مقالات رأى

نتائج زيارة ترامب للخليج وخرائط الشرق الأوسط

طباعة

جاءت الزيارة الأخيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى دول الخليج لتشكّل لحظة مهمة في إعادة صياغة التوازنات الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط، حيث تجاوزت أبعادها الأطر التقليدية للعلاقات الثنائية، واتّسعت لتشمل ملفات شديدة التعقيد والحساسية، منها ما يتصل بإعادة رسم خريطة النفوذين السياسي والعسكري، ومنها ما يتعلق بإعادة هيكلة التحالفات وفتح قنوات تواصل كانت مغلقة لعقود.

التنسيق الإقليمي وتفاهمات مغلقة:

في مشهد غير مسبوق، شهدت القمة الخليجية-الأمريكية المنعقدة في الرياض سلسلة من المداخلات الهاتفية التي عبّرت عن تحولات لافتة في العلاقات الإقليمية. فقد شارك الرئيس السوري أحمد الشرع، لأول مرة منذ عقد من الزمان، بمداخلة عبر الفيديو، في لقاء ثلاثي ضم ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وبمشاركة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي تدخل هو الآخر عبر الفيديو من أنقرة. وأُشير في وسائل إعلام أمريكية (مثل نيويورك تايمز وبلومبيرج) إلى أن هذه المداخلات كانت بمثابة تمهيد لصيغة تفاهم جديدة حول الملف السوري، تُراعي مصالح مختلف الأطراف.

كما أجريت خلال القمة مكالمة هاتفية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تم خلالها مناقشة الخطوات المقبلة في قطاع غزة، ومقترحات أمريكية بشأن "تحييد" حماس سياسياً وعسكرياً. وجاءت هذه المكالمات في سياق محاولة واشنطن لتنسيق موقف موحّد من ملفات شائكة، لا سيما الصراع في غزة، والملف النووي الإيراني، والتطبيع مع دمشق، وهي ملفات تتقاطع فيها مصالح متضاربة وتحالفات متشابكة.

 إيران وإسرائيل.. صراع الرؤى وسباق النفوذ:

جاءت زيارة ترامب في لحظة دقيقة من التوتر المتصاعد بين طهران وتل أبيب، وتقاطعت خلالها محاولات تهدئة مع تحركات صقورية من الطرفين. فعلى الرغم من انخراط الولايات المتحدة في مفاوضات غير مباشرة مع طهران –بتنسيق عماني وسعودي– فإن الإدارة الأمريكية لم تتخلّ عن التزاماتها تجاه أمن إسرائيل، بل قدّمت في مسقط (11 مايو) مقترحًا نوويًا جديدًا لإيران، وأعلنت لاحقًا من الدوحة أن طهران أبدت تجاوبًا مبدئيًا مع بعض بنوده. وفي الوقت نفسه، واصلت إسرائيل الضغط على واشنطن لربط أي اتفاق نووي بتقليص نفوذ الحرس الثوري في سوريا والعراق، وتفكيك شبكة الصواريخ الدقيقة في لبنان واليمن، وهو ما تصفه تقارير استخباراتية (مثل "معهد واشنطن") بأنه شرط إسرائيلي غير قابل للتفاوض. وتكمن المفارقة في أنّ إسرائيل، على الرغم من صلابتها العلنية، شاركت عبر وفد أمني رفيع المستوى في لقاءات غير مباشرة مع الوفد الأمريكي في الدوحة، بالتزامن مع وجود وفد حماس، ما اعتبرته بعض الصحف العبرية (مثل "هآرتس") تحوّلًا في تكتيك التعامل مع غزة.

ملف غزة.. جدلية التهدئة والإدارة:

أُدرج ملف الحرب في غزة ضمن الأولويات القصوى لزيارة ترامب، حيث عبّر عن رغبته في "تملك" إدارة القطاع تحت إشراف أمريكي مباشر بعد الحرب، وتحويله إلى منطقة اقتصادية حرة تشبه "ريفييرا الشرق الأوسط"، وفق تعبيره في مؤتمر صحفي في الدوحة. لكنّ هذا الطرح قوبل برفض خليجي واسع، إذ شدّدت السعودية وقطر والإمارات على ضرورة إعادة إعمار غزة ضمن خطة عربية شاملة، دون المساس بحقوق السكان أو فرض إدارة أمريكية مؤقتة، وهي مواقف عبّر عنها وزير الخارجية السعودي خلال الجلسة الختامية للقمة الخليجية. وتشير مصادر إعلامية إلى أنّ زيارة ترامب شهدت اجتماعات مغلقة في الدوحة مع المبعوث الأمريكي لشئون المحتجزين، وممثلين من حماس، جرت بمشاركة قطرية، وناقشت سبل التوصل لوقف إطلاق نار شامل، وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين. وقد رحّب ترامب بالتقدم الحاصل، وأكد أن "الحل في غزة بات قريباً".

الملف السوري.. إعادة تدوير النظام أم إعادة هيكلته؟

من أبرز مفاجآت الجولة الخليجية لترامب لقاؤه العلني بالرئيس السوري أحمد الشرع، في جلسة حضرها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وبمشاركة افتراضية للرئيس التركي. وخلال هذا اللقاء، أعلن ترامب رفع جميع العقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا منذ 2011، في خطوة وصفها مراقبون بأنها انقلاب جذري في السياسة الأمريكية تجاه دمشق. ويبدو أن الانفتاح على سوريا جاء ثمرة وساطة سعودية- تركية، مدفوعة بتوجه خليجي لإعادة إدماج دمشق في النظام الإقليمي، لا سيما بعد ما وصفته تقارير أمنية بتراجع النفوذ الإيراني العسكري في جنوب سوريا، وزيادة التنسيق الاستخباري السوري-التركي لمواجهة خلايا داعش. ووفق ما أوردته وكالة رويترز، فإن تطبيع العلاقات بين واشنطن ودمشق قد يؤدي إلى تقليص الهجمات الإسرائيلية المتكررة على مواقع سورية، خاصةً مع توسيع التعاون الروسي-السوري في مجال الدفاع الجوي.

تطبيع بنَفَس جديد:

أعادت جولة ترامب إحياء ملف "الاتفاقيات الإبراهيمية"، مع ضغوط أمريكية مباشرة للانضمام رسميًا إلى هذه الاتفاقيات، وهو ما لم يتحقق بعد، لكنّ المواقف السعودية بدت أكثر ليونة من ذي قبل. الجديد في هذه الجولة هو طرح فكرة انضمام سوريا إلى الاتفاقيات، وهو ما وصفه ترامب بـ"خطوة مستقبلية ضرورية لاستقرار الشرق الأوسط". وخلال لقائه مع الرئيس السوري، شدّد ترامب على أنّ انضمام دمشق إلى الاتفاقيات يمكن أن يكون مدخلًا لإنهاء عزلة سوريا الدولية، وفتح المجال أمام استثمارات أمريكية وخليجية ضخمة في البلاد. وقد تحفظت مصادر سورية على هذه الفكرة، لكنها لم تنف وجود نقاشات غير مباشرة بشأنها، عبر وساطة روسية-تركية.

 التحالف ضد الصين.. احتواء ناعم ولكن حازم:

حرص ترامب خلال زيارته على الضغط – بشكل ناعم أحيانًا وحازم أحيانًا أخرى – على دول الخليج لتقليص علاقاتها المتنامية مع الصين، خاصة في مجالات التكنولوجيا والدفاع والطاقة. ونتج عن ذلك توقيع اتفاقيات ضخمة مع السعودية والإمارات في مجالات الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة، إضافة إلى إنشاء "أكبر مجمع ذكاء صناعي إماراتي-أمريكي" في أبوظبي. الهدف الأمريكي واضح، ألا وهو تحويل الشراكة الخليجية من بكين إلى واشنطن، ليس فقط على المستوى الاستثماري، ولكن على مستوى إعادة تشكيل نظام تحالفات يتجاوز الناتو التقليدي، وربما يؤسس لتحالف "ناتو عربي-أمريكي" مستقبلي.

وساطات بين موسكو وكييف:

لم تغب الحرب الروسية-الأوكرانية عن أجندة الجولة، حيث سعى ترامب لتوظيف المكانة المتنامية للدبلوماسية الخليجية في تقريب وجهات النظر بين موسكو وكييف. فقد نجحت دولة الإمارات في التوسط خلال 15 عملية تبادل أسرى، كما استضافت السعودية لقاءات سرية بين مسئولين أمريكيين وروس، في محاولة لإحياء المسار التفاوضي المتعثر. وفي خطابه في الرياض، شدد ولي العهد السعودي على التزام المملكة بـ"دعم جهود إحلال السلام في أوكرانيا"، فيما أشاد ترامب بوساطة قطر "في مناطق متعددة من العالم"، في إشارة إلى قدرة الخليج على لعب أدوار تفوق أوزانه العسكرية.

  ختاما: بين الخرائط القديمة والحدود الجديدة:

كشفت زيارة ترامب للخليج عن ديناميكيات متسارعة تعيد تشكيل المنطقة في ضوء توازنات ما بعد الاتفاق النووي، وصراع المحاور الإقليمية، وعودة سوريا إلى الحظيرة، وإعادة تعريف الدور الأمريكي نفسه. وإذا كانت الزيارة قد حققت بعض المكاسب الاقتصادية الفورية، فإن آثارها السياسية والاستراتيجية قد تكون أعمق وأطول مدى، خصوصًا مع الدفع الأمريكي لتقليص الاعتماد الخليجي على الصين، والعودة إلى "الظل الأمريكي"، وإنْ بصيغة جديدة أكثر مرونة وشراكة. ويبدو أن الشرق الأوسط بصدد الدخول في مرحلة جديدة من إعادة تشكيل النفوذ.

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. نجلاء سعد البحيري

    د. نجلاء سعد البحيري

    باحثة في الشئون الإقليمية، مدرس بجامعة قناة السويس