف إلى تقليل التوترات المتعلقة بسوريا، لكنه استبعد إمكانية تطبيع العلاقات بسبب زيادة التوترات بعد الحرب في غزة، حيث أقدمت تركيا على تعليق تجارتها مع إسرائيل وانتقاد سياستها.
تُعتبر العلاقات بين تركيا وإسرائيل علاقات تاريخية تعود لعقود وتتضمن العديد من الفترات والمؤسسات. فالاتفاقات التي نشأت بعد تأسيس إسرائيل لم تبقَ في الغالب محصورة بين دولتين فحسب، بل شملت أيضًا جوانب تهم دولًا أخرى والمنطقة ككل، سواء كان ذلك بموافقة الطرفين أم لا. وقد تجلّت التقلبات في العلاقات الثنائية حد التأثير على المنطقة بأسرها.
كانت أعمق التحولات في العلاقات الثنائية التطورات التي أعقبت 7 أكتوبر 2023. فقد دمرت إسرائيل جميع الممارسات والأعراف القانونية الدولية من أجل تدمير الشعب الفلسطيني، ولم تتراجع عن محاولتها للإبادة الجماعية، وبينما تواصل إسرائيل هجماتها على غزة، ظهرت إدارة جديدة في سوريا بعد الإطاحة بنظام الأسد في 8 ديسمبر 2024. وبينما تحاول هذه الإدارة تشكيل مستقبل سوريا، شنت إسرائيل هجمات على مواقع عسكرية في الأراضي السورية قيل إن تركيا تخطط لإنشاء قاعدة عسكرية في هذه المواقع لحماية الأمن السوري. إن ما يحدث على الأرض في سوريا قد يتسبب في نشوب صراع عسكري محتمل بين تركيا وإسرائيل، ربما لأول مرة في تاريخ البلدين. وبالتالي؛ هذا التحليل يستعرض جوانب التنافس التركي-الاسرائيلي في سوريا وأهداف الأطراف وتحركاتهم، وطبيعة الدور الأذربيجاني في سوريا، ومدى قدرته في التوفيق بين الرؤى والأهداف المتصارعة بشأن سوريا.
·النظام السوري الجديد على أرض هشة:
يعمل النظام السوري الجديد على بناء أسس الدولة الجديدة عبر تنظيمات دستورية مؤقتة وهياكل تنظيمية، كما يسعى لإيجاد حل دائم للأزمة الاقتصادية المتزايدة، ودعم الاستثمارات التي تفي بالاحتياجات الإنسانية الأساسية. ونظرا لخلفية الرئيس والحكومة الجديدة فإن سوريا الجديدة تحاول بصبر العناية بصورة الدولة من خلال سعيها لتجنب وضع الدولة وقاداتها في بوتقة الراديكالية الإسلامية،الأمر الذي قد يعرض الدولة لعزلها إقليميا ودوليا. في هذا السياق، ومنذ ولادة سوريا الجديدة تتخذ الحكومة خطوات حذرة تجاه رفع العقوبات التي تركتها فترة الأسد، وتدعو المجتمع الدولي كافة لمساعدتها في رفع العقوبات بعد رحيل النظام السابق.
تستخدم الإدارة السورية الجديدة لهجة أكثر توازنا في هذا الوضع الهش، حيث تتطلع إلى إنشاء نظام اقتصادي وأمني مستدام بمشاركة جميع الأطراف المعنية الإقليمية والدولية. لكن إسرائيل تعد العنصر الرئيسي الذي يعوق تقدم الإدارة الجديدة في هذا المجال، حيث تسعى إلى تكريس سياستها العدوانية على المستوى الإقليمي بإدعاءات تتعلق بالأمن، وتواصل إدارة نتنياهو سعيها في فرض واقع ميداني من خلال عملياتها العسكرية وهجماتها المتكررة لضم المزيد من الأراضي السورية، واستخدام ورقة الأقليات وافتعال الأزمات الداخلية لمنع تحقيق أية نجاحات في ملفات الأمن والاقتصاد.
من المهم الإشارة إلى أن إسرائيل استحوذت على المنطقة العازلة التي تفصلها عن سوريا بعد أن تغيرت الحكومة في دمشق، وأنشأت بشكل غير قانوني نحو 10 قواعد عسكرية هناك. وصحيح أنه لم تُنفذ أي هجمات ضد إسرائيل من قبل سوريا في ظل النظام الجديد، إلا أن الجيش الإسرائيلي شن عشرات الهجمات على الأراضي السورية بهدف منع نقل الأسلحة إلى قوات حزب الله في لبنان. لكن ما يميز الهجوم الذي حدث في الثاني من أبريل هو ارتباطه بشكل مباشر أو غير مباشر بتركيا، حيث استهدف سلاح الجو الإسرائيلي مدرجًا وقاعدة رادار (قاعدة T4) الجوية قرب مدينة تدمر بسوريا، وفي الوقت ذاته، تعرض المطار العسكري في حماة لهجمات أيضًا، مما أسفر عن مقتل أربعة مسئولين سوريين. وقد تناولت العديد من وسائل الإعلام هذا الحدث على أن تركيا كانت الهدف الأساسي للهجوم الإسرائيلي، الذي يقوم بقصف مواقع مختلفة في سوريا دون توقف منذ الإطاحة بنظام الأسد، ورغم أن المسئولين الأتراك لم يصدروا أي تصريحات رسمية بشأن هذا الموضوع، إلا أن التقارير في وسائل الإعلام الغربية والإسرائيلية تشير إلى أن تركيا تفكر في إنشاء قواعد عسكرية في المواقع المعنية.
بالإضافة إلى ذلك، جاءت التصريحات الأكثر وضوحًا من وزير الخارجية الإسرائيلي "جدعون ساعر" ووزير الدفاع الإسرائيلي "كاتس" عندما أكدا أنهما "لن يوافقا على أن تعمل دول معادية لإسرائيل داخل سوريا. " وأعربت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن مسئولين من الأجهزة الأمنية الإسرائيلية عن التخوف والقلق الشديد تجاه الوجود التركي في سوريا. وفي الحقيقة، أفادت مصادر من وزارة الدفاع التركية بأن هناك جهودًا تعاونية قائمة مع الإدارة السورية الجديدة، بما في ذلك أنشطة تدريب، لتعزيز القدرة العسكرية للجيش السوري.
من المؤكد أنه توجد فرص للتعاون بين تركيا وسوريا في المجال العسكري، بالإضافة إلى العديد من المجالات الأخرى، مثل الطاقة، والبنية التحتية، والنقل وغيرها. حيث قام مسئولون من وزارة التجارة ووزارة الطاقة بزيارة سوريا في الآونة الأخيرة. وفي هذا السياق، فإن إنشاء قاعدة عسكرية مشتركة في المنطقة ضمن اتفاق مع سوريا وبدء أنشطة تدريب للجيش السوري الجديد بدعم من الجيش التركي هي من الأولويات العاجلة للنظامين التركي والسوري، ومن المحتمل أن تترجم هذه الأولويات على الأرض بطريقة عملية.
·رؤى تركيا وإسرائيل المتضاربة بشأن سوريا:
تتباين أهداف تركيا وإسرائيل في التعامل مع الأوضاع الراهنة في سوريا. حيث تعمل تركيا على دعم الحكومة السورية الجديدة وتعزيز القوات المسلحة السورية لاستعادة السيطرة على جميع الأراضي، مع التركيز على تقليل النفوذ الكردي، وخاصة القوى الانفصالية في الشمال والشرق. كما تسعى أنقرة إلى جعل سوريا عمقا استراتيجيا يساعد في حماية حدودها، بدلا من أن تكون مصدرا للتهديد. إضافة إلى ذلك، تعطي تركيا اهتماما كبيرا لعمليات إعادة الإعمار لما توفره من فرص اقتصادية تعمل على تحسين الأوضاع داخل سوريا وتشجع اللاجئين السوريين في تركيا على العودة، مما قد يساعد في تخفيف الضغوط السياسية المحلية على الحكومة ويقوي موقف حزب العدالة والتنمية ضد المعارضة. لذلك، تشعر أنقرة بقلق بالغ إزاء التدخلات الإسرائيلية في سوريا، وتعتبرها تهديدا لأمنها القومي. وترى الحكومة السورية الحالية أن تركيا هي أكثر الحلفاء إيجابية وموثوقية بين القوى الإقليمية، حيث تتشارك أهدافها مع سوريا لتحقيق الاستقرار الذي من شأنه تأمين وحماية الحدود السورية-التركية المشتركة، وتتفق كل من أنقرة ودمشق على ضرورة التنسيق وإزالة القيود على التعاون العسكري في استخدام الأجواء السورية في حالة حدوث أي توترات.
تناور تركيا من خلال أوراقهما في الصراع على الساحة السورية، حيث تمتلك تركيا أدوات ضغط فريدة لمواجهة النفوذ الإسرائيلي. من أبرزها تتمتع تركيا بعلاقات وثيقة مع القادة السوريين، حيث أسهمت تركيا في تشكيل وتمويل الجيش الوطني السوري منذ عام 2017، مما منحها نفوذًا كبيرا داخل الجيش السوري. كما تحتفظ تركيا بقواعد عسكرية في الشمال السوري، ومن المتوقع أن تعزز وجودها من خلال تسليح وتدريب الجيش السوري الجديد، مما يجعلها حليفًا رئيسيًا للدولة السورية في إعادة بناء قوتها العسكرية.
تقدم أنقرة دعما دبلوماسيا لدمشق في مواجهة إسرائيل، حيث سعى الرئيس التركي إلى إقناع نظيره الأمريكي بسحب القوات الأمريكية من شرق سوريا لموازنة الضغوط الإسرائيلية، وبالفعل شرعت الولايات المتحدة في17 أبريل الماضي بسحب مئات من قواتها من شمال شرقي سوريا، حيث أغلق الجيش الأمريكي 3 قواعد تشغيلية من أصل 8 في شمال شرقي سوريا ليصل عدد القوات في سوريا حاليا إلى نحو 1400 جندي. ونقلت نيويورك تايمز أن قرار خفض القوات الأمريكية في سوريا استند إلى توصيات قادة ميدانيين، وأوصوا بإبقاء 500 جندي أمريكي على الأقل في سوريا. وكانت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية قد نقلت عن مصادر، لم تسمها، قولها إن إسرائيل حاولت منع الانسحاب الأمريكي من سوريا لكنها فشلت في ذلك. كما تناور تركيا في صراعها مع إسرائيل على الساحة السورية مستفيدة من علاقة أردوغان الجيدة بالرئيس الأمريكي ترامب لرفع العقوبات عن دمشق لتقليل الضغوط الدولية وكذلك الإسرائيلية على سوريا، وقد آتت هذه التحركات بثمارها حيث أعلن الرئيس الأمريكي ترامب من الرياض في 13 مايو 2025 بأنه سيصدر الأوامر برفع العقوبات عن سوريا ليوفر لها فرصة للنمو، وأعلن ذلك بعد محادثات مع ولي العهد السعودي والرئيس أردوغان، ووفقا لصحيفة «يديعوت أحرونوت» ، أن نتنياهو تحدث مع ترامب في الموضوع السوري خلال زيارته إلى الولايات المتحدة أبريل الماضي، متخوفا من تمدد النفوذ التركي، وخطة أنقرة لإعادة بناء الجيش السوري من جديد، إلى ضمان مصالح إسرائيل وحتى رفع العقوبات، وأبدى نتنياهو امتعاضه من بعض التصريحات لترامب برفع العقوبات، ودعا إلى الحذر وعدم التسرع بوضع شروط على النظام الجديد في دمشق، مثل تغيير جوهري في العداء السوري لإسرائيل. وإن كان لا بد من رفع العقوبات، فليكن ذلك تدريجيا، وليس بشكل جارف. لكن إعلان ترامب رفع العقوبات من الرياض جاء في مصلحة تركيا ودول الخليج العربية ضد تحركات إسرائيل.
من ناحية أخرى، فإن إسرائيل تؤيد حكم البلاد بطريقة متفرقة وقابلة للسيطرة المادية، ولتحقيق هذه الغاية، فإنها تستهدف كل نقطة ضعف في البنية الهشة في سوريا؛ حيث إن الهجمات على القدرات العسكرية، والتلاعب بحساسيات المجتمع الدرزي، والنهج الإيجابي تجاه قوات سوريا الديمقراطية في الشمال ليست سوى أمثلة قليلة على هذه السياسة، وتسعى إسرائيل إلى إنشاء مناطق عازلة على الحدود الشمالية مع سوريا وتضمن حرية حركة طائراتها فوق الأجواء السورية. كما تهدف إلى تثبيت الوضع الجديد الذي فرضته ميدانيا من خلال التوصل إلى اتفاقيات تعمل على تعديل خط الحدود والمنطقة المنزوعة السلاح. هذه الاستراتيجية تهدف إلى تقليل النفوذ التركي داخل سوريا، وفرض قيود على علاقات سوريا الخارجية، ومنع أي نوع من التنسيق الإقليمي الذي قد يتعارض مع مصالح إسرائيل، ويمكن قراءة هذه النية في تصريحات نتنياهو حيث قال: "لن نسمح لأحد باستخدام سوريا لمهاجمة إسرائيل". وقد تم تفسير تصريحاته على أنها تكشف عن تحفظات إسرائيل بشأن أي جهة من شأنها تقييد مناوراتها الجوية، وأشار الخبراء الذين أدلوا بتصريحات حول هذا الموضوع إلى أن الحرية التشغيلية لسلاح الجو الإسرائيلي هى هدف وغاية بالنسبة لإسرائيل ولن تسمح بشئ من شأنه أن يعطل قدرتها على التحرك داخل الأجواء السورية.
تمتلك إسرائيل أدوات قوية لتعزيز مصالحها وإضعاف نفوذ تركيا في المنطقة، خاصة في الجنوب السوري، حيث نفذت إسرائيل عمليات جوية واسعة لتدمير القدرات العسكرية السورية، من خلال الهجمات المستمرة لتأكيد استمرارية السيطرة على الأجواء السورية. كما توسعت في الأراضي المحتلة قرب دمشق، وأعلنت منطقة أمنية بعمق 15 كيلومترا تضم تسع قواعد عسكرية، بالإضافة إلى منطقة نفوذ بعمق 65 كيلومترا داخل سوريا لمنع تركيا من توسيع نفوذها الاستراتيجي في سوريا، خاصة بعد الحديث عن نية أنقرة إرسال قوات إلى قواعد جوية. كما حاولت إسرائيل استغلال الورقة الكردية للضغط على أنقرة ودمشق، لكن اتفاق الرئيس الشرع مع قائد "قسد" في مارس الماضي أعاق تلك الجهود. لكنها نجحت في إثارة التوتر بين الدروز والحكومة السورية، وهدد نتنياهو بالتدخل لحماية الدروز، وأعلنت إسرائيل عن قيام علاقات مع الطائفة الدرزية ووزعت مساعدات إنسانية عليهم، ودعت أيضا إلى إنشاء "حلف أقليات" بين إسرائيل، والدروز، والأكراد. كما استخدمت إسرائيل علاقاتها الدولية للضغط على دمشق، مستفيدة من دعم واشنطن في استمرار العقوبات، وحث نتنياهو الولايات المتحدة على عدم التواصل مع حكومة الشرع لإبقائها ضعيفة.
·هل يمكن لأذربيجان أن تكون الوسيط في سوريا؟:
بعد هجمات الثاني من أبريل، تم إنشاء "محادثات آلية خفض التصعيد" بين تركيا وإسرائيل. وكما أفادت وسائل الإعلام، عُقد هذا الاجتماع في باكو. وأوضحت وزارة الخارجية التركية أن هذه المحادثات ستبقى ضمن "البعد التقني". لكن يبدو أن اسم أذربيجان، التي كانت جزءًا من الصراع في القوقاز لسنوات، سيظهر بشكل أكبر في الفترة المقبلة بفضل دورها كوسيط. فما الذي يعنيه أن أذربيجان تستضيف "اجتماعا فنيا" بين اثنتين من أقوى القوى الفاعلة في المنطقة؟
بعد انتهاء الحرب في ناجورنو قره باخ وتعزيز أذربيجان لمكانتها بدعم تركي، تسعى باكو لتوسيع نفوذها خارج القوقاز، خاصة في الملف السوري. وقد وسّعت أذربيجان دورها من خلال الوساطة بين إسرائيل وتركيا، مع تحركاتها الأخيرة خصوصا على صعيد التعاون في مجال الطاقة بين سوريا وأذربيجان، وما تلاها من ترتيبات أمنية واقتصادية في مناطق شرقي سوريا، مما أثار تساؤلات حول مغزى هذا الدور وحدوده.
قام نائب رئيس وزراء أذربيجان "سمير شريفوف" بزيارة رسمية إلى دمشق في الرابع من مايو الجاري، حيث التقى بالرئيس السوري " أحمد الشرع" بهدف تعزيز التعاون في مجالات إعادة الإعمار والاقتصاد والطاقة، وتعكس هذه الزيارة رغبة أذربيجان في الظهور كطرف مستقل يمكنه الدخول في قضايا كانت مخصصة سابقا للقوى الإقليمية الكبرى التي تلعب دورا في الملف السوري. كما تعكس هذه الزيارة جهود الحكومة الانتقالية الجديدة لكسر عزلتها السياسية وتقديم سوريا كوجهة إقليمية جاذبة حتى للقوى التي ليست مرتبطة تقليديا بالملف السوري. كذلك تسعي دمشق للحصول على دعم من أذربيجان في تطوير حقول النفط والغاز في شرق البلاد، حيث تم إجراء مناقشات مع شركة النفط الأذربيجانية (سوكار) للمساهمة في إعادة بناء بنية الطاقة، خاصة بعد اتفاق دمشق مع قوات سوريا الديمقراطية الذي منح الأولى السيطرة الإدارية على تلك الحقول. وتتمتع أذربيجان بخبرة طويلة في استثمار وتطوير قطاع النفط، تساوي خبرتها خبرات الدول الأوروبية، سواء كانت ذات صلة بإعادة هيكلة حقول النفط، أو تطوير أنابيب النفط، أو بناء محطات التكرير.
لا يمكن فهم التحركات الأخيرة لأذربيجان في سوريا بمعزل عن السياق الأوسع لوساطتها بين إسرائيل وتركيا. فقد كانت هذه الوساطة وسيلة لدخول أذربيجان إلى شبكة العلاقات في الشرق الأوسط، مع تقديم نفسها كـ "وسيط محايد" تجمع خلفيته الجيوسياسية بين الولاء الإقليمي لدولة تركيا من جهة، وعلاقات مستقرة مع إسرائيل من جهة أخرى، حيث استضافت أذربيجان اجتماعات بين مسئولين أتراك وإسرائيليين للحد من التوترات بين البلدين في سوريا. ركزت المحادثات على تأسيس آلية التنسيق لتفادي التصعيد، خصوصا وسط المخاوف الإسرائيلية من الوجود التركي في مناطق مثل تدمر. ورغم أهمية الاجتماع، لم يتم الاتفاق على خطوات نهائية لمنع التوترات بين الطرفين في سوريا، وتعكس هذه التطورات سعي أذربيجان للعب دور الوسيط الإقليمي بين تركيا وإسرائيل، مما يعكس تطلعاتها لتوسيع نفوذها السياسي والاقتصادي خارج حدود القوقاز. وتبرز طموحات أذربيجان هذه أبعادا استراتيجية أكبر، خاصة عندما ننظر في دورها المتنامي في مجالي النفط والغاز السوريين، مع تزايد الحديث عن "ترسيم جديد" للمصالح في الشرق الأوسط. بينما يبدو أن أذربيجان تسعى لمزيد من التعاون الاقتصادي، إلا أنها تهدف إلى استثمار موارد الطاقة كورقة لتعزيز مكانتها الإقليمية. ومن خلال هذه الرؤية نرى كيف تتحول قضية الطاقة السورية إلى منصة لإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية، أي إعادة توزيع النفوذ بين القوى الإقليمية الكبرى من خلال تحالفات جديدة أو مشاريع اقتصادية وأمنية تغير ملامح السيطرة التقليدية، وذلك في ظل سعي الحكومة الانتقالية السورية لكسر عزلة البلاد السياسية عبر مدخل اقتصاد الطاقة.
تظهر دلائل متكررة أن أذربيجان لا ترغب فقط في أن تكون وسيطا، بل تسعى لتعزيز وجودها في مجال الطاقة بسوريا، مستفيدة من تجربتها الطويلة في إدارة الموارد النفطية وعلاقاتها في المنطقة. وقد تناولت تقارير إخبارية رغبة شركات من أذربيجان بفرص الاستثمار في حقول النفط والغاز في شمال شرق سوريا. ورغم أن هذه الدلالات لا تزال في مرحلة التخطيط، إلا أن زيادة الاعتراف الدولي بدور أذربيجان كوسيط يفتح إمكانية أن تتحول باكو من مجرد وسيط سياسي إلى "وكيل نفطي" يساهم بشكل غير مباشر في إعادة تشكيل الاقتصاد السوري. هذا السيناريو مرتبط بالنزاع الأكبر على الموارد في شرق البحر المتوسط، حيث يُعتبر قطاع الطاقة السوري جزءًا من شبكة معقدة من المصالح بين روسيا، وتركيا، وإسرائيل. حيث يتيح دخول أذربيجان في هذا المجال فرصا لتكوين شراكات جديدة، لكنه أيضا قد يعيد إحياء صراعات قديمة حول التحكم في الموارد. كما تواجه هذه الطموحات عقبات قانونية وتشريعية، حيث تحتاج أي استثمارات جديدة في قطاع الطاقة السوري إلى إعادة النظر في النظام القانوني الحالي، مما يثير تساؤلات حول مستقبل الاتفاقات القديمة وحقوق الامتياز المتاحة. ويمكن فهم هذه العلاقة كنوع " التحالفات غير المتكافئة"، التي تشرح كيف تعتمد بعض القوى على حلفاء أصغر لحماية مصالحها أو التوغل في مجالات حساسة، حيث يتحمل الطرف الأضعف المخاطر في مقابل الحصول على دعم. في هذا الإطار، تلعب تركيا الدور الأساسي كقوة مهيمنة، تستثمر أذربيجان (كحليف أصغر لكن نشط) للدخول في أمور مثل قطاع الطاقة السوري، مما يمنح أنقرة فرصة لتوسيع نفوذها بشكل غير مباشر، دون إثارة حساسية سلبية كما يمكن أن يحصل لو كانت هي في الواجهة.
من جهة أخرى، تحقق أذربيجان فوائد متبادلة، ليس عبر تعزيز وضعها الاقتصادي فقط، بل أيضا من خلال تأكيد وجودها كلاعب إقليمي يُنظر إليه كشريك قادر على التوسع في مجالات جديدة. هذه العملية تُظهر كيف يُعاد تشكيل النفوذ الإقليمي عبر تحالفات غير متكافئة، مما يمكّن القوى الكبرى من التعامل مع أمور معقدة باستخدام أدوات مرنة وبتكلفة سياسية منخفضة.
من ناحية تحليلية أخرى؛ يمكن فهم توسع أذربيجان في إطار الوضع المعروف بـ "المثلث الجيو-اقتصادي" (باكو–أنقرة–تل أبيب)، الذي يعتمد على تبادل الفوائد الأمنية والاقتصادية، إذ توفر تركيا لأذربيجان دعما جيوسياسي وتفتح لها مجالات نفوذ، بينما تعمل إسرائيل كشريك استراتيجي في مجالات التكنولوجيا والطاقة، وتستخدم أذربيجان علاقاتها للحصول على أدوار جديدة في المنطقة. وهذا المثلث ليس حديث العهد، بل يعود إلى مشاريع كبيرة، مثل خط أنابيب باكو–تفليس–جيهان، الذي أسس شراكة استراتيجية في قطاع الطاقة بين الأطراف الثلاثة منذ التسعينيات. هذه الديناميكية توضح أن التحالف يتجاوز الظروف الحالية، ويؤسس نموذجا مستداما للتعاون الجيو-اقتصادي. بهذا الشكل، يتحول المثلث الجيو-اقتصادي (باكو–أنقرة–تل أبيب) من مجرد شراكة عابرة إلى آلية دائمة تعيد تشكيل قواعد اللعبة في المشهد السوري، من خلال دمج القوة في قطاع الطاقة بالأمن الإقليمي والسياسة العالمية.
يتداخل هذا المثلث مع تغيرات أكبر، حيث هناك تراجع لبعض القوى التقليدية، مثل إيران، وتراجع مؤقت لروسيا، وصعود أدوار جديدة مرتبطة بعمليات إعادة الإعمار والسيطرة على الموارد، مما يستدعي إعادة تقييم طبيعة المشروع بأكمله؛ فهل هو مجرد شراكة اقتصادية تركز على موارد الطاقة، أم هو جزء من نموذج جديد للهندسة الإقليمية، حيث يتم دمج أدوات الطاقة والاقتصاد مع الشبكات الأمنية لتحقيق أهداف سياسية أعمق. في هذا السياق، قد يصبح الوضع في سوريا تجربة لهذه الهندسة، نظرا لما يحمله من تعقيدات جيوسياسية وصراعات نفوذ متعددة.
ختاما؛ مستقبل سوريا:
إن التحالفات الجديدة التي تشكلت في هذه الفترة، مع تقليص الولايات المتحدة لعدد قواتها في سوريا، تشير في الواقع إلى التوازنات المتغيرة والمحتملة في ساحة دمشق. كما أن الدولة التي سيظهر تأثيرها بكل الطرق في هذه المعادلة هي إسرائيل. وسوف يتوقف مستقبل سوريا بشكل كبير على أن تقيم علاقات مع إسرائيل على أساس التفاهم الذي ستتوصل إليه،ويتوافق هذا الفهم مع وجهة نظر الرئيس السوري أحمد الشرع في مقابلته مع مجلة الإيكونوميست في مارس، حيث أشار إلى أن عملية التطبيع مع إسرائيل قضية حساسة، مستذكرا الحروب الماضية، لكنه أشار أيضا إلى أنه إذا أمكن ضمان دعم شعبه، فيمكن إيجاد أساس للتسوية مع جميع الأطراف في المنطقة.
تتباين أهداف تركيا وإسرائيل في سوريا، حيث تسعى تركيا لتحقيق الاستقرار وتعزيز مشروعها السياسي، بينما تهدف إسرائيل إلى إضعاف الدولة وتقسيمها. ويمتلك الطرفان أوراق قوة تؤثر على التنافس بينهما، مما يحدد مستقبل سوريا. ويبدو أن أنقرة تتمتع بميزة أكبر على الأرض، بينما تحاول إسرائيل تحقيق توازن في النفوذ من خلال علاقتها مع الولايات المتحدة، حيث تركز إسرائيل على تقاسم "الكعكة السورية" مع تركيا وإنشاء حزام أمني يضمن لها السيطرة على الجنوب السوري لتعزيز أمن مناطقها الشمالية ودعم خططها في لبنان. كما ترفض توسع الوجود العسكري التركي في وسط وجنوب سوريا، في حين تتجاهل وجوده في محافظتي إدلب وحلب الشماليتين. لذلك، يتوقع أن تشهد الفترة المقبلة صراعا متزايدا على النفوذ بين تركيا وإسرائيل.
إن البحث عن شراكة تجارية، والذي بدأ مع أذربيجان، يمكن أن يكون بمثابة مقياس مهم في استراتيجية السياسة الخارجية الجديدة للحكومة السورية. وحتى الآن، حافظت الإدارة الجديدة في دمشق على التوازن في المثلث القطري-السعودي-التركي، وهذا ما انعكس في حركة الزيارات التي تمت، وإذا أخذنا بعين الاعتبار التوازن الذي نلاحظه في هذه القنوات الدبلوماسية الجديدة التي أنشئت مع كل البلدان، فيمكن التأكيد على أن إنشاء هيكل دولة مستقل للنظام السوري هو المبدأ الأكثر أهمية على أجندتهم، وبالنسبة لتركيا، يبدو أن الخط الأحمر الرئيسي هو أن يسيطر هيكل الدولة الجديد في سوريا على أراضيه. وبهذه الطريقة، يمكن على المدى القصير أن تصبح الدولة السورية المهيمنة على أراضيها حليفا طبيعيا لتركيا في العديد من المشاريع الإقليمية الجديدة.
في هذا السياق، يبدو أن وجود أذربيجان الحالي في سوريا هو خطوة مدروسة، يتم تنفيذها تدريجيا ضمن توازنات دقيقة. لكنه يحمل في طياته فرصا لتغيير الوضع بما يتناسب مع تغيرات أكبر قد تحدث في المستقبل. حيث تسعى باكو إلى إثبات نفسها كطرف مهم في إعادة تشكيل طرق الإمداد، ليس فقط من خلال استثمارات مباشرة، ولكن أيضا من خلال دورها كحلقة وصل بين تركيا، والقوقاز، وإسرائيل. بهذا المعنى، يصبح وجود أذربيجان في سوريا جزءا من خطة أكبر تهدف إلى تغيير خريطة الطاقة في المنطقة، خصوصا مع تزايد أهمية مصادر الطاقة البديلة نتيجة الاضطرابات في سوق الغاز العالمية.
يمكن القول إن دور أذربيجان في سوريا لا يزال في مرحلة التطور، ويتأرجح بين وساطة سياسية تجعل باكو لاعبا موثوقا في المنطقة، وطموح اقتصادي يمكن أن يتوسع إذا توفرت الظروف المناسبة على الساحتين الدولية والمحلية، ويبقى التحدي الأساسي هو قدرة أذربيجان على الحفاظ على موقعها كطرف محايد، دون الانزلاق إلى أدوار صعبة قد تؤدي إلى تجدد الانقسامات الإقليمية التي قد تضر بالجميع.
في هذا الإطار، يبدو أن العلاقة الثلاثية بين أذربيجان، وتركيا، وإسرائيل تمثل نموذجا مناسبا لفهم كيف تتحول الشراكات الإقليمية إلى أدوات لإعادة تشكيل موازين القوة، مستفيدة من الفجوات الجيوسياسية والحاجة إلى لاعبين جدد لتحقيق التوازن. فهل نحن أمام مرحلة انتقالية مؤقتة في النفوذ الإقليمي، أم إننا نشهد تأسيسا لتحالفات قد تعيد رسم خريطة الشرق الأوسط لعدة عقود مقبلة؟
الهوامش:
[1]عمران طه عبدالرحمن عمران، العلاقات التركية-الإسرائيلية في الفترة من 2007 حتى 2011، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 2015، ص 33.
2 Humeyra Pamuk and Maya Gebeily, US gave Syria list of conditions for partial sanctions relief, sources say,at:https://linksshortcut.com/ZZdTH
3 FELICIA SCHWARTZ, ROBBIE GRAMER and ERIC BAZAIL-EIMIL, Should Syria get sanctions relief?, at: https://linksshortcut.com/ItOaq
4 Lucy Williamson, Israeli strikes in Syria a challenge to Turkey, at: https://linksshortcut.com/NNHsd
5 Israel kills 77 Palestinians, declares it will seize land in Gaza, at https://linksshortcut.com/IfRpq
6 Bakanımız Hakan Fidan, CNN Türk'te gündemi değerlendiriyo, https://linksshortcut.com/XqBPM
7 Turkey moves to take control of Syria's strategic T4 air base, at:
https://linksshortcut.com/KByLe
8 Israeli FM Gideon Saar accuses Türkiye of playing a negative role in Syria, Lebanon, at: https://linksshortcut.com/qznBK
9 Yunan Askerlerinin Hakaretine MSB'den Tepki!, NTV, at: https://linksshortcut.com/qVUCI
10 SUZAN FRASER AND IBRAHIM HAZBOUN, Turkey and Israel face mounting tensions over future of post-Assad Syria, at: https://linksshortcut.com/vDxNd
11- إسلام المنسي، سيناريوهات محتملة: إلى أين يتجه التنافس التركي على سوريا، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 22 أبريل2025، على الرابط: https://linksshortcut.com/NyZWd
12- الجيش الأمريكي يسحب مئات الجنود من سوريا، الجزيرة، 14 أبريل 2025، على الرابط: https://linksshortcut.com/rChBD
13- إسرائيل حاولت تغيير قرار ترامب رفع العقوبات عن سوريا ( لكنه لم يكترث)، الشرق الأوسط، 14 مايو 2025، على الرابط: https://linksshortcut.com/YnTPU
14 Mustafa Abu Ganeyeh, Druze religious elders from Syria make historic visit to Israel, at: https://linksshortcut.com/NwIfq
15ANDREW WILKS, Turkey and Israel hold talks to avoid accidental conflict in Syria, at: https://linksshortcut.com/vDxNd
16 Carlotta Gall, Turkey and Israel Aim to Avoid Clashes in Syria as Tensions Rise,at: https://linksshortcut.com/DYyOn
17 Israel’s UN envoy defends strikes in Syria ahead of Security Council meeting, at: https://linksshortcut.com/dXkwQ
18 ABD askerleri, Suriye'nin kuzeydoğusunda 3 askeri noktayı, At: https://linksshortcut.com/osbXe
19- إسلام منسي، مرجع سابق.
20Erdoğan ve Netanyahu ilk kez yüz yüze görüştü: 'Kravatlarımızın benzerliği ikili ilişkilerin geliştiğinin göstergesi', at: https://linksshortcut.com/YPyso
21SORUDA - Azerbaycan-İsrail arası diplomatik temaslar, at: https://linksshortcut.com/TtHHR
22 Israel is not looking for conflict with Turkey in Syria, senior Israeli official says, at:https://linksshortcut.com/gDwNk
23 Syria after Assad - Latest news, https://linksshortcut.com/RjMCd
24- أيمن طلال يوسف، محمود الفطافطة، إسرائيل وأذربيجان: البدايات وآفاق الشراكة الاستراتيجية، قضايا أوراسية، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، د ت، عدد79، ص ص110-111.
25- مالك الحافظ، النفط والوساطة أدوات أذربيجان لبناء نفوذ هادئ في سوريا، تلفزيون سوريا، 7 مايو 2025، على الرابط: https://linksshortcut.com/NcoLJ
26- أذربيجان الجسر السري بين إسرائيل والعالم الإسلامي، الجمهورية الثانية، 11 أبريل 2025، على الرابط: https://linksshortcut.com/mlaEN
27- إيران تدرس خياراتها فيما تتقرب أذربيجان من إسرائيل والولايات المتحدة، أمواج ميديا، 14 مايو 2025، على الرابط: https://linksshortcut.com/bspRS
28- مالك الحافظ، مرجع سابق.
29- إيران تدرس خياراتها فيما تتقرب أذربيجان من إسرائيل والولايات المتحدة، مرجع سابق.
30 Syria's new president, Ahmed Al-Sharaa,at: https://linksshortcut.com/hxXdi